العدد : ١٧١١٤ - الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧١١٤ - الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٣٠ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

مأساة التعامل مع جريمة التهجير وكأنها عمل خيري!

بقلم: د. أحمد رفيق عوض

الخميس ٣٠ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬الأمريكيين‭ ‬محتارون‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬البلاد‭ ‬سيطردوننا،‭ ‬ومن‭ ‬الواضح‭ ‬أنهم‭ ‬صرفوا‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬تهجيرنا‭ ‬إلى‭ ‬إندونيسيا؛‭ ‬ربما‭ ‬لإنجاح‭ ‬عملية‭ ‬التهجير،‭ ‬فإندونيسيا‭ ‬بلاد‭ ‬بعيدة،‭ ‬ومناخها‭ ‬وطعامها‭ ‬ولغتها‭ ‬لا‭ ‬تشبه‭ ‬مناخنا‭ ‬ولا‭ ‬طعامنا‭ ‬ولا‭ ‬لغتنا،‭ ‬ومن‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تهجيرنا‭ ‬إلى‭ ‬محيطنا‭ ‬وبيئتنا‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬نواجه‭ ‬غربة‭ ‬المكان‭ ‬ووحشة‭ ‬الزمان‭. ‬

عاد‭ ‬الأمريكيون‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الأسطوانة‭ ‬المشروخة‭ ‬التي‭ ‬طرحت‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعين‭ ‬عاماً،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬تفشل‭ ‬حتى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬وكأننا‭ ‬مجرد‭ ‬سكان‭ ‬مستأجرين،‭ ‬أو‭ ‬سكان‭ ‬رحّل،‭ ‬أو‭ ‬غجر‭ ‬نعيش‭ ‬على‭ ‬الهوامش‭ - ‬مع‭ ‬احترامنا‭ ‬لكل‭ ‬نفس‭ ‬بشرية‭ ‬ترضى‭ ‬بطريقة‭ ‬عيشها‭. ‬تطرح‭ ‬علينا‭ ‬مبادرات‭ ‬وأفكار‭ ‬التهجير‭ ‬أو‭ ‬الطرد‭ ‬بهدوء‭ ‬الأكاديميين،‭ ‬ونصائح‭ ‬أطباء‭ ‬النفس،‭ ‬باعتبار‭ ‬الطرد‭ ‬علاجاً‭ ‬تطهيرياً‭ ‬داخلياً،‭ ‬كما‭ ‬تطرح‭ ‬هذه‭ ‬الدعوى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أناس‭ ‬حاقدين،‭ ‬يرون‭ ‬في‭ ‬الطرد‭ ‬علاجاً‭ ‬نهائياً‭ ‬للصراع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الإسرائيلي‭.‬

فمن‭ ‬جهة،‭ ‬لا‭ ‬يعود‭ ‬الاحتلال‭ ‬هو‭ ‬السبب،‭ ‬بل‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬فرار‭ ‬منها‭ ‬وهي‭ ‬الأمر‭ ‬الطبيعي‭. ‬أما‭ ‬نحن،‭ ‬فنحن‭ ‬المشكلة‭ ‬ونحن‭ ‬الطارئون،‭ ‬ونحن‭ ‬الذين‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ندفع‭ ‬ثمن‭ ‬الهزيمة‭ ‬والعولمة‭ ‬والتغول‭ ‬والتطرف‭ ‬الديني‭. ‬تبدو‭ ‬دعوة‭ ‬التهجير‭ ‬من‭ ‬الأطراف‭ ‬المختلفة‭ ‬وكأنها‭ ‬مكافأة‭ ‬لفظائع‭ ‬الاحتلال،‭ ‬والعدوان‭ ‬على‭ ‬الضمير‭ ‬العالمي،‭ ‬وانتهاك‭ ‬للقانون‭ ‬الدولي‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬خجل‭ ‬أو‭ ‬حياء‭. ‬

دعوات‭ ‬التهجير‭ ‬هذه‭ ‬تفترض‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬يحيق‭ ‬بنا‭ ‬وما‭ ‬نتعرض‭ ‬له‭ ‬ليس‭ ‬بفعل‭ ‬فاعل‭ ‬أو‭ ‬قوى‭ ‬ظالمة‭ ‬عاتية،‭ ‬لكنه‭ ‬أشبه‭ ‬بحريق‭ ‬أو‭ ‬فيضان‭ ‬أو‭ ‬قحط‭ ‬أو‭ ‬جائحة‭ ‬تفتك‭ ‬بنا،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نغادر‭ ‬حتى‭ ‬نتجنب‭ ‬أو‭ ‬نقلل‭ ‬الخسائر‭.‬

دعوة‭ ‬التهجير‭ ‬فيها‭ ‬تغييب‭ ‬للمحتل،‭ ‬ومن‭ ‬يدعمه،‭ ‬ومن‭ ‬يشرف‭ ‬عليه،‭ ‬ومن‭ ‬يغذيه،‭ ‬وفيها‭ ‬تمكين‭ ‬للظلم‭ ‬والعدوان‭ ‬والاحتلال‭.‬

دعوة‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬الأطراف‭ ‬العربية‭ ‬إلى‭ ‬استقبال‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬وصفة‭ ‬لتفجير‭ ‬المنطقة‭ ‬وإشعال‭ ‬جديد‭ ‬لها،‭ ‬وهي‭ ‬دعوة‭ ‬لا‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬السلام‭ ‬أو‭ ‬الاستقرار،‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تهجير‭ ‬شعب‭ ‬من‭ ‬كامل‭ ‬أرضه‭ ‬التاريخية‭ ‬إلا‭ ‬سبباً‭ ‬لحروب‭ ‬جديدة،‭ ‬إن‭ ‬تغيير‭ ‬الديموغرافيا‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬ينشأ‭ ‬عنه‭ ‬خلل‭ ‬كبير‭ ‬قد‭ ‬يترجم‭ ‬إلى‭ ‬ردات‭ ‬فعل‭ ‬متعددة،‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬التهجير‭ ‬ارتداد‭ ‬عن‭ ‬مبادرات‭ ‬التسوية‭ ‬وعن‭ ‬كل‭ ‬جهود‭ ‬الإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬السابقة،‭ ‬وتنكر‭ ‬ما‭ ‬تعهدت‭ ‬به‭ ‬أمريكا‭ ‬ذاتها،‭ ‬وتراجع‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تم‭ ‬بناؤه‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬عشرات‭ ‬السنين،‭ ‬وتجاوز‭ ‬لاعتراف‭ ‬العالم‭ ‬بدولتنا‭.‬

إنها‭ ‬دعوات‭ ‬هدم‭ ‬وتجاوز‭ ‬لآمال‭ ‬وطموحات‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬بالحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬وإنهاء‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وهي‭ ‬أيضاً‭ ‬دعوة‭ ‬إلى‭ ‬تفجير‭ ‬الأوضاع‭ ‬حول‭ ‬إسرائيل،‭ ‬بما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬إسرائيل‭ ‬ستدفع‭ ‬ثمن‭ ‬ذلك‭ ‬عاجلاً‭ ‬أو‭ ‬آجلاً‭. ‬إن‭ ‬لاجئي‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬أسسوا‭ ‬منظمة‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬اتفقت‭ ‬معهم‭ ‬إسرائيل‭ ‬سنة‭ ‬1994‭ ‬على‭ ‬تسوية‭ ‬ما‭ .‬

إن‭ ‬الخفة‭ ‬والسذاجة‭ ‬والتبسيط‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬القضايا‭ ‬الشائكة‭ ‬والحساسة‭ ‬تؤدي‭ ‬بصاحبها‭ ‬إلى‭ ‬التهلكة‭ ‬أيضاً،‭ ‬فالصراع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬صراع‭ ‬على‭ ‬الحدود‭ ‬أو‭ ‬الثروات‭ ‬أو‭ ‬النفوذ،‭ ‬إنه‭ ‬صراع‭ ‬عميق‭ ‬ممتد‭ ‬تتداخل‭ ‬فيه‭ ‬كل‭ ‬الأمور،‭ ‬الدينية‭ ‬والثقافية‭ ‬والسياسية‭ ‬والاستعمارية‭ ‬واللاهوتية،‭ ‬إنه‭ ‬صراع‭ ‬شرق‭ ‬وغرب‭ ‬إن‭ ‬شئت،‭ ‬وصراع‭ ‬فقراء‭ ‬ضد‭ ‬أغنياء‭ ‬إن‭ ‬شئت،‭ ‬وصراع‭ ‬خير‭ ‬وشر‭ ‬إن‭ ‬شئت‭ ‬أيضاً،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الحل‭ ‬هو‭ ‬تهجير‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬غزة،‭ ‬ثم‭ ‬من‭ ‬الضفة،‭ ‬ثم‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬المعضلة،‭ ‬هذه‭ ‬بساطة‭ ‬تشارف‭ ‬الغباء‭ ‬أو‭ ‬البلاهة‭.‬

هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬التي‭ ‬تستكمل‭ ‬أو‭ ‬تكمل‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭. ‬تضرب‭ ‬عميقاً‭ ‬مفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بكل‭ ‬حمولتها‭ ‬الثقافية‭ ‬والجغرافية‭ ‬والنضالية،‭ ‬هذه‭ ‬الدعوة‭ ‬ستؤذي‭ ‬أشقاءنا‭ ‬في‭ ‬الأردن‭ ‬ومصر،‭ ‬وستجعل‭ ‬من‭ ‬أشقائنا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المنطقة‭ ‬العربية‭ ‬أيضاً‭ ‬يراجعون‭ ‬مواقفهم،‭ ‬فالتهجير‭ ‬لا‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تدمير‭ ‬الدولة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬يعزز‭ ‬مواقع‭ ‬الاحتلال‭ ‬ويحسّن‭ ‬مواقفه‭ ‬بحيث‭ ‬يعفيه‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬حلول‭ ‬تؤهله‭ ‬للاندماج‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬إلا‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬أمريكا‭ ‬تريد‭ ‬لإسرائيل‭ ‬أن‭ ‬تقايض‭ ‬السلام‭ ‬بأقل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬السلام‭. ‬

إن‭ ‬التهجير‭ -‬أخيراً‭- ‬هو‭ ‬حل‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وحقوقه‭ ‬وتاريخه‭ ‬ومستقبله،‭ ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬لن‭ ‬يتوقف‭ ‬عندنا،‭ ‬بل‭ ‬قد‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬أخرى،‭ ‬بدأت‭ ‬وسائل‭ ‬إعلام‭ ‬إسرائيلية‭ ‬تتحدث‭ ‬عنه‭ ‬وعنها‭ ‬بوقاحة‭ ‬شديدة،‭ ‬فهل‭ ‬نحن‭ ‬حقاً‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬حقبة‭ ‬إسرائيلية‭ ‬أمريكية‭ ‬تعيد‭ ‬تركيب‭ ‬المنطقة‭ ‬بأسرها؟‭!‬

{ رئيس‭ ‬مركز‭ ‬الدراسات

‭ ‬المستقبلية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القدس

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا