انتصرتْ غزة بعد أن صمدت، وصبرت، وصابرت أكثر من 15 شهرا ليس أمام جيش الكيان الصهيوني فحسب الذي يُعد من أقوى جيوش منطقة الشرق الأوسط، وإنما أمام قوات بعض الدول الغربية التي دعمت هذا الكيان الهش الضعيف منذ الساعة الأولى عسكرياً بالسلاح والذخيرة والجنود على الأرض، إضافة إلى المدد المعلوماتي والاستخباراتي على الأرض وفي أعالي السماء، والمساعدة المالية اللامحدودة، والدعم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي.
وانتصرت غزة عندما فشل الكيان الصهيوني في تحقيق جميع أهداف حرب الإبادة المعلنة. فقد فشل في تحرير الأسرى بقوة السلاح، فالمقاومة احتفظت بالأسرى تحت الضغوط العسكرية المدمرة، والضغوط السياسية والدبلوماسية العنيفة، وتحت التهديد والوعيد من الحكومات ومنظمات الأمم المتحدة، كما فشل في استئصال المقاومة بكل فصائلها والتخلص منها كلياً، وفي مقدمتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي.
وانتصرت غزة عندما أرهبتْ الشعب الصهيوني ولأول مرة في داخل الأرض المحتلة، وألقت في قلوبهم الرعب والفزع والألم الشديد، فجعلتهم يهربون من القرى والمدن والمستوطنات ومنازلهم المغتصبة إلى خارج الكيان الصهيوني بحثاً عن الأمن والأمان والسلام، بل وهرب الكثير منهم خارج البلاد.
وانتصرت غزة عندما أعلن زعماء وقادة الكيان الصهيوني والدول الغربية بأنها حرب وجودية مصيرية بالنسبة إلى هذا الكيان، مما اضطر قادة الغرب إلى الجري سريعاً خائفين ومذعورين لزيارة للكيان الصهيوني واحداً تلو الآخر لطمأنته ومواساته على ضمان وجوده ومصيره في المنطقة، وتعهدهم بدعمه بالسلاح والزاد والعتاد، والمال، إضافة إلى الدعم العسكري والإعلامي.
وانتصرت غزة عندما قتلت وجرحت وأسرت من الصهاينة في أيام قليلة أكثر مما قتلت كل الجيوش العربية في حروبها التي خاضتها ضد الكيان الصهيوني، ودمرت من المعدات الثقيلة والخفيفة ما لا يمكن حصره وعده. وكل هذا الانتصار كان بأسلحة تقليدية بسيطة محلية الصنع، وبمعدات قديمة غير متطورة. ولكن واجهت هذا العدو الهمجي برجالٍ أشداء أقوياء صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووقفوا وقوف الجبال الشامخات التي لا تهتز ولا تتزحزح أمام جبروت الصهاينة والغرب وقوتهم العسكرية المتفوقة عدداً وعُدة.
وانتصرت غزة عندما أطلقت الآلاف من السجناء الفلسطينيين القابعين عشرات السنين في سجون الاحتلال، ولولا هذا النصر المبين للمقاومة لما خرجوا منها أحياء أبداً.
وانتصرت غزة عندما أدخلت الكيان الصهيوني ولأول مرة في أروقة المحاكم الدولية التي كان لا يعترف بها وبقراراتها، بل ويعتبر نفسه فوق أي قانون أو قرار دولي، وبالتحديد في محكمة العدل الدولية. فنال الكيان الصهيوني شهادة ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية التاريخية للبشر والشجر والحجر. كما انتصرت غزة عندما طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية في 20 مايو 2024 إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع في الكيان الصهيوني، إضافة إلى طلب محكمة العدل الدولية في 24 مايو 2024 وبالأغلبية المطلقة ولأول مرة في تاريخ هذه المحكمة وقف العملية العسكرية فوراً في رفح.
وانتصرت غزة عندما سحب الاتحاد الإفريقي صفة «العضو المراقب» الذي كان يتمتع به الكيان الصهيوني داخل الجمعية العامة للاتحاد الإفريقي، ما يعني أنه تم حظر تل أبيب بشكل نهائي بعد عقودٍ من الجهود الدبلوماسية وسنتين من اعتماد تلك الصفة في 19 فبراير 2024.
وانتصرت غزة عندما جعلت الولايات المتحدة الأمريكية، الأب الروحي للكيان الصهيوني تنتقد وبشدة ولأول مرة ممارسات نتنياهو والحكومة اليمينية المتطرفة، بل وانتقل هذا الانتقاد إلى الدول الغربية الأخرى الداعمة الرئيسة والمستمرة لهذا الكيان الضعيف، كما جعلت قضية غزة تتصدر الانتخابات الرئاسية في أمريكا وفي الدول الأوروبية الأخرى، مثل بريطانيا وفرنسا.
وانتصرت غزة عندما وجَّهت بوصلة اهتمام العالم أجمع نحو غزة ونحو القضية الفلسطينية المنسية والمهملة طوال العقود الماضية، والتي كانت في طريقها نحو التصفية النهائية والنسيان. فالمسيرات والتظاهرات المليونية عمَّت دول الكرة الأرضية برمتها دفاعاً عن غزة وضد الكيان الصهيوني وسياسة الفصل العنصري والإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر. وبعض هذه المظاهرات كانت في دول حكوماتها، ومازالت منحازة للظالم الصهيوني وسياساته المجرمة المعتدية، فغزة انتصرت عندما كسبت الرأي العام العالمي وتعاطف الشعوب، والتضامن القوي من رجال الفكر والسياسة والإعلام، ورجال الفن والرياضة، ومن أصحاب الضمائر الحية.
وانتصرت غزة عندما تبنى مجلس حقوق الإنسان في الخامس من أبريل 2024 وبأغلبية 28 صوتاً من أصل 47، قراراً يدعو إلى محاسبة إسرائيل على جرائم حرب مُحتملة ارتكبتها خلال عدوانها على قطاع غزّة، إضافة إلى الدعوة إلى وقف أي مبيعات للأسلحة.
وانتصرت غزة عندما وافقت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 10 مايو 2024 وبالأغلبية الساحقة وهي 143 دولة، على إعطاء دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة. كما انتصرت غزة عندما نُشر تقرير ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الخاص بالأطفال والنزاعات المسلحة في 7 يونيو 2024، حيث أدخل الكيان الصهيوني ضمن قائمة المجرمين والدول والمنظمات التي ارتكبت جرائم ضد الأطفال، فقتل أكثر من 15 ألف طفل في غزة.
وانتصرت غزة عندما وافق مجلس الأمن في 10 يونيو 2024 على قرار لوقف إطلاق النار، وهذا في تقديري قرار تاريخي لأنه يصب نسبياً في مصلحة الشعب الفلسطيني ومقاومته دون استخدام أمريكا للفيتو، أو حق النقض.
وانتصرت غزة عندما صدر قرار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو 2024 ضد الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، ودعت الكيان الصهيوني إلى سرعة إنهاء الاحتلال، وتقديم التعويضات الكاملة للممارسات الخاطئة التي قام بها.
وانتصرت غزة عندما أضرب الشعب الصهيوني عن العمل وخرج في مظاهرات كبيرة في الأسبوع الأول من سبتمبر 2024 ضد نتنياهو وتضحيته بالأسرى الصهاينة عند المقاومة من أجل مصالحه الشخصية وبقائه في الحكم.
وانتصرت غزة عندما أصدرت محكمة الجنايات الدولية في 21 نوفمبر 2024 مذكرة اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع الصهيوني السابق، مما أكد ولأول مرة أن قادة الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني سيحاسبون دولياً كمجرمي حرب وضد الإنسانية، وأن هذا الكيان لم يعد فوق القانون الدولي.
وانتصرت غزة عندما تبنّت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 3 ديسمبر 2024 قراراً يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية مستقلة وعقد مؤتمر دولي في يونيو المقبل للدفع قُدماً باتجاه حلّ الدولتين.
وانتصرت غزة عندما أعلنتْ منظمة العفو الدولية في تقريرها المنشور في 4 ديسمبر 2024 أن الكيان الصهيوني يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فالعالم يشهد بالصوت والصورة مباشرة هذه الجرائم، ولكن يقف فقط صامتاً ومتفرجاً عليها دون أن يقشعر بدنه على ما يراه، ودون أن يرفع صوته وبندقيته. فهذا القرار من منظمة أممية حقوقية مرموقة يمحي ويزيل إلى الأبد الوهم بأن الجيش الصهيوني حمل وديع لا يعتدي على أحد، ومن أكثر جيوش العالم خُلقاً وانضباطاً، في حين أن الحقائق عرَّته وبينت أنه جيش همجي وعدواني ووحشي متعطش لإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ.
وانتصرت غزة عندما كشفت حال العجز والفرقة في الأمتين العربية والإسلامية، وكشفت قلة حيلتهم، وضعفهم، وتفرقهم، وهوانهم أمام الدول الأخرى، بل أزالت الغمامة عن بعض العرب من المفكرين والكتاب والإعلاميين وغيرهم الذين كانوا يتخفون تحت أسماء وشعارات براقة وتحررية وليبرالية، فكشفت عن صهيونيتهم، وتقاربهم الروحي والجسدي والعقلي مع الكيان الصهيوني. كما أظهرت في الوقت نفسه عن الوجه الحقيقي لجميع المجالس والمنظمات والوكالات الأممية، فأكدت للجميع أنها أدوات صورية ولا نفوذ حقيقي لها، وتخدم فقط مصالح الدول المتقدمة الكبرى ذات النفوذ الدولي القوي، وأنها وسائل ضغط تستخدم عند الحاجة ضد الدول الفقيرة والمستضعفة فقط.
فكل هذه الأحداث الجديدة التي نزلت على الكيان الصهيوني منذ السابع من أكتوبر 2023، حولت هذا الكيان المغتصب من دولة تفتخر بنفسها وتتكبر وتتعالى على المجتمع الدولي وتستهتر بالقوانين والمواثيق الدولية إلى دولة منبوذة ومعزولة ومعتدية، وحولت قادتها وجنودها إلى مجرمين مدانين ومطاردين ومطلوبين للعدالة حول العالم، فكل هذه المتغيرات والمستجدات التي يعاني منها الكيان الصهيوني، تدعوني إلى تأكيد معجزة انتصار غزة.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك