استجابة لضغوط شديدة ومستمرة من الصهاينة الأمريكيين في البيت الأبيض في عهد الرئيس السابق جو بايدن، ومن بعض أعضاء الكونجرس الصهاينة، اضطرت أعرق جامعة حديثة في امريكا، وهي جامعة هارفرد إلى الرضوخ لهذه الضغوط العاتية، التي تتمثل في اعتماد تعريف جديد مُحدد خاص بالجامعة لمصطلح «معاداة السامية». كما أن من تداعيات الضغط الأمريكي الصهيوني أيضاً استقالة رئيسة الجامعة في يناير 2024 «كلايداين جاي» (Claudine Gay) بعد جلسة استماع شرسة وقاسية لمجلس النواب ضد هذه الرئيسة.
وهذا الرضوخ المذل جاء من خلال دعوة قضائية رفعتها مجموعتان طلابيتان يهوديتان في جامعة هارفرد في محكمة اتحادية في مدينة بوسطن بولاية ماساشوستس التي تقع فيها الجامعة. وتتلخص القضية المرفوعة في عدة اتهامات منها انحياز الجامعة نحو القضية الفلسطينية والسماح لأنشطة معادية للسامية في الحرم الجامعي، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، وإجهاض حقوق الطلبة اليهود والتمييز ضدهم ومحاربتهم في الحرم الجامعي وإبداء الكره لهم.
ولذلك توصلت الجامعة إلى تسوية مع الجماعات والمنظمات الطلابية اليهودية التي رَفعت القضية ضد الجامعة حول معاداة السامية في 21 يناير 2024. ومن بين بنود التسوية تَبَني الجامعة لأحد التعريفات الموجودة حالياً حول معاداة السامية، وإضافة بعض البنود الجديدة عليه. أما التعريف الذي اعتمدته الجامعة، وهو الأكثر شيوعاً واستخداماً حول العالم، فهو تعريف «الائتلاف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة» (International Holocaust Remembrance Alliance)، الذي صدر تحت عنوان: «التعريف العملي لمعاداة السامية». وهذا التعريف معتمد في 45 دولة حول العالم، و37 ولاية أمريكية، إضافة إلى وزارة الخارجية والتربية، بحسب الأمر التنفيذي الذي صدر من البيت الأبيض عام 2019 باعتماد هذا التعرف في التحقيقات المتعلقة بمعاداة السامية. فهذا التعريف العملي الذي تم إقراره في 26 مايو 2016 في «بوخارست» من قِبَل تحالف ولجنة يهودية دولية ينص على أن: «معاداة السامية هي تصور معين لليهود، والذي يمكن التعبير عنه على أنه كراهية لليهود. فيتم توجيه المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية تجاه الأفراد اليهود أو غير اليهود و/ أو ممتلكاتهم، وتجاه مؤسسات المجتمع اليهودي والمرافق الدينية».
كذلك من بين بنود تسوية قضية الجامعة مع المجموعات الطلابية اليهودية، وهذا يعتبر في تقديري من البنود الخطرة جداً لأنها تساوي بين اليهود والصهاينة، وبين اليهودية كدين، والحركة الصهيونية العالمية العنصرية التوسعية كفكرة ومبدأ، والتي لا تعترف بحق الفلسطيني في أرضه ووطنه، وتعمل على تهجيره كلياً، إضافة إلى السعي وراء إنشاء «إسرائيل الكبرى» التي تضم دولا عربية أخرى، مثل الأردن ولبنان وجزء من مصر وسوريا أيضا. ومن أجل تنفيذ هذا البند من التسوية، تضطر الجامعة إلى نشر بيان صريح يقول فيه: «للكثير من الناس اليهود، الصهيونية هي جزء من هويتهم اليهودية»؛ أي أن الجامعة بحسب هذا التوجه الجديد، لا تميز ولا تفرق بين اليهود والصهاينة، فكما هو محظور التمييز ضد اليهود في الجامعة، فيمنع في الوقت نفسه التمييز ضد إسرائيل كدولة والصهيونية كفكرة عالمية، ويحظر انتقاد الصهاينة ودولة إسرائيل.
ومن البنود أيضاً تقديم توضيحات وأمثلة لمعاداة السامية يتم فيها التركيز على الصهاينة ودولة إسرائيل، منها «عدم اتهام إسرائيل بازدواجية المعايير، أو وصف إنشاء إسرائيل بأنه «مسعى عنصري». ففي المجمل يُقدم التعريف أكثر من 11 مثالاً ونموذجاً على معاداة السامية، منها 7 أمثلة تُركز على «دولة إسرائيل»، وهو ما يعني في الواقع استغلال هذا التعريف لمنع وحظر أي انتقاد للممارسات الصهيونية من قَبْلْ، أو اليوم، والمتمثلة في الهجمات الوحشية التي نشهدها اليوم على غزة، وتشريد الملايين من أهل غزة، وقتل أكثر من 47 ألفا وجرح قرابة 110 آلاف، وهدم المواقع الأثرية التاريخية التراثية للإنسانية جمعاء. فكل هذه الإبادة الجماعية للبشر والحجر والشجر لو تم انتقادها يعني في نظر هذا التعريف معاداة للسامية، وكراهية لليهود ودولة إسرائيل وعدم الاعتراف بحقها في الدفاع عن نفسها والعيش بسلام وحقها في تقرير المصير. ولذلك طوال العقود الماضية بسبب مثل هذا التعريف وتجريم معاداة السامية، نجح الكيان في الإفلات من العقاب، وعدم محاسبته وملاحقته على جرائمه ضد الإنسانية على المستويات كافة.
ولذلك فإن التركيز في تعريف هارفرد لمعاداة السامية في اعتبار معادة الصهيونية هي كمعاداة السامية، يعني توسيع دائرة «معادة السامية»، وبالتالي تضييق حدود حرية الرأي والتعبير، وهذا التوجه الجديد، والسياسة المتبعة تتماشى مع سياسة الحكومة الاتحادية في اعتبار معاداة الصهيونية معاداة للسامية، وجريمة يعاقب عليها القانون الأمريكي. فقد صادق الكونجرس الأمريكي ممثلاً في مجلس النواب في 6 ديسمبر 2023 على قرار ينص بأن «معاداة الصهيونية هي معاداة للسامية». وفي تقديري، فإن هناك خطوة أخيرة ستضاف إلى الخطوات السابقة، وستكون «معاداة الكيان الصهيوني جريمة كمعاداة السامية والصهيونية»، وهذا التوجه المستقبلي يعتمد على أساس أن «دولة إسرائيل» كيان مقدس من شعب الله المختار ولا يجوز انتقاده، ولا إبداء الرأي حول سياساته، وممارساته وجرائمه التي استمرت نحو 80 عاماً، وبذلك يكون الكيان قد نال الغطاء الدولي الشرعي الذي يمنع أي أحد، سواء أكان فرداً، أو منظمة أممية حقوقية وإنسانية، أو دولة من ملاحقة تعدياته، أو محاسبته ومعاقبته على أي خطأ، أو جريمة مهما كان نوعها. وأخيراً من ضمن هذه الخطة هي تعميم مثل هذه القوانين على كل دول العالم.
وأمام هذه الضغوط الصهيونية لإعطاء غطاء وشرعية دولية لممارسات الصهاينة، هناك جهود ضعيفة ومحاولات بسيطة لا ترقى إلى قوة ونفوذ واتساع سلطة الجانب الصهيوني الآخر. ومن هذه الجهود الخطاب الموجه إلى الأمين العام للأمم المتحدة في 4 أبريل 2023 من 100 منظمة لرفض عدد من التعريفات لمعاداة السامية، لأنها تُستغل من قبل الصهاينة ومن والاهم واتبع خطاهم لإلقاء التهمة البغيضة لكل من ينتقد الكيان الصهيوني بأنه يعادي اليهود والسامية.
وقد نُشر الخطاب تحت عنوان: «حقوق الإنسان ومجموعات المجتمع المدني الأخرى تحث الأمم المتحدة على احترام حقوق الإنسان في الحرب ضد معاداة السامية». ومثل هذه الجهود الخيَّرة لمقاومة تيار الصهاينة الجارف الشديد القوة، والواسع النفوذ يجب أن يُدعم بقوة من قبل الحكومات، والمنظمات العربية والإسلامية، إضافة إلى المنظمات الإنسانية والمعتدلة حول العالم والمجموعات اليهودية التي تقف ضد الصهيونية.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك