كان التعليم ولا يزال البنية التحتية التي تقام عليها الأمم، والرافعة التي تنتشل المجتمعات من أزماتها لتعيد صياغة مصائرها. إنه ليس وسيلة لنقل المعرفة فحسب، بل هو طاقة دائمة تحرك عجلة التطور وترسم مسارات المستقبل. كل أمة استثمرت في التعليم خلفت وراءها إرثا ملهما، وأثبتت أن التقدم يبدأ من عقول تصقل بالمعرفة.
في البحرين، أدركت المملكة منذ وقت مبكر أن التعليم هو العصب الحيوي للتنمية، ففي عام 1919، تأسست مدرسة الهداية الخليفية، أول مدرسة نظامية في الخليج العربي، ما مثل نقطة انطلاق لمسيرة تعليمية طويلة. هذه البداية شكلت حجر الأساس لنظام تعليمي يهدف إلى التطوير المستمر. لاحقا، امتدت الجهود إلى إنشاء الجامعات وتطوير المناهج لتتواكب مع التحولات العالمية، مع التركيز على ربط التعليم بمتطلبات سوق العمل، ما أسهم في تمكين الشباب وبناء اقتصاد قائم على المعرفة.
وتستشرف البحرين، في رؤيتها 2030، آفاقا جديدة لتطوير منظومتها التعليمية. لتتحول الجامعات إلى مختبرات للمستقبل، بينما أصبحت المناهج أكثر ارتباطا بالاحتياجات العالمية. هذه الجهود أثمرت عن تحسين التصنيفات الأكاديمية عالميا، فضلا عن السعي للنجاح في رقمنة التعليم، ما يعزز طموحات بلدنا في أن يصبح مركزا إقليميا للتميز التعليمي.
في مختلف أنحاء العالم، تؤكد قصص النجاح أن التعليم هو مفتاح النهضة والتنمية. في اليابان، كانت أنقاض الحرب العالمية الثانية حافزا لبناء نظام تعليمي يمزج بين القيم والانضباط، ما أطلق نهضة صناعية أبهرت العالم. كوريا الجنوبية، بدورها، حولت رماد الحرب إلى أسس صلبة للنمو، حيث آمنت بقوة العلم في تحقيق الصعود الاقتصادي، وهو ما تجلى في بروز شركات مثل سامسونج وهيونداي. أما سنغافورة، فقد كتبت قصة نجاح استثنائية، إذ خصصت جزءا كبيرا من ميزانيتها للتعليم والبحث العلمي، مما حولها من جزيرة صغيرة إلى مركز اقتصادي عالمي.
وعلى الجانب الآخر من آسيا، تقدم الصين نموذجا رائدا يبرز كيف يمكن للتعليم أن يكون المحرك الرئيسي للتحول، بعد أن انتقلت خلال أربعة عقود فقط من اقتصاد زراعي بسيط إلى ثاني أكبر قوة اقتصادية عالمية، عبر نظام تعليمي يركز على العلوم والتقنيات الحديثة.
إلى جانب هذه النماذج، تبرز الشراكات الدولية بعدا آخر في تعزيز التعليم. لقد أسهمت برامج التوأمة بين الجامعات والتعاون العابر للحدود في تقليل الفجوات المعرفية بين الدول، مع إتاحة الفرص للطلاب للوصول إلى مستويات تعليمية متقدمة. من خلال مشاريع بحثية مشتركة وبرامج تبادل أكاديمي، أصبحت الجامعات منصة لتطوير المهارات وتعزيز البحث العلمي، ما يعيد تشكيل مستقبل التعليم في بيئة عالمية متكاملة.
في شمال أوروبا، سطرت فنلندا نموذجا استثنائيا، متحدية طبيعتها القاسية التي يغطيها الثلج لنصف العام. أدرك الفنلنديون مبكرا أن الاستثمار الحقيقي يكمن في العقول، فرفعوا مكانة المعلم ليصبح في منزلة الطبيب، وصمموا مناهج تحفز التفكير النقدي وتشجع الإبداع. هذه السياسات صنعت أجيالا من المبتكرين الذين يقودون العالم اليوم بفكرهم وشغفهم.
التعلم هو أعظم أداة منحها الخالق للإنسان لتطوير قدراته. عندما يخوض العقل تجربة معرفية جديدة، فإنه لا يكتفي بتخزين المعلومات، بل يعيد هيكلة نفسه بشكل يمكنه من مواجهة التحديات. الأبحاث العلمية تكشف أن العقل يستجيب للتعلم عبر بناء شبكات عصبية تشبه خريطة حية تنمو وتتطور مع كل معرفة مكتسبة. هذه العملية تجعل الإنسان قادرًا على تحويل الأفكار إلى واقع ملموس، مظهرا بذلك القدرة الفريدة التي جبِل عليها في السعي نحو التقدم والإبداع. إنها دعوة للتأمل في كيفية تصميم عقولنا لتكون نافذة مفتوحة دائما نحو مستقبل جديد.
تكشف التحولات الاجتماعية عمق أثر المعرفة في تشكيل المجتمعات. رواندا مثالٌ حي، حيث تحولت من بلد مزقته الحرب إلى نموذج عالمي للتنمية، لتتصدر المشهد العالمي بنسبة تمثيل المرأة في البرلمان التي تجاوزت 61%. هذا الإنجاز لم يكن ممكنا دون سياسات تعليمية طموحة آمنت بأن التعليم هو السبيل الوحيد لإعادة بناء المجتمع.
على ضفاف البلطيق، وضعت إستونيا نفسها في طليعة الثورة الرقمية عبر إدخال البرمجة إلى المناهج الدراسية منذ المراحل الأولى. الفصول الدراسية تحولت إلى مختبرات رقمية، مما جعل التعليم بوابة للتحول الرقمي وريادة الأعمال التقنية.
العالم مليء بالدروس التي تؤكد أن التعليم ليس خيارًا، بل هو ضرورة تمليها تطلعات المجتمعات وطموحات الأفراد. بين قصص النجاح التي شهدها العالم ودروس التاريخ التي لا تنتهي، يظل السؤال مفتوحا: كيف يمكننا أن نصنع قصتنا الخاصة؟ الإجابة تبدأ من الإيمان بأن التعليم ليس مفتاحا للمستقبل فحسب، وإنما الجسر الذي يعبر بنا نحو أحلامنا، شرط أن نحسن الاستثمار فيه ونوجهه نحو تحقيق التغيير المنشود.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك