بنى الرئيس الأمريكي رونالد ترامب توجهاته الخارجية على نقطتين أساسيتين:
الأولى: إنهاء الحروب القائمة وخاصة الحرب في أوكرانيا ومنطقة الشرق الأوسط باعتبار الولايات المتحدة الأمريكية متورطة في هذه الحروب بالدعم والإنفاق الهائل على حساب دافع الضرائب الأمريكي وعلى اعتبار أن هذه الحروب المستمرة فترة طويلة تؤثر سلبا في نهاية المطاف على المجتمع الأمريكي كما على المجتمعات الأخرى، وأن قوة الولايات المتحدة الأمريكية تكمن في قدرتها على الإمساك بخيوط السياسة في العالم والتأثير فيها، وأن الحروب إذا اندلعت يصبح من الصعب إيقافها أو يصبح إيقافها عملية مكلفة مثلما هو الشأن في حرب أوكرانيا التي مضى عليها 3 سنوات وسلسلة الحروب في الشرق الأوسط التي لا تكاد تتوقف حتى تندلع من جديد.
الثانية: بنى الرئيس ترامب سياسته الخارجية أيضا على منطق الصفقات التي يربح فيها الجميع وذلك باعتباره رجل أعمال وباعتباره مدركا أن الولايات المتحدة الأمريكية في حاجة ماسة إلى استعادة مجدها الاقتصادي الذي تأثر كثيرا خلال العقود الماضية وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تخسر أمام الصين وأمام الدول الأوروبية واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها وخاصة بعد أن أصبحت الصناعات الأمريكية عاجزة عن منافسة مثيلاتها الصينية التي تكتسح العالم وتستولي على الحصة الأكبر في السوق العالمية في جميع المجالات.
ومن هنا بنى ترامب حملته الانتخابية على ضرورة استعادة قوة الولايات المتحدة الأمريكية من الناحية الصناعية بالدرجة الأولى بحيث يؤدي ذلك إلى توفير مزيد من الوظائف للأمريكان وانتعاش رأسمال الأمريكي والصناعة الأمريكية، وهذا ما يسميه ترامب إعادة صورة الولايات المتحدة الأمريكية العظيمة التي تعتبر أن الديمقراطية قد أسهمت في إضعافها كما أسهمت في تورطها في حروب غير ضرورية، ومن هنا يأتي منطق الصفقات التي تجلب الفوائد للجميع سواء مع الصين أو مع الاتحاد الأوروبي أو مع دول الخليج والهند وأمريكا اللاتينية وكندا، فكلها ساحات لعقد الصفقات. ومن الواضح في ذهن ترامب أن الجميع يحتاج إلى مثل هذه الصفقات رهن انتهاء الحروب ونشر السلام، فلا ازدهار من دون سلام ولا صفقات حقيقية من دون إيقاف الحروب والصراعات التي تحرق الأخضر واليابس.
ومما تقدم وعلى أساسه فإن العالم اليوم يعلق آمالا كبيرة على ما نسميه «الترامبية» كسياسة قائمة على السلام وعلى عقد الصفقات، والحروب الحقيقية تكون في مجالات الاقتصاد والتجارة والضرائب والرسوم الجمركية. هذه هي الساحة التي تجري فيها المعارك الجديدة، وقد بدأت بوادرها الأولى حتى قبل أن يتسلم ترامب سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ذلك الخلاف المتفاقم مع جمهورية الصين الشعبية وتهديد الرئيس ترامب لهذا البلد بفرض المزيد من الرسوم الجمركية لسد الفجوة في الميزان التجاري بين البلدين حيث لا يخفى أن البضائع والسلع الصينية غزت السوق الأمريكية بجدارة واستحقاق بما يؤدي بالمستهلك الأمريكي إلى شرائها على حساب السلع والبضائع الأمريكية الأغلى سعرا وربما حتى الأقل جودة في بعض الأحيان، وبذلك فإن الفائض التجاري الصيني مع الولايات المتحدة الأمريكية يقلق ترامب بشكل كبير ومزعج.
والأمر لا يختلف كثيرا مع الجارة الكبرى كندا التي يهددها بشكل صريح وعلني باتخاذ إجراءات مماثلة بزيادة نسبة الرسوم الجمركية على السلع والبضائع الكندية ما سيخلق أزمة أخرى لا تقل خطورة عن الأولى.
وعلى صعيد الأمن الأوروبي فإن نظرة ترامب تقوم على أساسين اثنين:
الأول: رفع نسبة الانفاق العسكري في دول الناتو الأخرى من 2% إلى 5% وهي نسبة ليست سهلة قد تصل إلى أكثر 100 مليار سنويا، وهذا أمر لا تستطيع دول الاتحاد الأوروبي اليوم تحمله حيث يرى ترامب أن هذه الدول يجب أن تعتمد على مواردها لتأمين الحماية الأمنية والعسكرية لها وأن الولايات المتحدة الأمريكية ليس بوسعها مواصلة الإنفاق بلا حدود على أمن واستقرار هذه البلدان إذا لم ترفع هذه الدول نسبة الإنفاق العسكري وشراء السلاح الأمريكي.
الثاني: تعديل الميزان التجاري بين دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية بنفس المنطق مع كندا والصين بزيادة الشراء من الولايات المتحدة الأمريكية وخاصة شراء النفط والغاز على حساب روسيا الاتحادية التي سعت الولايات المتحدة الأمريكية مثلما كانت منذ سنوات عديدة إلى قطع العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وروسيا على الصعيد التجاري وهذا ولا شك ينبئ بمعارك جديدة ساحتها وأدواتها وأسلحتها الاقتصاد والتجارة.
أما على صعيد البلدان الأخرى مثل دولنا الخليجية فإن نفس المنطق سوف يسود على الأرجح وإن يتخذ أسلوب الصفقات وتعزيز التعاون الأمني العسكري الاقتصادي التجاري ستستفيد منه الولايات المتحدة الأمريكية كما هذه الدول وغيرها.
إذن المرحلة الجديدة على ما يبدو ستحمل هذين الملفين معا؛ ملف إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية على أسس واقعية وإنهاء سلسلة الحروب في الشرق الأوسط واستمرار الضغط على إيران لإنهاء تمددها وخاصة بعد الضربات التي وجهتها إسرائيل إلى حزب الله وبعد خروج المليشيات الإيرانية من سوريا والتركيز سيكون أولا على الساحة العراقية التي ستكون على الأرجح مسرحا للصراع الأمريكي الإيراني أو ستكون مسرحا للوصول إلى حلول توافقية أو العودة إلى حالة التوتر المزمنة، والأيام حبلى باحتمالات لا ندري ماهيتها اليوم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك