تعيش سوريا حاليا أجواء مرحلة انتقالية تستهدف وضع الدعائم الأساسية لنظام سياسي جديد، فهل سينجح هذا البلد العربي المهم في إقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي، أم أنه محكوم عليه بأن يلقى المصير نفسه الذي لقيته بلدان عربية أخرى كانت شعوبها قد تمكّنت من الإطاحة برؤوس أنظمتها المستبدة، لكنها عجزت في الوقت نفسه عن إقامة أنظمة حكم أقلّ استبداداً من النظم التي جرت الإطاحة بها؟
للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتعرّف أولاً إلى خصوصية الدولة والمجتمع في سوريا، وإلى طبيعة التحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجههما في المرحلة الراهنة.
فسوريا الدولة عضو مؤسّس في جامعة الدول العربية، ولها حدود جغرافية طويلة مع دولتين غير عربيتين، لكلّ منهما مشروع إقليمي لا يستهدف الهيمنة على المنطقة فحسب، وإنما التوسّع داخل الأراضي السورية نفسها. ولأنها تقع في قلب «الشام التاريخي»، الذي يضمّ لبنان والأردن وفلسطين المحتلة، وتعدّ جزءاً لا يتجزّأ من «الهلال الخصيب»، الذي يضمّ العراق أيضاً، وتتميّز بموقع جغرافي فريد وبعمق حضاري يضرب بجذوره في أعماق التاريخ، فقد كان من الطبيعي أن تتحوّل سوريا إلى محرّك رئيسي للعديد من التفاعلات التي اجتاحت المنطقة في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ففي نهاية أربعينيات القرن الماضي، انطلق منها أول انقلاب عسكري في المنطقة، وفي نهاية الخمسينيات أصبحت «قلب العروبة النابض» على الصعيدين الفكري والحركي، بإصرارها على الوحدة الاندماجية مع مصر عام 1958، لكنها تسبّبت في انتكاسة الحركة القومية العربية في الوقت نفسه، حين سارعت بالانفصال عن مصر عام 1961، ثم عادت وخاضت إلى جانب مصر حرباً منسّقة ضدّ «إسرائيل» عام 1973، لكنها رفضت في الوقت نفسه أن تسير مع مصر على طريق اتفاقيات التسوية وأصبحت أهم ركائز «محور المقاومة».
اليوم، وبعد انهيار نظام الأسد، تبدو سوريا دولة مهيضة الجناح وناقصة السيادة. فتركيا و«إسرائيل» تحتلّان مناطق شاسعة فيها، ولكلّ من الولايات المتحدة وروسيا قواعد جوية على أراضيها أو بحرية في موانئها، وعلاقتها بمعظم الدول العربية ليست على ما يرام وأضحت في حاجة ماسّة إلى ترميم.
ولكي تتمكّن السلطة المسؤولة عن إدارة المرحلة الانتقالية في سوريا من مواجهة كلّ هذه التحدّيات، يتعيّن عليها أن تبدأ أوّلاً بحسم قضية الهوية والانتماء، باعتبارها المدخل الطبيعي لتحقيق الاستقلال الذي يعدّ بدوره مصدر الشرعية بالنسبة لأيّ نظام سياسي يدّعي أنه يتحدّث باسم شعبه.
أما المجتمع السوري فيتكوّن من جماعات بشرية متعدّدة الأديان والطوائف والعرقيّات، حيث يتشارك فيه مسلمون ومسيحيون، عرب وكرد، سنة وشيعة ودروز وعلويون...إلخ، ومن ثم فهناك حاجة ماسّة إلى العثور على صيغة مشتركة تمكّن هذه الجماعات المختلفة من التعايش معاً. ولأنّ القوى المجتمعية والسياسية التي عارضت نظام الأسد، وتمكّنت في النهاية من الإطاحة به بقوة السلاح، تعاملت معه باعتباره نظاماً يرتكز على الطائفة العلوية وحدها ويهمّش الآخرين، وبالتالي يستخدم صلاحياته وسلطاته في الإغداق على الطائفة العلوية ومنحها امتيازات كثيرة تحرم منها المكوّنات المجتمعية الأخرى، فلن يكون بمقدور النظام الجديد الذي يجري التأسيس له في المرحلة الانتقالية الحالية، أن يتمتّع بشرعيّة مجتمعيّة إلّا إذا قام على أساس المواطنة الكاملة التي تتيح لكلّ مواطن أن يحصل على حقوق متساوية مع الآخرين، من دون تمييز يستند إلى الدين أو العرق أو الطائفة أو المذهب.
يلفت النظر هنا أنّ الخطاب السياسي والأيديولوجي الذي يتبنّاه أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقاً)، الذي يتصرّف الآن باعتباره الرئيس الفعلي للدولة السورية، ليس تصالحياً فحسب، لكنه يبدو شديد الاعتدال في الوقت نفسه، خصوصاً إذا ما قورن بالخطاب التقليدي لزعماء تيار السلفية الجهادية. ففي حديث أدلى به لقناة «العربية»، أكد الشرع أنه يقف على مسافة واحدة من كلّ القوى والتيارات السياسية والإيديولوجية، وكذلك من كلّ الأديان والطوائف، بما في ذلك الطائفة العلوية التي ينتمي إليها النظام السابق.
كما أكد أنّ جميع القوى والتيارات السياسية والفكرية في المجتمع السوري ستوجّه إليها الدعوة للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي يجري الإعداد له حالياً.
وأنّ هذا المؤتمر سيكون وحده الجهة المخوّلة باتخاذ كلّ القرارات المطلوبة لإدارة المرحلة المقبلة، بما في ذلك انتخاب أعضاء اللجنة التي ستكلّف بصياغة دستور جديد للبلاد أو بتعديل الدستور الحالي، وبما يتفق وتطلّعات الشعب السوري بجميع فئاته ومكوّناته السياسية والفكرية والاجتماعية.
كما أضاف أنّ مؤتمر الحوار الوطني سيتخذ قرارات تكفل حلّ جميع قوى المعارضة التي حملت السلاح ضدّ النظام السابق، بما في ذلك هيئة تحرير الشام التي يقودها بنفسه، وأنّ المرحلة الانتقالية ستعتمد في إدارتها على أصحاب الكفاءة والخبرة، وليس على المحاصصة والتوازنات السياسية والطائفية، لأنّ الفرق كبير من وجهة نظره بين المشاركة والمحاصصة، وسترتكز في قراراتها على مبادئ الرحمة والعدالة والتسامح، وليس التشفّي والانتقام والظلم، مؤكداً أنه لن يقدّم للعدالة سوى فلول النظام القديم، خصوصاً القادة الذين أصدروا أوامر بارتكاب المذابح وأصبحت أيديهم ملطّخة بدماء الشعب السوري.
أما على صعيد السياسة الخارجية، فقد أكّد الشرع أنه منفتح على دول العالم كافة، خاصة دول الإقليم والجوار الجغرافي، بما في ذلك إيران، وأنّ المصلحة السورية ستكون وحدها المحرّك الرئيسي لتوجّهات وبوصلة السياسة الخارجية التي ستنتهجها سوريا الجديدة مع كل دول العالم، بما في ذلك روسيا التي يقول الشرع إنه يحرص على أن يكون خروجها من سوريا، إن كانت هناك ضرورة لهذا الخروج، بشكل كريم ولائق وبما يتسق مع العلاقات الاستراتيجية التي ربطت بين الشعبين الروسي والسوري في مراحل تاريخية مختلفة.
لا شكّ أنّ حديث الشرع اتسم بالهدوء والعقلانية وعكس قدراً كبيراً من النضج السياسي والذكاء والثقة بالنفس، وابتعد تماماً عن الديماجوجية والنرجسية، لكنه لم يتمكّن رغم ذلك من تبديد كلّ مشاعر القلق والمخاوف، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:
أولاً: لأنّ الفترة الانتقالية التي يقترحها تبدو طويلة أكثر مما ينبغي، وقد لا تقلّ عن خمس سنوات كاملة. فهو يعتقد أن إعداد دستور يليق بسوريا الجديدة، سواء تعلّق الأمر بكتابة دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي، يحتاج إلى ما لا يقلّ عن ثلاث سنوات، وهي فترة تبدو لنا مبالغ فيها كثيراً.
صحيح أنه يبرّر ذلك بالحالة البائسة التي يبدو عليها النظام السياسي السوري في طوره الراهن، وبوجود ثغرات كبيرة في الدستور الحالي مكّنت النظام السابق من ارتكاب تجاوزات كثيرة، غير أنّ الإشكالية لا تتعلّق هنا بالنصوص الدستورية، التي يسهل على أي نظام مستبد أن ينتهكها مهما بلغت درجة إحكامها، بقدر ما تتعلّق بالتوازنات السياسية والاجتماعية التي تكفل صيانة واحترام الدستور، وتحول دون انتهاكه أو الخروج عليه من جانب أيّ سلطة مهما تضخّمت صلاحياتها، ما يعني أننا هنا إزاء إشكاليّة سياسية وليست قانونية أو نصّية. كما لا يتوقّع الشرع، على صعيد آخر، إجراء أيّ انتخابات في سوريا قبل أربع سنوات.
صحيح أنه برّر ذلك باعتبارات موضوعية، أهمها أنّ نصف الشعب السوري يعيش الآن لاجئاً خارج البلاد، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يتعرّف بدقّة إلى أعداد الناخبين، غير أن الفترة المقترحة للتعداد تبدو بدورها أطول مما ينبغي. ولأنّ تصرّفات الشرع توحي بأنه أصبح الرئيس الفعلي للبلاد ليس خلال مرحلة تصريف الأعمال فحسب، وإنما طوال المرحلة الانتقالية، فليس لهذه التصرّفات من معنى سوى أنه يسعى لحكم البلاد عدة سنوات من دون سند من الشرعية.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك