في مطلع فبراير من كل عام، يجتمع العالم للاحتفاء بأسبوع الوئام العالمي بين الأديان، محطة سنوية تدعو إلى التأمل في القواسم الإنسانية الكبرى التي تتجاوز حدود العقائد والطقوس. مناسبة تتحرر من كونها حدثا مؤقتا، بل دعوة عملية لترجمة القيم السماوية الجامعة إلى واقع ملموس يعزز السلام والتقارب بين الأفراد.
تتجلى وحدة الرسالات السماوية في تعاليمها الأساسية التي تؤكد كرامة الإنسان وقيمة التراحم. فعندما قال سيدنا عيسى عليه السلام: «طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون»، كان يرسخ مفهوما عالميا للسلام يتجاوز حدود الانتماء الديني. وجاء تأكيد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ليضع قاعدة عملية للتعامل مع الآخر. كما أوصى سيدنا موسى عليه السلام: «أحبب قريبك كنفسك»، ليؤسس لمفهوم الجوار الإنساني الشامل.
في عالمنا المعاصر، تبرز أهمية فهم التحديات التي تواجه التعايش الديني ومعالجتها من جذورها. فالبعض يسعى لتحويل الدين من أداة للتقارب إلى وسيلة للتفرقة، مستغلا الاختلافات العقائدية البسيطة لتعميق الانقسامات. غير أن جوهر الأديان يؤكد أن الاختلاف في المعتقد لا ينفي المشترك الإنساني، بل يثريه ويعمقه.
تقدم بلادنا نموذجا حيا للتعايش الديني والمجتمعي الأصيل، حيث ترتقي العلاقات بين مختلف الطوائف إلى مستوى المشاركة الفاعلة في بناء الوطن، متجاوزة حدود التسامح التقليدي إلى حالة من الانسجام الحقيقي. في الأحياء والفرجان والأسواق وأماكن العمل، تتشابك حياة البحرينيين اليومية بروح طبيعية من التآلف والتواصل، من دون أن تشكل التباينات البسيطة أي عائق. هذا النموذج يبرز كيف يمكن للثراء الروحي والثقافي المتنوع أن يتحول من تحدٍ محتمل إلى مصدر قوة وثروة مجتمعية حقيقية.
وعلى المستوى العالمي، تظهر تجارب ملهمة في توطيد العلاقات وبناء الانسجام بين الأديان، من أبرزها مبادرة «تحالف الحضارات» التي أطلقتها الأمم المتحدة والتي تهدف إلى تقوية الروابط بين الثقافات والأديان من خلال برامج تعليمية وثقافية خلاقة. تعزز التفاهم المشترك. كما تقدم مدن عالمية مثل نيويورك وسنغافورة دروسا في إدارة التنوع الديني، حيث لا تكتفي هذه المجتمعات بالتعايش السلمي، بل تتعاون الجماعات الدينية بشكل فعال في خدمة مجتمعها وتطويره.
وتؤكد الدراسات العلمية الحديثة العلاقة الوثيقة بين التسامح الديني والتنمية المستدامة. فقد أظهرت أبحاث جامعة هارفارد أن المجتمعات التي تحتضن مشهدا عقائديا متعددا، تتمتع بمستويات أعلى من الاستقرار والازدهار. فعندما يشعر كل فرد بالاحترام والتقدير لهويته الدينية، يزداد انتماؤه إلى مجتمعه وإسهامه في تنميته وتطويره.
يقول جبران خليل جبران: «الدين واحد، وإن تعددت مظاهره، والغرض منه جمع القلوب على الخير والمحبة». وتتجلى عمق هذه الحكمة في دعوة مارتن لوثر كينج حين قال: «علينا أن نتعلم العيش معا كإخوة، أو نهلك جميعا كحمقى». هاتان المقولتان تلخصان التحدي والفرصة اللذين يواجهان البشرية اليوم.
إن أسبوع الوئام العالمي بين الأديان يتحول من مناسبة دورية إلى مشروع دائم للإصلاح، فالمطلوب اليوم هو تحويل القيم المشتركة للأديان إلى برامج ومبادرات عملية تعزز التواصل والتعاون بين أتباع الديانات المختلفة. ويمكن تحقيق ذلك من خلال:
- تطوير برامج تعليمية تعرف الناشئة بالقواسم المشتركة بين الأديان.
- إطلاق مبادرات مجتمعية تجمع أتباع الديانات المختلفة في العمل الخيري والتطوعي.
- تشجيع الحوار المفتوح والصادق الذي يتناول التحديات ويبحث عن حلول مشتركة.
ختام القول، إن الطريق نحو عالم يسوده الوئام والسلام يبدأ من إيماننا الداخلي بأن الفسيفساء العقائدية نعمة لا نقمة، وأن الاختلاف في المعتقد لا يمنع الوحدة في الإنسانية. فلنجعل من هذا الأسبوع بداية لعمل مستدام يترجم القيم السماوية المشتركة إلى واقع يعيشه الجميع.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك