لا مبالغة في القول بأن العالم أصبح قرية عالمية واحدة، وما يجري في كل ركن فيه يؤثّر على جميع مكوناته، وزادت كثافة وسائل الاتصال والإعلام العالمية، وسرعتها الهائلة تأكيد هذه الحقيقة... هناك بالطبع تطورات تبقى محصورة ومحدودة في نطاق كل بلدٍ أو مجموعة بلدان، ولكن هناك في المقابل ظواهر تتحرّك لتصبح عابرة للحدود، منها بالتأكيد نفور الجمهور من الأحزاب السياسية التقليدية، وتعاظم النزعات الفردية الذاتية، وكثافة عملية تمركز رأس المال والثروات العالمية في يد عدد صغير للغاية من الأشخاص.
وكما تفيد تقارير منظمة أكسفام العالمية بأن 1% من سكان العالم يحصلون على 82% من الثروة العالمية التي تنتج سنوياً، ويملكون أكثر من 50% من مجمل الثروات العالمية، أي أكثر مما يملكه 95% من سكان الأرض، وقد زادت ثرواتهم عام 2024 ثلاث مرّات أسرع من زيادتها في 2023. وذكرت التقارير نفسها أن هناك اليوم خمسة من أصحاب التريليونات في ظاهرة غير مسبوقة (التريليون ألف مليار دولار). وفي حين كان هناك دوماً اشتباه بأن أصحاب المليارات يديرون مطبخاً عالمياً سرياً، أو محفلاً، يقرّر من يعين أو ينتخب رؤساء لدول عديدة، وانعكس ذلك في تحول قادة دول غربية كثيرة إلى مجرد موظفين يؤدّون مهام ترسم لهم، ويبدون أقزاماً مقارنة بعصر القادة الكبار كديجول وتشرشل وروزفلت.
بعيداً عن التكهنات، جاء حفل تنصيب دونالد ترامب، الرئيس المعاد انتخابه في الولايات المتحدة، ليفضح المستور، حيث تصدّر حفل التنصيب كبار الرأسماليين، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في العالم، منهم إيلون ماسك، مالك شركة تسلا وغيرها، وجوزيف بيزوس مدير شركة أمازون، ومارك زوكربيرج مدير شركة ميتا، وديروباي أمباني من أكبر الصناعيين الهنود، وبيتشاي مدير شركة جوجل، وعائلة أرنو الفرنسية مالكة أكبر شركات الموضة العالمية، بالإضافة إلى مريم أدلسون أرملة شيلدون أدلسون اللذين تبرّعا لترامب في حملاته الانتخابية وانتزعا وعداً منه سابقاً بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ويحاولان دفعه إلى السماح بضم الضفة الغربية.
وربما حمل ظهور كل هؤلاء الأثرياء بهذا الشكل الصارخ رسالتين مهمتين إلى العالم، أولاً أنهم لم يعودوا حريصين على إخفاء نفوذهم، وثانياً أنهم، بتعيين ترامب، أصبحوا معنيين بإدارة أمور سياسة العالم واقتصاده العليا بأنفسهم، بدل تعيين موظفين للقيام بذلك. غير أن ذلك كله لم يثر العالم، وصحافته، بل أثارهم فعل واحد قام به إيلون ماسك، عندما رفع يده بتحية أدولف هتلر النازية أثناء الاحتفال الشعبي بفوز ترامب.
وبغض النظر عما إذا كانت تلك الحركة مقصودة أم لا، وبمعزل عن اعتذار ماسك عنها، فإن مجمل المشهد، بما في ذلك النمط الشعبوي لخطابات ترامب وسلوكه أثناء توقيعه الأوامر الرئاسية، منها أمر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ العالمي، ومن منظمّة الصحة العالمية، وإلقائه أقلام التوقيع على الجمهور وكأنه لاعب بيسبول يلقي الكرات للجماهير المتعطشة لالتقاطها، أوحى بصلة لا يمكن تجاهلها بين كل هذه المشاهد والصعود المرعب للشعبوية وما يجرّه من صعود الأحزاب الفاشية في أوروبا الغربية، وبعض الدول الأخرى مثل الأرجنتين.
فمن فرنسا، التي يتربّع فيها حزب لوبين اليميني العنصري، إلى السويد حيث يتحكّم بقرارات الحكومة حزب السويديين الديمقراطيين الفاشي، في بلد اشتُهر طوال تاريخه بالحرص على حقوق الإنسان والقانون الدولي، إلى ألمانيا حيث تجاوزت شعبية الحزب الألماني (الفاشي) في استطلاعات الرأي شعبية الحزب الاشتراكي الديمقراطي الحاكم، إلى حزب فاراج في بريطانيا، والأنظمة العنصرية المتطرّفة في المجر والنمسا، والحزب الشعبوي الحاكم في إيطاليا، تبدو ظاهرة الشعبوية مدخلاً لتعزيز نفوذ العنصرية الفاشية وأحزابها المعادية لشعوب البلدان النامية والمستعمرات السابقة واللاجئين، وللفقراء أينما كانوا، ولكل محاولات البشرية عقلنة العالم بمبادراتٍ مثل اتفاق المناخ والحد من انتشار السلاح.
ويحظى نتنياهو وحكومته الفاشية وحلفاؤه الفاشيون من أمثال سموتريتش وبن غفير بموقع الصدارة في هذا الانحراف العالمي نحو فاشيةٍ قد تهدّد وجود البشرية جمعاء. وذلك الانحراف من أهم أسباب تنكّر حكومات غربية كثيرة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي بسماحها لإسرائيل أن ترتكب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والعقوبات الجماعية ضد شعبٍ بأكمله على مرأى العالم ومسمعه.
وما كان لافتاً للنظر أثناء تنصيب الرئيس ترامب أن الرئيس السابق بايدن وزوجته ونائبته كاميلا هاريس وقادة الحزب الديمقراطي بقوا جالسين في مقاعدهم عندما كان جمهور ترامب يقف مصفقاً لقراراته المتشدّدة المتتالية ضد المهاجرين، والمكسيك، واتفاقية المناخ العالمي، إلا في مرة واحدة عندما هبوا واقفين تحيةً لترامب عند ذكره الأسرى الإسرائيليين، وكأن بايدن وجماعته أصرّوا على تذكيرنا بأن تأييدهم ومشاركتهم الفعلية في دعم الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزّة يتجاوزان كل الانقسامات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة.
لا يبدو العالم مكاناً مشرقاً لمئات ملايين الشباب المتطلعين إلى حياة أفضل، في وقت تتعاظم فيه الهوّة بين من يملكون كل شيء ومن لا يملكون أي شيء، وبين قوى استعمارية وشعوب تعرّضت أو مازالت تتعرّض للاستعمار، بل يبدو العالم مخيفاً لمن يروْن تدهور المناخ، والحرائق الهائلة المرتبطة بارتفاع حرارة الكوكب، بسبب جشع أساطين المال لمزيد من الأرباح.
ولكن ذلك كله يؤكّد ما تعلمه الشعب الفلسطيني، أن العدالة لن تتحقّق بنفسها، وأن الحرية لا تهبط على الناس نعمةً، وأن الظالمين لن يرتدعوا إلا إذا ردعوا عن غيّهم، وأن العدل والحرية وسلامة البشرية ستتحقّق بالنضال من أجلها وليس بالتمنيات والآمال الصادقة وحدها.
{ الأمين العام لحركة
المبادرة الوطنية الفلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك