في قراءة متأنية لقضية التغير المناخي من ناحية القرارات الدولية التي اتخذتْ منذ أكثر من ثلاثين عاما، بدءا بالمؤتمر التاريخي قمة الأرض في يونيو 1992 في مدينة ريو دي جانيرو، يتبين أن هناك عدم استقرار في القرارات الدولية الجماعية المشتركة حول التغير المناخي. فهناك تذبذب قوي في القرار، بين مدٍ وجزر، وبين تقدم وتأخر، وبين تطور وتباطؤ، وبين قرارات تصب في مصلحة مواجهة قضية التغير المناخي والتصدي لتداعياتها، وبين قرارات أخرى دولية، أو من بعض الدول القوية والمتنفذة التي تؤدي إلى شل وتجميد القرارات السابقة، وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء سنوات طويلة.
كما تشير هذه القراءة التحليلية الطويلة لقضية التغير المناخي الدولية إلى أن الدولة الوحيدة التي تتحمل المسؤولية الكبرى في تأخر وتباطؤ المجتمع الدولي في تنفيذ قراراته والسير بقطار التغير المناخي نحو الاستقرار وبر الأمان، وتجنب الكوارث المناخية المترتبة عليه هي الولايات المتحدة الأمريكية.
وهناك سببان لاتهام الولايات المتحدة الأمريكية على عرقلتها وإعاقتها لتحركات قطار التغير المناخي الدولي المشترك. أما السبب الأول فقد قرأ عنه الجميع وهو الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس دونالد ترامب تحت عنوان: «أمريكا أولاً في الاتفاقيات البيئية الدولية»، بعد أدائه القسم لتنصيبه رئيسا لأمريكا في 20 يناير 2025 في أقل من 8 ساعات والمتعلق بالانسحاب الفوري للولايات المتحدة الأمريكية رسمياً من تفاهمات باريس لعام 2015 حول التغير المناخي. وهذا الانسحاب يعني التهرب من جميع تعهدات والتزامات أمريكا في التعاون مع دول العالم لمواجهة مردودات التغير المناخي، والتنصل عن مسؤولياتها التاريخية في خفض انبعاثاتها من الغازات والملوثات المتهمة بالتغير المناخي، ورفع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، والكوارث المناخية التي تنزل نتيجة لهذه التداعيات. كذلك من تداعيات هذا الانسحاب الأمريكي هو وقف جميع المساعدات والمنح والمساهمات المالية الأمريكية لصندوق التغير المناخي المخصص للدول النامية الفقيرة للتكيف مع تداعيات الكوارث المناخية والأضرار الجسيمة الناجمة عنها.
جدير بالذكر، أن هذا ليس هو الانسحاب الأول من معاهدة خاصة بالتغير المناخي سواء لترامب نفسه، أو حكام البيت الأبيض بشكلٍ عام. ففي يونيو 1992 وقع الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الأب في البرازيل على أول معاهدة دولية مشتركة حول التغير المناخي، وأُطلق عليها بالاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي، بحيث تقوم الدول بالتفاوض على بنودها وتفاصيلها في اجتماعات سنوية للدول الأطراف في هذه المعاهدة الأولى بدءاً من عام 1993، وبالتحديد في مجال الحد من انبعاث الملوثات التي تسبب هذه الظاهرة المناخية التي تهم الكرة الأرضية برمتها. فبعد عدة اجتماعات توصلت الدول في كيوتو في اليابان في ديسمبر 1997 إلى «بروتوكول كيوتو» في عهد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، حيث التزمت الدول الصناعية المتطورة، من بينها أمريكا، بخفض انبعاثاتها للملوثات بنسبٍ محددة كل سنة. وهذا البروتوكول يعد أول اتفاقية جماعية مشتركة تتعهد فيها الدول الصناعية بالحد من انبعاثاتها إلى الهواء الجوي، وتعد خطوة جبارة إلى الأمام للتصدي لتداعيات التغير المناخي، ولكن هذا البروتوكول لم ير النور، ولم يكتب له طول العمر، فقد رفضت أمريكا في عهد الرئيس جورج بوش الابن ومعه الكونجرس التصديق عليه، أي رفضت التعهد بخفض الانبعاث، وهو ما أرجع جهود مواجهة التغير المناخي إلى النقطة صفر.
فما كان على المجتمع الدولي إلا إعادة الكرة مرة ثانية والمحاولة مرة أخرى، فبعد جهود دولية مضنية، واجتماعات ماراثونية عُقدت كل سنة في دول مختلفة، كان آخرها في باريس عام 2015، وافقت أمريكا في عهد الرئيس أوباما على بنود تفاهمات باريس حول التغير المناخي، وتعهدت الإدارة الأمريكية بخفض انبعاثاتها بنسبة محددة سنوياً، مما يعني خطوة إيجابية إلى الأمام، وإن لم تكن كافية. وهذه التفاهمات لم يكتب لها البقاء طويلاً، فقد دخل ترامب لأول مرة البيت الأبيض وله سياسات ومواقف لا تعترف أصلاً بوقوع ظاهرة التغير المناخي، إضافة إلى عدم اعترافه بالمعاهدات والتشريعات الدولية. فقام في الرابع من نوفمبر 2020 بالانسحاب النهائي من تفاهمات باريس، وضرب بذلك عرض الحائط كل التعهدات والالتزامات التي قطعها أوباما على نفسه. ثم بعد خروج ترامب جاء جو بايدن بسياسات أكثر إيجابية مع التغير المناخي بشكلٍ عام، ومع الجهود الدولية بشكلٍ خاص، فأرجع أمريكا إلى دائرة المواجهة الدولية للتغير المناخي في فبراير 2021. ولكن مع الأسف، فإن هذا لم يدم طويلاً، حيث تم انتخاب ترامب للمرة الثانية للبيت الأبيض، وقام فوراً وبدون أي تأخير بنسف كل ما قام به بايدن، وأصدر سيلاً من الأوامر التنفيذية في الساعات الأولى من حكمه، من بينها الانسحاب مرة ثانية من تفاهمات باريس؛ أي أن جهود العالم رجعت من جديد 180 درجة إلى الخلف، وخلق حالة من البلبلة والقلق الشديدين، وأوقع التذبذب وعدم الاستقرار في القرار الدولي المشترك لمواجهة قضية التغير المناخي التي تخص كوكبنا.
وعلاوة على تخليه عن التزامات أمريكا بخفض انبعاثاتها، فقد أصدر أوامر تنفيذية أخرى تزيد من الطين بلة، فترفع من مستوى انطلاق الغازات الدفيئة من المصادر المختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية، سواء من المصانع ومحطات توليد الطاقة، أو من السيارات. فقد أصدر أمراً تنفيذياً أعلن فيه حالة الطوارئ الاتحادية في قطاع الطاقة، ومن بين بنود الأمر هو إطلاق سراح التنقيب واستخراج النفط والغاز في الأراضي الأمريكية، حتى في المناطق المحظورة كالمحمية الوطنية للحياة الفطرية في ألاسكا، إضافة إلى إلغاء المواصفات التي أصدرها بايدن لخفض انبعاث الملوثات المسؤولة عن سخونة الأرض من مصادرها المختلفة الكثيرة، كمحطات توليد الكهرباء والسيارات. ومن المعروف أن أهم مصدر للغازات المسؤولة عن التغير المناخي، هو ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث عند حرق الوقود الأحفوري، سواء الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، أي زيادة نسبة انبعاثه من الولايات المتحدة الأمريكية، وزيادة حدة المشكلة على حرارة كوكبنا.
أما السبب الثاني لاتهام الولايات المتحدة الأمريكية بإفشالها للجهود الدولية المعنية بمكافحة التغير المناخي، فهو تخليها عن القيام بدورها وتحمل مسؤوليتها التاريخية في خفض انبعاثات أمريكا للغازات المعنية بالتغير المناخي ورفع سخونة الأرض. فالولايات المتحدة يقع على عاتقها المسؤولية العظمى في نزول هذه الكارثة الدولية العقيمة على كوكبنا، فهي تعد الأولى على المستوى الدولي تاريخيا من حيث إجمالي انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون المتهم الأول بوقوع التغير المناخي الناجم عن حرق جميع أنواع الوقود الأحفوري. ولذلك هروب أمريكا من المعاهدات الدولية والانسحاب منها أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في حرارة الأرض، حتى أن معدل درجة الحرارة في عام 2024 ارتفع إلى مستوى غير مسبوق ولأول مرة، بمعدل 1?55 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية، أو ما بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر (الفترة من 1850 إلى 1900). ولذلك فمهما بذلت دول العالم مجتمعة من جهود جماعية مشتركة، ومهما اتخذت من إجراءات علاجية ووقائية لمنع بلوغ سخونة الأرض إلى نقطة اللاعودة والنقطة الكارثية، فلن يفلحوا أبداً من دون جهود ودعم الولايات المتحدة الأمريكية من ناحية خفض الانبعاث أولاً، وثانياً من ناحية الدعم المالي للدول الفقيرة والنامية لمساعدتها في مواجهة تداعيات التغير المناخي وخفض انبعاثاتها.
ولذلك فالقرار الدولي المعني بمواجهة التغير المناخي يعاني من حالة من عدم الاستقرار والتوازن منذ 33 عاماً، أي منذ أن وُضعت النواة الدولية الجماعية المشتركة للتعامل معه كفريق واحد، وهذه الحالة من الجمود وعدم تقدم القرار المناخي للأمام انعكس ميدانيا على صحة كوكبنا، فحرارة الأرض في ارتفاع مستمر، ومستوى سطح وحموضة البحر في ازدياد، ودائرة الكوارث المناخية تزيد وتتوسع.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك