العدد : ١٧١١٤ - الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١١٤ - الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

رسائل السماء.. ووحدة الأديان في أسبوع الوئام العالمي

بقلم: نبيلة رجب

الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

في‭ ‬مطلع‭ ‬فبراير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬يجتمع‭ ‬العالم‭ ‬للاحتفاء‭ ‬بأسبوع‭ ‬الوئام‭ ‬العالمي‭ ‬بين‭ ‬الأديان،‭ ‬محطة‭ ‬سنوية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬التأمل‭ ‬في‭ ‬القواسم‭ ‬الإنسانية‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬العقائد‭ ‬والطقوس‭. ‬مناسبة‭ ‬تتحرر‭ ‬من‭ ‬كونها‭ ‬حدثا‭ ‬مؤقتا،‭ ‬بل‭ ‬دعوة‭ ‬عملية‭ ‬لترجمة‭ ‬القيم‭ ‬السماوية‭ ‬الجامعة‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬ملموس‭ ‬يعزز‭ ‬السلام‭ ‬والتقارب‭ ‬بين‭ ‬الأفراد‭.‬

تتجلى‭ ‬وحدة‭ ‬الرسالات‭ ‬السماوية‭ ‬في‭ ‬تعاليمها‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬تؤكد‭ ‬كرامة‭ ‬الإنسان‭ ‬وقيمة‭ ‬التراحم‭. ‬فعندما‭ ‬قال‭ ‬سيدنا‭ ‬عيسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭: ‬‮«‬طوبى‭ ‬لصانعي‭ ‬السلام،‭ ‬لأنهم‭ ‬أبناء‭ ‬الله‭ ‬يدعون‮»‬،‭ ‬كان‭ ‬يرسخ‭ ‬مفهوما‭ ‬عالميا‭ ‬للسلام‭ ‬يتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬الانتماء‭ ‬الديني‭. ‬وجاء‭ ‬تأكيد‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬النبوي‭ ‬الشريف‭: ‬‮«‬لا‭ ‬يؤمن‭ ‬أحدكم‭ ‬حتى‭ ‬يحب‭ ‬لأخيه‭ ‬ما‭ ‬يحب‭ ‬لنفسه‮»‬،‭ ‬ليضع‭ ‬قاعدة‭ ‬عملية‭ ‬للتعامل‭ ‬مع‭ ‬الآخر‭. ‬كما‭ ‬أوصى‭ ‬سيدنا‭ ‬موسى‭ ‬عليه‭ ‬السلام‭: ‬‮«‬أحبب‭ ‬قريبك‭ ‬كنفسك‮»‬،‭ ‬ليؤسس‭ ‬لمفهوم‭ ‬الجوار‭ ‬الإنساني‭ ‬الشامل‭.‬

في‭ ‬عالمنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬فهم‭ ‬التحديات‭ ‬التي‭ ‬تواجه‭ ‬التعايش‭ ‬الديني‭ ‬ومعالجتها‭ ‬من‭ ‬جذورها‭. ‬فالبعض‭ ‬يسعى‭ ‬لتحويل‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬أداة‭ ‬للتقارب‭ ‬إلى‭ ‬وسيلة‭ ‬للتفرقة،‭ ‬مستغلا‭ ‬الاختلافات‭ ‬العقائدية‭ ‬البسيطة‭ ‬لتعميق‭ ‬الانقسامات‭. ‬غير‭ ‬أن‭ ‬جوهر‭ ‬الأديان‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬المعتقد‭ ‬لا‭ ‬ينفي‭ ‬المشترك‭ ‬الإنساني،‭ ‬بل‭ ‬يثريه‭ ‬ويعمقه‭.‬

تقدم‭ ‬بلادنا‭ ‬نموذجا‭ ‬حيا‭ ‬للتعايش‭ ‬الديني‭ ‬والمجتمعي‭ ‬الأصيل،‭ ‬حيث‭ ‬ترتقي‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الطوائف‭ ‬إلى‭ ‬مستوى‭ ‬المشاركة‭ ‬الفاعلة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬الوطن،‭ ‬متجاوزة‭ ‬حدود‭ ‬التسامح‭ ‬التقليدي‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬الانسجام‭ ‬الحقيقي‭. ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬والفرجان‭ ‬والأسواق‭ ‬وأماكن‭ ‬العمل،‭ ‬تتشابك‭ ‬حياة‭ ‬البحرينيين‭ ‬اليومية‭ ‬بروح‭ ‬طبيعية‭ ‬من‭ ‬التآلف‭ ‬والتواصل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تشكل‭ ‬التباينات‭ ‬البسيطة‭ ‬أي‭ ‬عائق‭. ‬هذا‭ ‬النموذج‭ ‬يبرز‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للثراء‭ ‬الروحي‭ ‬والثقافي‭ ‬المتنوع‭ ‬أن‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬تحدٍ‭ ‬محتمل‭ ‬إلى‭ ‬مصدر‭ ‬قوة‭ ‬وثروة‭ ‬مجتمعية‭ ‬حقيقية‭.‬

وعلى‭ ‬المستوى‭ ‬العالمي،‭ ‬تظهر‭ ‬تجارب‭ ‬ملهمة‭ ‬في‭ ‬توطيد‭ ‬العلاقات‭ ‬وبناء‭ ‬الانسجام‭ ‬بين‭ ‬الأديان،‭ ‬من‭ ‬أبرزها‭ ‬مبادرة‭ ‬‮«‬تحالف‭ ‬الحضارات‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أطلقتها‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬والتي‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬تقوية‭ ‬الروابط‭ ‬بين‭ ‬الثقافات‭ ‬والأديان‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برامج‭ ‬تعليمية‭ ‬وثقافية‭ ‬خلاقة‭. ‬تعزز‭ ‬التفاهم‭ ‬المشترك‭. ‬كما‭ ‬تقدم‭ ‬مدن‭ ‬عالمية‭ ‬مثل‭ ‬نيويورك‭ ‬وسنغافورة‭ ‬دروسا‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬التنوع‭ ‬الديني،‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تكتفي‭ ‬هذه‭ ‬المجتمعات‭ ‬بالتعايش‭ ‬السلمي،‭ ‬بل‭ ‬تتعاون‭ ‬الجماعات‭ ‬الدينية‭ ‬بشكل‭ ‬فعال‭ ‬في‭ ‬خدمة‭ ‬مجتمعها‭ ‬وتطويره‭.‬

وتؤكد‭ ‬الدراسات‭ ‬العلمية‭ ‬الحديثة‭ ‬العلاقة‭ ‬الوثيقة‭ ‬بين‭ ‬التسامح‭ ‬الديني‭ ‬والتنمية‭ ‬المستدامة‭. ‬فقد‭ ‬أظهرت‭ ‬أبحاث‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬التي‭ ‬تحتضن‭ ‬مشهدا‭ ‬عقائديا‭ ‬متعددا،‭ ‬تتمتع‭ ‬بمستويات‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬الاستقرار‭ ‬والازدهار‭. ‬فعندما‭ ‬يشعر‭ ‬كل‭ ‬فرد‭ ‬بالاحترام‭ ‬والتقدير‭ ‬لهويته‭ ‬الدينية،‭ ‬يزداد‭ ‬انتماؤه‭ ‬إلى‭ ‬مجتمعه‭ ‬وإسهامه‭ ‬في‭ ‬تنميته‭ ‬وتطويره‭.‬

يقول‭ ‬جبران‭ ‬خليل‭ ‬جبران‭: ‬‮«‬الدين‭ ‬واحد،‭ ‬وإن‭ ‬تعددت‭ ‬مظاهره،‭ ‬والغرض‭ ‬منه‭ ‬جمع‭ ‬القلوب‭ ‬على‭ ‬الخير‭ ‬والمحبة‮»‬‭. ‬وتتجلى‭ ‬عمق‭ ‬هذه‭ ‬الحكمة‭ ‬في‭ ‬دعوة‭ ‬مارتن‭ ‬لوثر‭ ‬كينج‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬‮«‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتعلم‭ ‬العيش‭ ‬معا‭ ‬كإخوة،‭ ‬أو‭ ‬نهلك‭ ‬جميعا‭ ‬كحمقى‮»‬‭. ‬هاتان‭ ‬المقولتان‭ ‬تلخصان‭ ‬التحدي‭ ‬والفرصة‭ ‬اللذين‭ ‬يواجهان‭ ‬البشرية‭ ‬اليوم‭.‬

إن‭ ‬أسبوع‭ ‬الوئام‭ ‬العالمي‭ ‬بين‭ ‬الأديان‭ ‬يتحول‭ ‬من‭ ‬مناسبة‭ ‬دورية‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬دائم‭ ‬للإصلاح،‭ ‬فالمطلوب‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬تحويل‭ ‬القيم‭ ‬المشتركة‭ ‬للأديان‭ ‬إلى‭ ‬برامج‭ ‬ومبادرات‭ ‬عملية‭ ‬تعزز‭ ‬التواصل‭ ‬والتعاون‭ ‬بين‭ ‬أتباع‭ ‬الديانات‭ ‬المختلفة‭. ‬ويمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭:‬

‭- ‬تطوير‭ ‬برامج‭ ‬تعليمية‭ ‬تعرف‭ ‬الناشئة‭ ‬بالقواسم‭ ‬المشتركة‭ ‬بين‭ ‬الأديان‭.‬

‭- ‬إطلاق‭ ‬مبادرات‭ ‬مجتمعية‭ ‬تجمع‭ ‬أتباع‭ ‬الديانات‭ ‬المختلفة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬الخيري‭ ‬والتطوعي‭.‬

‭- ‬تشجيع‭ ‬الحوار‭ ‬المفتوح‭ ‬والصادق‭ ‬الذي‭ ‬يتناول‭ ‬التحديات‭ ‬ويبحث‭ ‬عن‭ ‬حلول‭ ‬مشتركة‭.‬

ختام‭ ‬القول،‭ ‬إن‭ ‬الطريق‭ ‬نحو‭ ‬عالم‭ ‬يسوده‭ ‬الوئام‭ ‬والسلام‭ ‬يبدأ‭ ‬من‭ ‬إيماننا‭ ‬الداخلي‭ ‬بأن‭ ‬الفسيفساء‭ ‬العقائدية‭ ‬نعمة‭ ‬لا‭ ‬نقمة،‭ ‬وأن‭ ‬الاختلاف‭ ‬في‭ ‬المعتقد‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬الوحدة‭ ‬في‭ ‬الإنسانية‭. ‬فلنجعل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأسبوع‭ ‬بداية‭ ‬لعمل‭ ‬مستدام‭ ‬يترجم‭ ‬القيم‭ ‬السماوية‭ ‬المشتركة‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬يعيشه‭ ‬الجميع‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا