صدرت أول إشارة رسمية إلى أن غزة أصبحت غير صالحة للسكن بشكل متزايد عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في عام 2012، عندما قُدِّر عدد سكان قطاع غزة بنحو 1.8 مليون نسمة.
ولم يكن الهدف من التقرير المعنون: «قطاع غزة: الوضع الاقتصادي وآفاق التنمية» مجرد التنبؤ، بل التحذير من أن استمرار العالم في الوقوف مكتوف الأيدي في مواجهة الحصار المستمر على غزة سوف يؤدي إلى كارثة إنسانية وشيكة.
ولكن لم يتم فعل الكثير أو اتخاذ أي إجراءات عاجلة وضرورية استباقية، رغم أن منظمة الأمم المتحدة واصلت العد التنازلي، وزادت من وتيرة وإلحاح تحذيراتها من خطورة الوضع، وخاصة في أعقاب الحروب الكبرى.
وفي تقرير آخر صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في عام 2015، أشار التقرير إلى أن أزمة غزة اشتدت في أعقاب الحرب الأكثر تدميراً حتى ذلك التاريخ، والتي اندلعت في العام السابق، أي في سنة 2014. فقد دمرت الحرب الإسرائيلية مئات المصانع، وآلاف المنازل، وشردت عشرات الآلاف من الناس.
ولكن بحلول عام 2020، وبناء على المعايير التي وضعتها الأمم المتحدة، كان من المفترض أن تصبح غزة «غير صالحة للسكن». ومع ذلك، لم يتم بذل الكثير من الجهود لمعالجة الأزمة.
لقد تزايد عدد السكان بسرعة في القطاع، في حين تقلصت الموارد، بما في ذلك مساحة غزة، بسبب «المنطقة العازلة» الإسرائيلية المتوسعة باستمرار. وأصبحت احتمالات نشوء «أكبر سجن مفتوح في العالم» أكثر قتامة.
ولكن المجتمع الدولي لم يبذل الكثير من الجهود للاستجابة لدعوة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية وغيره من مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية. وتفاقمت الأزمة الإنسانية ــ التي تقع في ظل أزمة سياسية مطولة، وحصار جائر، وحروب مدمرة متكررة، وعنف يومي ــ لتصل في السابع من أكتوبر 2023 إلى نقطة الانفجار.
ويتساءل المرء عما إذا كان العالم قد أولى حتى أدنى قدر من الاهتمام لقطاع غزة وصرخات الناس المحاصرين خلف الجدران والأسلاك الشائكة والسياج الكهربائي، هل كان من الممكن تجنب الحرب الحالية والإبادة الجماعية.
لقد أصبح كل هذا غير ذي جدوى الآن بعد كل هذا الدمار الذي حدث والأرواح البشرية التي أزهقت. فقد تحقق السيناريو الأسوأ على نحو لم يكن بوسع حتى أكثر التقديرات الفلسطينية أو العربية أو الدولية تشاؤما أن تتوقعه.
إن غزة لم تعد الآن «غير صالحة للسكن» فحسب، بل إنها، وفقاً لمنظمة السلام الأخضر، سوف تظل «غير صالحة للسكن لأجيال قادمة». ولا يتوقف هذا على قدرة الفلسطينيين في غزة على الصمود، الذين لا جدال في صمودهم الأسطوري.
ومع ذلك، هناك احتياجات إنسانية أساسية للبقاء على قيد الحياة لا يستطيع حتى أقوى الناس استبدالها برغبتهم المجردة في البقاء على قيد الحياة.
في أول 120 يومًا فقط من الحرب، قُدِّرَت الانبعاثات الكربونية «المذهلة» بنحو 536410 طنًا من ثاني أكسيد الكربون. ووفقًا لمنظمة السلام الأخضر، فإن تسعين بالمائة من هذا التلوث المميت «يُعزى إلى القصف الجوي والغزو البري الإسرائيلي»، وخلصت المنظمة إلى أن إجمالي الانبعاثات الكربونية «أكبر من البصمة الكربونية السنوية للعديد من الدول المعرضة لتغير المناخ».
وفي نفس الوقت تقريباً، أصدر برنامج الأمم المتحدة للبيئة تقريراً يرسم صورة مخيفة بنفس القدر لما كان يحدث في غزة كنتيجة مباشرة للحرب.
وفي شهر يونيو الماضي، أعلنت المنظمة أن «قطاع المياه والصرف الصحي قد انهار، كما تأثرت المناطق الساحلية والتربة والنظم البيئية بشدة».
ولكن هذا الوضع كان قبل سبعة أشهر، عندما كانت أجزاء من قطاع غزة لا تزال قائمة. أما الآن فقد دمرت غزة بالكامل تقريبا، وتكدست القمامة منذ خمسة عشر شهرا من دون وجود منشأة واحدة لمعالجتها بكفاءة.
لقد انتشر المرض على نطاق واسع، وقد دمرت كل المستشفيات في القصف، أو أحرقت بالكامل، أو هدمت بالجرافات. ويموت العديد من المرضى في خيامهم من دون أن يتمكنوا من رؤية أي طبيب على الإطلاق.
وفي غياب أي مساعدة خارجية، كان من الطبيعي أن تتفاقم الكارثة. وفي شهر ديسمبر من السنة الماضية، أصدرت منظمة أطباء بلا حدود تقريراً بعنوان «غزة: الحياة في فخ الموت».
يصف التقرير، وهو الذي يمثل قراءة مدمرة، حالة البنية التحتية الطبية في غزة، التي يمكن تلخيصها في كلمة واحدة: غير موجودة.
وهاجمت إسرائيل 512 منشأة للرعاية الصحية بين أكتوبر 2023 وسبتمبر 2024، ما أسفر عن مقتل 500 عامل في مجال الرعاية الصحية.
وهذا يعني أن السكان يحاولون البقاء على قيد الحياة خلال واحدة من أقسى الحروب التي تم تسجيلها على الإطلاق، من دون أي رعاية طبية جادة. ويشمل هذا ما يقرب من نصف مليون شخص يعانون من اضطرابات الصحة العقلية المختلفة.
وبحلول شهر ديسمبر الماضي، أفاد مكتب الإعلام الحكومي في غزة أن هناك ما يقدر بنحو 23 مليون طن من الحطام الناتج عن إسقاط 75 ألف طن من المتفجرات ـ بالإضافة إلى أشكال أخرى من التدمير. وقد أدى هذا إلى إطلاق 281 ألف طن متري من ثاني أوكسيد الكربون في الهواء.
وبمجرد انتهاء الحرب، سوف يعاد بناء قطاع غزة. ورغم أن الصمود الفلسطيني قادر على إعادة غزة إلى حالتها السابقة، مهما طال الزمن، فإن دراسة أجرتها جامعة كوين ماري في المملكة المتحدة قالت إن إعادة بناء الهياكل المدمرة سوف تتطلب إطلاق 60 مليون طن إضافية من ثاني أكسيد الكربون في بيئة متضررة بشدة بالفعل.
هذا يعني أنه حتى بعد انتهاء هذه الحرب الإسرائيلية المدمرة على قطاع غزة وإعادة إعمار القطاع، فإن الضرر البيئي الذي تسببت فيه حكومة بنيامين نتنياهو سوف يظل قائما سنوات عديدة قادمة.
ومن المحير أن الدول الغربية نفسها التي تتحدث بلا كلل عن ضرورة حماية البيئة والحفاظ عليها والتحذير من انبعاثات الكربون هي نفس الكيانات التي ساعدت في استمرار الحرب على غزة، إما من خلال تسليح إسرائيل أو الصمت في مواجهة الفظائع المستمرة.
إن ثمن هذا النفاق الذي يتجلى في سياسات ومواقف الدول الغربية هو المعاناة المستمرة لملايين البشر والدمار الذي يلحق ببيئتهم. ألم يحن الوقت لكي يستيقظ العالم ويعلن بشكل جماعي: كفى؟
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك