مملكة البحرين وسلطنة عمان تجمعهما علاقة خاصة يشعر بها المواطن البحريني منذ أول خطوة يخطوها في عمان والعكس صحيح، يلمس خلال زيارته هذه الاصالة العمانية والمحبة المتبادلة. الزيارة الميمونة لجلالة الملك هي تجسيد لهذه العلاقة وتعميق لها. خلال الزيارة، تم التوقيع على اتفاقية وعدد من مذكرات التفاهم ست منها ارتبطت بالجانب الاقتصادي بشكل مباشر مثل سوق الأوراق المالية، وفرص الاستثمار المتبادل، والتمكين الصناعي وتنمية المحتوى الوطني، والأمن الغذائي وقطاع الزراعة، وإنشاء وتطوير المناطق الاقتصادية والصناعية والمجال العلمي والتربوي. ما نلحظه هو الترابط بين عناصرها التي ستعمل معا لتعزيز اقتصاد كل من البلدين وتطوير التكامل بينهما. إن أي نوع من التقارب الثنائي بين الدول العربية من شأنه أن يقوي التعاون الخليجي ويتقدم بالتكامل العربي.
مثل هذا التعاون يمكن أن يطور المشاريع المشتركة ويعزز من جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية (على أن تكون مصحوبة بحوافز لنقل التكنولوجيا وتوطينها)، وتوفير فرص عمل متنوعة لمواطني البلدين، ودعم القدرات المحلية في التدريب والتطوير المهني. المجالات المفتوحة لمثل هذا التعاون كثيرة، خصوصا إذا ما توسعت لتشمل مجلس التعاون. أهم هذه المجالات هو تطوير الصناعة العربية بالاستثمار في القطاع الصناعي بصفة خاصة، وما يتطلبه من نقلة نوعية في التعليم تتوافق مع متطلبات الصناعة والبحث العلمي، وانفتاح فكري على مهارات القرن الواحد والعشرين لدعم الابتكار والتكنولوجيا الحديثة. كذلك يمكن تعزيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة وتطوير البنى التحتية، خصوصا المواصلات البينية، وإنشاء المشاريع الزراعية لتعزيز الأمن الغذائي والمائي العربي. فمنطقتنا العربية هي أكثر مناطق العالم فقرا للمياه، وباستغلال الطاقة الشمسية يمكن تغيير هذه الأوضاع.
الآن، وبعد أن تم توقيع الاتفاقية ومذكرات التفاهم، يأتي دور الجهات المعنية في تشكيل اللجان لوضع الآلية لتفعيلها والاستفادة منها بوضع الأسس الإدارية وتحديد مؤشرات لمتابعة التنفيذ وتقييم النتائج، والنظر في توسيع نطاقها على مستوى الخليج والوطن العربي قدر الإمكان. نرى أن تهتم اللجان بالنظر في كيف يمكن أن تستثمر مثل هذه العلاقات بين الدول العربية جميعها على مستوى المصالح المشتركة والمنطق السوي الذي يقول في التجمع قوة وفي التفرقة ضعف.
مهم جدا في هذا الصدد أن نؤكد دور القطاع الخاص، الذي يمكن أن يلعب دورا مهما في تعميق التكامل. كيف سيكون هذا الدور وما الآليات التي ستوضع لتمكين القطاع الخاص من المشاركة الفاعلة والمؤثرة في تعزيز التكامل الذي تهدف إليه الاتفاقية، والمساهمة في تحقيق النتائج الايجابية للطرفين، مع أن الاتفاقية لم تذكر بشكل مباشر الشركات الصغيرة والمتوسطة، غير أن القطاع الخاص المحرك الرئيسي في وضع الآليات والسياسات سوف يفسح المجال لأخذ تنمية الشركات الصغيرة والمتوسطة في الاعتبار وخصوصا أنها عماد الاقتصاد وهي الجهة الأكثر قدرة على الإبداع والابتكار إذا ما توافرت البيئة الريادية والاستثمارية، والهيكلية الاقتصادية المناسبة.
من الأمور التي لم تغفلها التفاهمات هي قضية الإنتاج العلمي والمعرفي، فقد ورد ذلك في مذكرة التفاهم رقم (5) الهادفة إلى تطوير التعاون في هذا المجال. الاهتمام بالإنتاج المعرفي والتطور العلمي والتربوي في غاية الأهمية لأي اقتصاد، وإدراج مذكرة في هذه الزيارة لهذه الغاية بتوقيع وزيري الخارجية يشير إلى مجال اوسع من التعاون على مستوى الدول. قد يكون هذا البند من أهم بنود الاتفاق ونأمل أن يشمل تطوير المناهج التربوية وغرس مهارات القرن الواحد والعشرين في وعي الطلبة ليكونوا طلائع المستقبل، ورأس الحربة في بناء منظومة اقتصادية متكاملة بين البلدين.
الأمة أحوج ما تكون إلى هذه الروح البحرينية العمانية اليوم أكثر من أي وقت مضى. بدأت التوجهات التكاملية العربية الحديثة منذ خمسينيات القرن الماضي مع قيام الجامعة العربية، ومع ذلك فهي أقل المناطق تكاملا. تعرضت التوجهات التكاملية إلى تراجعات متعددة، وفي الفترة نفسها قامت تكتلات إقليمية عربية مثل المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي وتكتلات أخرى مثل اتفاقية ميثاق «أغادير» الذي ضم مصر، الأردن، تونس والمغرب، وهدفت هذه التكتلات إلى تطوير التكامل الاقتصادي، وبشكل خاص تنمية التبادل التجاري فيما بين دول المنطقة. شكل التكامل الاقتصادي وسيلة لخلق فرص عمل وتحفيز للاستثمار والدفع بالتحول الهيكلي نحو نماذج اقتصادية أكثر تنوعا وأوسع نطاقا، لكن مازالت الروابط فيما بين الدول العربية محدودة وبطيئة النمو. فالتجارة البينية العربية لا تتجاوز 10% من مجمل التجارة العربية مع العالم (التقرير العربي الاقتصادي الموحد 2024). سعت بعضها للصمود في وجه محاولات غربية لتشتيت الجهود وتمزيق الأمة بمشاريع أمريكية وأوروبية، تمر الأمة الآن بواحدة من أصعب حالات التراجع مع العدوان الصهيوني على غزة.
من بين المسارات التي ستعزز من تطوير التكامل العربي هو إيجاد المواصلات البرية بين الدول العربية، وخصوصا بين المشرق والمغرب العربي. في تقرير الاسكوا 2014 (التكامل العربي: سـبيل لنهضـة إنسـانية) يرى أنه لا بديل للأمة العربية عن تفعيل مشروع التكامل العربي لتحقيق أي نوع من النهضة العربية لتحرر الإنسان من الخوف والفقر، وتحرير الأوطان من التبعية والاستباحة وتمكين الأمة من استئناف دورها التاريخي. يقول منتدى التكامل الاقتصادي الذي أقيم في مايو 2022: «الاقتصاد العربي هو ما سيوحد الأمة العربية». مشروع التكامل العربي لا يأتي ليعزل الوطن العربي عن محيطه بل ليوطد العلاقات مع العمق الإفريقي والآسيوي. هذا التوجه التكاملي سوف يعزز التحول الديمقراطي في الوطن العربي وهو السبيل لنهضة عربية قادمة وتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية. مهمتنا، أنظمة ومجتمعات، توفير الظروف المناسبة لهذا التحول، والتفاهمات البحرينية العمانية خطوة في هذا الاتجاه.
drmekuwaiti@gmain.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك