من الواضح أن الأمريكيين محتارون إلى أي البلاد سيطردوننا، ومن الواضح أنهم صرفوا النظر عن تهجيرنا إلى إندونيسيا؛ ربما لإنجاح عملية التهجير، فإندونيسيا بلاد بعيدة، ومناخها وطعامها ولغتها لا تشبه مناخنا ولا طعامنا ولا لغتنا، ومن الأفضل أن يتم تهجيرنا إلى محيطنا وبيئتنا حتى لا نواجه غربة المكان ووحشة الزمان.
عاد الأمريكيون مرة أخرى إلى الأسطوانة المشروخة التي طرحت منذ أكثر من سبعين عاماً، ولا تزال تفشل حتى يومنا هذا، وكأننا مجرد سكان مستأجرين، أو سكان رحّل، أو غجر نعيش على الهوامش - مع احترامنا لكل نفس بشرية ترضى بطريقة عيشها. تطرح علينا مبادرات وأفكار التهجير أو الطرد بهدوء الأكاديميين، ونصائح أطباء النفس، باعتبار الطرد علاجاً تطهيرياً داخلياً، كما تطرح هذه الدعوى من قبل أناس حاقدين، يرون في الطرد علاجاً نهائياً للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فمن جهة، لا يعود الاحتلال هو السبب، بل الظروف الصعبة، وهو الذي لا فرار منها وهي الأمر الطبيعي. أما نحن، فنحن المشكلة ونحن الطارئون، ونحن الذين يجب أن ندفع ثمن الهزيمة والعولمة والتغول والتطرف الديني. تبدو دعوة التهجير من الأطراف المختلفة وكأنها مكافأة لفظائع الاحتلال، والعدوان على الضمير العالمي، وانتهاك للقانون الدولي من دون خجل أو حياء.
دعوات التهجير هذه تفترض أن ما يحيق بنا وما نتعرض له ليس بفعل فاعل أو قوى ظالمة عاتية، لكنه أشبه بحريق أو فيضان أو قحط أو جائحة تفتك بنا، وعلينا أن نغادر حتى نتجنب أو نقلل الخسائر.
دعوة التهجير فيها تغييب للمحتل، ومن يدعمه، ومن يشرف عليه، ومن يغذيه، وفيها تمكين للظلم والعدوان والاحتلال.
دعوة الرئيس الأمريكي الأطراف العربية إلى استقبال الشعب الفلسطيني، إنما هي وصفة لتفجير المنطقة وإشعال جديد لها، وهي دعوة لا تهدف إلى السلام أو الاستقرار، فلا يمكن أن يكون تهجير شعب من كامل أرضه التاريخية إلا سبباً لحروب جديدة، إن تغيير الديموغرافيا لا بد أن ينشأ عنه خلل كبير قد يترجم إلى ردات فعل متعددة، كما أن التهجير ارتداد عن مبادرات التسوية وعن كل جهود الإدارات الأمريكية السابقة، وتنكر ما تعهدت به أمريكا ذاتها، وتراجع عن كل ما تم بناؤه على مدى عشرات السنين، وتجاوز لاعتراف العالم بدولتنا.
إنها دعوات هدم وتجاوز لآمال وطموحات الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة وإنهاء الاحتلال، وهي أيضاً دعوة إلى تفجير الأوضاع حول إسرائيل، بما يعني أن إسرائيل ستدفع ثمن ذلك عاجلاً أو آجلاً. إن لاجئي عام 1948 هم الذين أسسوا منظمة التحرير الفلسطينية، وهم الذين اتفقت معهم إسرائيل سنة 1994 على تسوية ما .
إن الخفة والسذاجة والتبسيط في التعامل مع القضايا الشائكة والحساسة تؤدي بصاحبها إلى التهلكة أيضاً، فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليس مجرد صراع على الحدود أو الثروات أو النفوذ، إنه صراع عميق ممتد تتداخل فيه كل الأمور، الدينية والثقافية والسياسية والاستعمارية واللاهوتية، إنه صراع شرق وغرب إن شئت، وصراع فقراء ضد أغنياء إن شئت، وصراع خير وشر إن شئت أيضاً، لا يمكن أن يكون الحل هو تهجير الفلسطيني من غزة، ثم من الضفة، ثم تنتهي هذه المعضلة، هذه بساطة تشارف الغباء أو البلاهة.
هذه الدعوة التي تستكمل أو تكمل حرب الإبادة. تضرب عميقاً مفهوم الهوية الفلسطينية بكل حمولتها الثقافية والجغرافية والنضالية، هذه الدعوة ستؤذي أشقاءنا في الأردن ومصر، وستجعل من أشقائنا في كل المنطقة العربية أيضاً يراجعون مواقفهم، فالتهجير لا يؤدي إلى تدمير الدولة الفلسطينية فقط، وإنما يعزز مواقع الاحتلال ويحسّن مواقفه بحيث يعفيه من تقديم حلول تؤهله للاندماج في المنطقة، إلا إذا كانت أمريكا تريد لإسرائيل أن تقايض السلام بأقل بكثير من السلام.
إن التهجير -أخيراً- هو حل على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه وتاريخه ومستقبله، وهو بالمناسبة لن يتوقف عندنا، بل قد يمتد إلى مناطق أخرى، بدأت وسائل إعلام إسرائيلية تتحدث عنه وعنها بوقاحة شديدة، فهل نحن حقاً على أعتاب حقبة إسرائيلية أمريكية تعيد تركيب المنطقة بأسرها؟!
{ رئيس مركز الدراسات
المستقبلية في جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك