مع انتهاء ولاية الرئيس الديمقراطي «جو بايدن» -التي استمرت فترة واحدة- وعودة «دونالد ترامب»، إلى البيت الأبيض يوم 20 يناير 2025، أصدرت وسائل الإعلام الغربية العديد من التقارير التي استعرضت إرث «إدارة بايدن»، متناولة نجاحاتها وإخفاقاتها.
وعلى الرغم من قرار «بايدن»، بإعادة الترشح للانتخابات الرئاسية لعام 2024، فإن نهاية فترة حكمه شهدت استبداله بنائبته «كامالا هاريس»، وسط تراجع شعبيته التي وصلت إلى 39%، مع ارتباط حكمه بسمعة الركود الاقتصادي، والأثر السلبي الكبير الذي خلفته إدارته على الساحة الدولية، بسبب سياساتها الداعمة للقصف الإسرائيلي الوحشي واحتلال غزة، وما ترتب على ذلك من تداعيات إنسانية مدمرة؛ ما ألقى بظلال قاتمة على سمعة الحكومة المنتهية ولايتها.
وفي تقرير لمجلة «فورين أفيرز»، عبّرت «سارة ياجر»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، عن خيبة أملها إزاء أداء «إدارة بايدن»، في مجال حقوق الإنسان، مشيرة إلى أن التخلي عن سياسة خارجية كان قد ادعى التزامه بها سيُسبب «تكاليف أخلاقية واستراتيجية» خطيرة للولايات المتحدة. ومع ذلك، لا يقع عبء هذا الفشل الأخلاقي والسياسي عليه وحده، حيث أكد «جوناثان جوير»، في مجلة «ذا نيشن»، أن وزير الخارجية «أنتوني بلينكن»، «لن يُذكر اسمه بسبب نجاحاته»، خلال توليه الدبلوماسية الأمريكية، بل بسبب «الكارثة الإنسانية التي أسهم في تشجيعها ودعمها».
وفي عام 2021، أشار «كينيث روث»، من منظمة «هيومن رايتس ووتش»، إلى أن فوز «بايدن»، على «ترامب»، في الانتخابات الرئاسية -بعد أربع سنوات من حكم رئيس تجاهل حقوق الإنسان وعاداها بشكل كبير- كان يمثل «فرصة لتغيير جذري» لدعم القانون الإنساني الدولي ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات. وخلال الأشهر الأولى من رئاسته، بدا أنه يسير نحو تحقيق هذا التحول، حيث أعاد عضوية الولايات المتحدة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة -والتي انسحب منها ترامب في 2018- وألغى العقوبات التي فرضتها الإدارة السابقة على المحكمة الجنائية الدولية. ومع ذلك، وكما وثقت «ياجر»، فقد انتهى به الأمر بصفته صانع القرار السياسي، إلى «تقويض هذه المثل العليا بنفسه». وكان أبرز دليل على ذلك تورطه في دعم حرب إسرائيل ضد غزة، ما شكل تناقضًا واضحًا مع وعوده وتعهداته السابقة بدعم حقوق الإنسان.
ومنذ أكتوبر 2023، سجلت «الأمم المتحدة»، استشهاد ما يربو على 45.000 فلسطيني في غزة -غالبيتهم من النساء والأطفال- على الرغم من نشر مجلة «لانسيت» تقريرًا يشير إلى أن حصيلة الشهداء كانت أعلى بنسبة 41% مما جرى الإبلاغ عنه بين أكتوبر 2023 ويونيو 2024 بأكثر من 64.000 حالة. وأدان «جوناثان دومونت»، من «برنامج الغذاء العالمي»، تصميم إسرائيل المتعمد على فرض ظروف إنسانية كارثية في غزة، وهو ما دفع «المحكمة الجنائية الدولية»، إلى إصدار أوامر اعتقال دولية بحق رئيس وزرائها «بنيامين نتنياهو»، ووزير دفاعه السابق «يوآف جالانت». وأعرب «دومونت»، عن أسفه البالغ إزاء حجم الدمار داخل الأراضي الفلسطينية، مشيرًا إلى أن الجميع تقريبًا فقدوا منازلهم»، ما أجبر معظم السكان على «العيش في خيام».
ومن الواضح أن «بلينكن»، قد استشعر الندم على دوره في هذه الأزمة. وفي مقابلة مع «لولا جارسيا نافارو» من صحيفة «نيويورك تايمز» في يناير 2025، تحدث عن أن أحد «الأهداف الأساسية» لسياسة إدارته تجاه حرب إسرائيل في غزة، كان «بذل أقصى ما يمكن لضمان أن الأطفال والنساء والرجال الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران الحرب، حظوا بأكبر قدر ممكن من الحماية وتلقوا المساعدة اللازمة للبقاء على قيد الحياة في ظل هذا الصراع».
وعلى النقيض من ذلك، أرسلت الإدارة الديمقراطية حوالي 18 مليار دولار من المساعدات العسكرية إلى إسرائيل منذ أكتوبر 2023، والتي تم توثيق استخدامها -بما في ذلك القنابل والذخائر الأمريكية- ضد المدنيين الفلسطينيين والبنية التحتية المدنية. وفي آخر قراراتها في البيت الأبيض وافقت على نقل أسلحة إضافية بقيمة 8 مليارات دولار.
وخلال حديثه مع «نافارو»، تناول «بلينكن»، مسألة تدمير إسرائيل لغزة والمعاناة الهائلة التي لحقت بالمدنيين الفلسطينيين، مؤكدًا أن «لا أحد يحتاج إلى تذكيري بتلك المعاناة، فهي شيء أراه أمام عيني كل يوم». ومع ذلك، شدد على التزام الإدارة الأمريكية بقوله: «لقد كنا وما زلنا ملتزمين بشكل أساسي بالدفاع عن إسرائيل».
وفي مقابل هذا الادعاء، صرح «مايك كيسي» -الذي استقال من منصبه كنائب المستشار السياسي بالخارجية الأمريكية، احتجاجًا على سياسات إدارة بايدن تجاه أعداد الوفيات من المدنيين الفلسطينيين- لصحيفة «الجارديان»، كيف تم تجاهل تقارير التحديث اليومية حول وفيات النساء والأطفال مرارًا وتكرارًا، وكيف تم رفض المقترحات الخاصة بإعادة بناء الأراضي بعد الحرب على أساس تقديم المساعدات الإنسانية واستتباب البنية التحتية الأمنية، بما يتوافق مع تفضيلات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، التي أوضحت أن أهدافها طويلة المدى تكمن في ضم الأراضي الفلسطينية بالكامل، وفرض النزوح الجماعي على الشعب الفلسطيني إلى البلدان المجاورة.
وفي محاولة لتبرير الهجمات الإسرائيلية على المدنيين في غزة، زعم «بلينكن»، أن الجيش الإسرائيلي «يعمل في بيئة فريدة واستثنائية من نوعها»؛ إلا أن هذا الموقف قوبل بانتقادات حادة من «ياجر»، التي أشارت إلى التناقض الواضح في سياسة «إدارة بايدن». ففي حين كانت الإدارة الأمريكية صريحة في انتقاد الجرائم الروسية في أوكرانيا منذ فبراير 2022، ودعمت قرارات أممية تطالب بوقف الحرب، وأشادت بقرار «المحكمة الجنائية الدولية»، بإصدار مذكرات توقيف دولية بحق مسؤولين روس، بمن فيهم «فلاديمير بوتين» في 2023؛ فقد اتخذت «موقفًا مغايرًا»، تجاه الجرائم الإسرائيلية، حيث «تجاهلت أو دافعت عن هذه الجرائم»، التي استهدفت المدنيين الفلسطينيين في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، ولبنان. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل «عرقلت الجهود الدولية للمحاسبة»، من خلال تقويض شرعية «المحكمة الجنائية الدولية»، واعتراض قرارات «مجلس الأمن»، التي دعت إلى وقف إطلاق النار لمواجهة العدوان الإسرائيلي.
ونتيجة لذلك، تعرضت «الخارجية الأمريكية»، في عهد «بلينكن»، لدعاوى قانونية غير مسبوقة من ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، حيث اتهمها الفلسطينيون والفلسطينيون الأمريكيون، بتعمد تجاوز قوانين حقوق الإنسان الأمريكية، لا سيما قانون «ليهي»، الذي ينص على منع البيت الأبيض من تقديم المساعدات العسكرية للدول التي تُثبت ارتكابها لانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وهو ما أثار جدلاً واسعًا بشأن التناقض في تطبيق السياسة الأمريكية بين مناطق النزاع المختلفة.
وكما أكدت «سارة ليا ويتسون»، من منظمة «الديمقراطية للعالم العربي الآن»، فإن «الخارجية الأمريكية»، تسعى إلى ترويج فكرة مفادها؛ أن «أي وحدة إسرائيلية لم ترتكب انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان»، وهو ما وصفته بالادعاء الذي «يتعارض تمامًا مع الكم الهائل من تقارير حقوق الإنسان والأدلة الصحفية، ونتائج التحقيقات التي أجرتها الوكالات الداخلية للخارجية الأمريكية نفسها»، والتي تعمد «بلينكن»، تجاهلها بوضوح.
وفيما يتعلق بهذه الاتهامات، ذكر «جوش بول» -الذي استقال من وزارة الخارجية احتجاجًا على مبيعات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل في أكتوبر 2023 بعد أحد عشر عامًا من ترؤسه مكتب الشؤون السياسية والعسكرية -كيف شاهد حالات متكررة من «انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تم تقديمها، وكان كبار المسؤولين غير راغبين في اتخاذ إجراءات بشأنها؛ خوفًا من العواقب السياسية».
ومع انتهاء فترة «بايدن»، وعودة سلفه إلى المنصب، أشارت «ياجر»، إلى أن المنتقدين الدائمين للمعايير المزدوجة للولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان، قد «يواجهون معايير مشابهة إذا تخلّى ترامب عن التظاهر بالاهتمام بحقوق الإنسان» للشعوب خارج الولايات المتحدة. لكنها، حذرت أيضًا من أن «إلغاء حقوق الإنسان من السياسة الخارجية الأمريكية -كما فعلت العديد من قرارات «بايدن» -سيضر بشكل خطير بمصالح واشنطن والنظام الدولي على نطاق أوسع». واتفق «جوير» مع هذا الرأي، مشيرًا إلى أنه بالإضافة إلى الخسارة الفادحة في الأرواح، فإن تدمير إسرائيل لفلسطين»، برعاية بايدن وبلينكن، «سيترك تأثيرًا أعمق وأطول أمدًا على الولايات المتحدة»، حيث سيقوض «تطبيق القانون الإنساني الدولي عالميًا»، مما يؤدي إلى «تشجيع الجيوش على شن عمليات حربية عشوائية ضد الشعوب المهمشة».
ومع الترقب للسياسات الخارجية التي سيقودها الجمهوريون خلال السنوات الأربع المقبلة، والتي من المتوقع أن تكون أكثر تأييدًا لإسرائيل، حذرت «ياجر»، من أن «الأضرار التي قد يلحقها ترامب بقضية حقوق الإنسان قد تدفع البعض للنظر إلى فترة بايدن بحنين». ومع ذلك، نبهت إلى أن مثل هذا التصور «سيشوه الصورة الحقيقية» لسجل حقوق الإنسان في «إدارة بايدن»، خاصة أنه ووزير خارجيته، «بلينكن»، قد «تخليا عن استراتيجيتهما الخاصة»، وهو ما «مهّد الطريق إلى سباق نحو القاع»، في التجاهل المتعمد للقانون الدولي، والمحاسبة عن الانتهاكات، بما في ذلك جرائم الحرب المرتكبة ضد المدنيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك