احتفل العالم بما فيه الدول العربية باليوم الدولي للتعليم. يجري الاحتفال في مرحلة حساسة تمر على الوطن العربي، وهي العدوان الغاشم على غزة وما نتج عنه من تهجير وإبادة جماعية جعلت شعوب العالم تستنكر وتخرج رافضة هذه الازدواجية وتجاهل القيم التي تدعي حكومات بعض الدول الغربية أنها جوهر حضارتها.
هذا العدوان يدعونا إلى التفكر في أمر الوطن العربي ككل وكيف ينهض معرفيا وعلميا وتكنولوجيا وصناعيا ليواجه التحديات التي تفرضها عليه الظروف والدول الغربية من هيمنة وتسلط. لا بديل أمام الأمة سوى البحث في سبل الارتقاء بالإنسان والمجتمع من خلال التعليم. خلال هذا الشهر تطرق عدد من الكتاب في البحرين إلى هذه الحالة، إذ تناول الأستاذ خليل يوسف نهضة اليابان وكيف أنها قامت على التعليم كما هو الحال كذلك بدول شرق آسيا، وكتب الدكتور شمسان المناعي حول تصدر بعض الدول المراكز الأولى في التعليم من خلال التركيز على الإنسان المتعلم، وتقدير المعلم وظيفيا واجتماعيا. كذلك نُشر مقال عن كتاب (للدكتور برادلي كوك) حول إسهامات علماء المسلمين في الحضارة الإنسانية وتراكم المعارف وانتقالها إلى الغرب، وكتبت الدكتورة نبيلة رجب حول التعليم بوابة الأمم إلى المجد، وأن التعليم هو طاقة دائمة تحرك عجلة التطور وترسم مسار المستقبل. وفي مقالين لكاتب هذه السطور (منهج التعليم ودوره في تقدم وازدهار الأمم ونهضتها) عرج فيهما على النهضة الأوروبية، كما تناول أهمية غرس مفهوم قبول الآخر ونسبية الحقيقة ورفض التعصب، وأن إصلاح المجتمع يبدأ بالتعليم وكذلك هدمه.
يقوم التعليم بوظيفتين مهمتين، الأولى إعداد الإنسان للحياة والعمل والإنتاج، والثانية بناء المجتمع والدولة، وبذلك يكون التعليم أهم مسؤوليات الدولة العصرية. إن أمرا بهذه الأهمية يحتاج إلى موارد وجهد بشري وحشد قدرات الدولة لضمان قيامه بهذه الوظائف المهمة لمستقبل الأمة. وأول هذه الجهود هو وضع فلسفة تعليمية تحدد الغاية منه وتجيب عن أسئلة مهمة وأساسية في وضع أهداف التعليم وسياساته ومناهجه وطرق تدريسه والنتائج المتوخاة منه. فمثلا تجيب الفلسفة عن أسئلة حول الغاية من التعليم وأهدافه، وما أفضل الطرق لتحقيق هذه الغاية والأهداف؛ ما طبيعة العلاقة بين المتعلم والمعلم والمدرسة؛ وما القيم الأخلاقية والإنسانية التي يجب أن نغرسها في طلابنا لتكوين إنسان أفضل؛ كيف يمكننا إعداد طلابنا لمواجهة تحديات المستقبل والتنافسية العالمية؛ وكيف يمكن تقييم نجاح العملية التعليمية؟ لا بد أن تؤكد فلسفة التعليم أن صاحب الحق في تقييم النتائج هو المجتمع في نهاية المطاف؛ فالمجتمع هو الذي يقيم ما يتحقق من نتائج عملية في الرقي الإنساني والشعور بالمسؤولية الأخلاقية وفي ارتقاء المجتمع وفي القدرة التنافسية والإبداعية في ميدان العمل؟
يتأثر التعليم في الدول العربية بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية المحيطة، لذلك فإن وضع الفلسفة التعليمية الأنسب للواقع العربي أمر بالغ الأهمية. تتنوع مقاربات فلسفة التعليم وتطرح رؤى مختلفة حول أهداف التعليم وطرق تنفيذها. إن اعتماد هذه المقاربات الفلسفية في التعليم العربي قد يسهم في تجاوز التحديات التقليدية كالحفظ والتلقين، وبدلا منه تمكن الطالب من التفكير الإبداعي والتأقلم مع متغيرات العصر وزيادة التركيز على التربية، بالإضافة إلى التعليم. وبذلك يمكن للتعليم أن يسهم في بناء أجيال قادرة على التفكير الناقد والتكيف مع متغيرات العصر ومتطلبات القرن الواحد والعشرين، مع الحفاظ على القيم الثقافية العربية. كذلك يمكن من خلال الفلسفة التعليمية الإنسانية تعزيز الهوية الثقافية وربط التعليم بالقيم والتراث لتعزيز انتماء الطالب إلى مجتمعه من دون الغلو وخلق شخصية منغلقة ثقافيا على العالم.
تبين الدراسات أن أسباب فشل التعليم في إنتاج الشعور بالمسؤولية الأخلاقية وجعل المعرفة مرادفة للرقي الإنساني هو أولا: التركيز على التعليم في مفهومه العربي الحالي على حساب التربية، ثانيا: تجزئة المعرفة والشخصية الإنسانية بتجزئة مناهج التعليم إلى مقررات منعزلة عن بعضها لا تمنح الطالب النظرة المعرفية الشاملة، والإدراك بأن جميع المواد مرتبطة وهي جزء من المجتمع وعامل في بنائه، ثالثا: ربط التعليم بالإيديولوجية المحلية، وهو ما يعرضها للتوظيف السياسي على حساب الهوية الإنسانية، يولد ذلك النزوع نحو التطرف ونشر الكراهية، في حين ينبغي أن يعمل التعليم على تكوين إنسان أفضل، وأخيرا قد يعزل التعليم الطلاب عن الحياة والمجتمع مدة طويلة من دون التعرض لقضايا المجتمع خصوصا في التعليم الخاص النخبوي. كذلك فإن المجتمع ينعكس على الطلاب ويؤثر فيهم، فالمجتمعات التي تؤمن بالخرافات لا تنتج طلابا مختلفين، والمجتمع المهووس بالتطرف لا يرتقي التعليم فيه إلى التسامح والقبول بالرأي الآخر.
من خلال فلسفة التعليم ينبغي على الجهات المعنية استعادة العلاقة العضوية بين التعليم والحياة الاجتماعية، والحرص على التكامل المعرفي بين أوجه ميادين المعرفة، والتركيز على أخلاقيات الحياة من خلال التربية المدنية لبناء حضارة إنسانية تعددية تضمن الحريات الدينية والسياسية وتعظم المسؤولية الاجتماعية والإنسانية، ومرتبطة بالعمل في سياق ثقافتنا ومنفتحة على الآخر بعيدا عن التوجهات التي تغذي الكراهية أو الاحتقار ورفض الآخر المختلف. فما هي المؤسسات العربية القادرة على مثل هذا العمل؟ يقود ذلك إلى أن يكون التعليم المستقبلي الذي تحتاج إليه الدول العربية موضوع نقاش عام على جميع المستويات وفي جميع المجتمعات العربية. فهل تتحمل الأوضاع العربية الراهنة والأجواء المشتعلة والملتهبة إيديولوجيا وفكريا وسياسيا مثل هذه النقاشات؟
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك