في ظل الدعم القوي الذي يقدمه المشرعون الأمريكيون لإسرائيل في حربها وغزوها واحتلالها لغزة، الذي أدى إلى تدهور الأوضاع المعيشية للمدنيين إلى مستوى الكارثة الإنسانية، أصدروا تهديدات صريحة تمس نزاهة «المحكمة الجنائية الدولية»، وسلامة مسؤوليها، عقب إعلان المدعي العام للمحكمة، «كريم خان»، للمرة الأولى عزمه إصدار مذكرات اعتقال دولية، بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، «بنيامين نتنياهو»، ووزير دفاعه –آنذاك -«يوآف جالانت»، بتهمة ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية منذ أكتوبر 2023.
وبلهجة شديدة التحدي، بعث النواب الأمريكيون رسالة تهديد مباشرة إلى «خان»، وقعها 12 عضوًا بارزًا من الحزب الجمهوري، من بينهم «ماركو روبيو»، وزير الخارجية الأمريكي باستهداف المدعي العام شخصيا، فضلا عن التحرك لـ«إنهاء كافة أشكال الدعم الأمريكي للمحكمة الجنائية»، و«معاقبة موظفيها وشركائها»، وأنهوا خطاب التهديد بعبارة «لقد تم تحذيرك». ولم يكن مفاجئًا، أن تكون هذه الشخصيات ذاتها من بين مئات أعضاء الكونجرس الذين رحبوا برئيس الوزراء الإسرائيلي «نتنياهو»، في واشنطن لاحقًا، ودعوه لإلقاء خطاب أمامهم في يوليو 2024.
وتصاعدت الحملة التي يقودها الساسة الأمريكيون المؤيدون بشدة لإسرائيل ضد الالتزامات القضائية المستقلة للمحكمة، والتي تهدف إلى محاسبة مرتكبي الجرائم، بدعم من إدارة البيت الأبيض بقيادة «جو بايدن»، وجاء ذلك عقب موافقة لجنة من قضاة المحكمة في نوفمبر 2024 على طلب مذكرة اعتقال «خان»، ما يفرض على الدول الـ124 الموقعة على «نظام روما»، احتجاز «نتنياهو»، و«جالانت»، كلما أمكن ذلك، وترحيلهما إلى لاهاي للمثول أمام المحكمة.
وفي التاسع من يناير 2025، وفيما وصفته «كارون ديميرجيان»، من صحيفة «نيويورك تايمز»، بأنه «هجوم مباشر» على «المحكمة الدولية»، بشأن جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة؛ أقر مجلس النواب الأمريكي مشروع قانون يُعرف رسميًا باسم «قانون مكافحة المحكمة غير الشرعية»، والذي إذا أضحى قانونًا ساريًا، فإنه سيقضي بفرض عقوبات على الأفراد والمنظمات والهيئات القانونية التي تحقق أو تحتجز أو تحاكم مواطني الولايات المتحدة وحلفاءها، بما في ذلك إسرائيل.
وبالفعل، وافق «مجلس النواب» على هذا القانون بأغلبية 243 صوتًا مقابل 140 صوتًا ضده، حيث انضم 45 نائبا ديمقراطيا إلى جميع الجمهوريين في دعم القانون. وينص هذا القانون على أن مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، سيواجهون إجراءات عقابية إذا قاموا بمقاضاة ما يُسمى «الأشخاص المحميين»، وهي فئة أوضحت «نيويورك تايمز»، أنها تشمل «جميع المسؤولين العسكريين والحكوميين الحاليين والسابقين في الولايات المتحدة»، بالإضافة إلى أولئك التابعين لـ«الحلفاء الذين لم يوافقوا على اختصاص المحكمة»، مما يشمل إسرائيل.
واعترف «مايك جونسون»، زعيم الحزب الجمهوري في مجلس النواب، بأن النية المتعمدة لهذا التشريع هي «تحجيم»، خان؛ وبمعنى آخر إجباره ومدعيّ المحكمة على إنهاء تحقيقاتهم في جرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. ومع فوز الجمهوريين بالأغلبية في الكونجرس، وكذلك الوصول إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2025؛ فإن إقرار هذا القانون بات أمرًا متوقعا. وذكرت «باتريشيا زنجرل»، من وكالة «رويترز»، كيف وعد «جون ثون»، زعيم الأغلبية الجمهورية الجديد بمجلس الشيوخ، «بالنظر السريع للقانون في مجلسه حتى يتمكن ترامب من التوقيع عليه كقانون بعد وقت قصير من تقلده منصبه».
من جانبها، استنكرت منظمات حقوق الإنسان، وخبراء القانون الدولي، محاولات المشرعين الأمريكيين فرض إجراءات عقابية على قضاة «الجنائية الدولية». وقُبيل تصويت مجلس النواب، كتبت أكثر من 100 منظمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك «هيومن رايتس ووتش»، و«منظمة العفو الدولية»، و«الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية»، و«المجلس الأمريكي لحقوق الإنسان»، و«مركز حقوق الإنسان في جامعة كاليفورنيا»، و«العيادة الدولية لحقوق الإنسان بجامعة بوسطن»؛ إلى أعضاء الكونجرس، وكذلك إدارة ترامب القادمة «للتنديد بمحاولات مهاجمة مؤسسة قضائية مستقلة»، وحثهم على «إعادة النظر في هذا الموقف المضلّل».
ورفضت هذه الرسالة الفكرة التي يتبناها النواب الأمريكيون بأن «العدالة يمكن استخدامها بشكل انتقائي لتعزيز المخاوف الجيوسياسية»، ووصفت مثل هذا الموقف بأنه «إهانة أخلاقية لكل من هم عُرضة للخطر وإلغاء لعالمية حقوق الإنسان»، وبالتالي، فإن الهجوم على مصداقية وعمل المحكمة أشبه بـ«الهجوم على مبدأ سيادة القانون ذاته». وفي أعقاب التصويت، أعلنت «منظمة العفو الدولية»، أنها ستستأنف قرارها بشأن المحكمة الجنائية الدولية، فيما استنكرت المنظمات غير الحكومية هذا القرار، ووصفته بأنه «مخيب للآمال بشكل عميق»، وأصرت على أن المحكمة الجنائية «جزء من نظام عالمي للعدالة الدولية كانت الولايات المتحدة من بين مهندسيه الرئيسيين»، ومن ثّم يتحتم عليها أن تحميه بدلاً من أن تسعى إلى تدميره.
ومن خلال التصويت لصالح تطبيق عقوبات، مثل «تجميد الأصول»، و«حظر السفر»، على موظفي المحكمة الجنائية الدولية -وهي التدابير التي من المفترض أن تصدر ضد منتهكي حقوق الإنسان، ومجرمي الحرب والتهديدات الحادة للأمن القومي- رأت منظمات حقوق الإنسان، أن الولايات المتحدة «جلبت على نفسها وصمة العار عبر انحيازها إلى جانب الإفلات من العقاب على حساب العدالة»، من خلال استخدام «أدوات انتقامية»، مصممة لإسكات المساءلة الدولية، وفي هذه الحالة ضد «دعم أساسي» للقانون الدولي «للضحايا الذين ليس لديهم أي ملجأ آخر للعدالة».
وأشارت «إليزابيث إيفنسون»، من «هيومن رايتس ووتش»، إلى أنه «ليس من المستغرب، أن يصوت المشرعون الأمريكيون بأغلبية كبيرة لصالح استهداف المدعين العامين في المحكمة الجنائية، الذين «يقومون بعملهم في السعي إلى تحقيق العدالة عن انتهاكات القانون الدولي، بما في ذلك جرائم الحرب»، وأكدت أن مثل هذه العقوبة يجب أن تظل سارية على «منتهكي حقوق الإنسان، وليس على من يسعون إلى محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات».
كما يعترف بهذه الحقيقة بعض المشرعين الأمريكيين. وانتقد «جيم ماكجفرن»، النائب الديمقراطي عن ولاية ماساتشوستس، أنصار هذا التشريع، الذين يريدون فرض عقوبات على المحكمة الجنائية، لأنهم «لا يريدون تطبيق القواعد على الجميع»، وتابع قائلاً: «لا يوجد مبرر دولي في الانتقام، وما نراه في غزة» من قبل إسرائيل «هو انتقام».
وفيما يتعلق بالتداعيات على مستقبل المحكمة، فإن خطاب الساسة الأمريكيين ضد استقلالها شبهه «براين ماست»، النائب الجمهوري عن فلوريدا رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، بـ«محكمة صورية»، وتعهد بعدم «التسامح»، مع من يسعون إلى تقديم مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى العدالة. ويُشير ذلك إلى حملة أوسع نطاقا لمحاولة تشويه سمعة المحكمة، ونزع الشرعية عن مهمتها، وبالتالي تمكين الولايات المتحدة وإسرائيل من مواصلة ارتكاب انتهاكات للقانون الدولي، وأفظع انتهاكات حقوق الإنسان ضد المدنيين الفلسطينيين.
وعلقت «منظمة العفو الدولية»، بأن تمرير هذا التشريع من قبل مجلس الشيوخ الأمريكي سيُسبب «ضررًا جسيمًا لمصالح جميع الضحايا حول العالم». وأبرزت الرسالة -سالفة الذكر- الموقعة من قبل منظمات غير حكومية أن العقوبات المفروضة على موظفي المحكمة، قد «تعرقل عملها في كافة القضايا الواقعة ضمن اختصاصها»، بما في ذلك الوضع في أوكرانيا والسودان، اللتين تُعدان «بالغتي الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة».
وفي الوقت الذي دعت فيه المنظمات غير الحكومية، الحكومات -خاصة الغربية- إلى «رفع أصواتها لمعارضة الهجمات على استقلال مؤسسات العدالة الدولية»، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية؛ أشار «مارتن كونيكني»، من «مشروع الشرق الأوسط الأوروبي»، إلى أن قرارات المشرعين الأمريكيين تثير «تساؤلات جوهرية حول جدوى وجود المحكمة، إذا امتنعت الدول عن الوفاء بالتزاماتها».
وتُعد جميع الدول الـ124 الموقعة على نظام روما الأساسي، «ملزمة قانونيًا»، بتنفيذ مذكرات التوقيف الصادرة بحق «نتنياهو»، و«جالانت»، في حال دخولهما نطاق ولايتها القضائية، ونقلهم إلى لاهاي للمحاكمة بتهم ارتكاب جرائم حرب. ومع ذلك، فإن المحكمة الجنائية الدولية، تفتقر إلى آلية إنفاذ خاصة بها لتنفيذ مذكرات التوقيف الدولية، مما يجعلها تعتمد بشكل كامل على تعاون الدول الأعضاء للوفاء بالتزاماتها وفقًا لطلبات المحكمة.
وفي ظل الضغوط المتزايدة التي تمارسها «الولايات المتحدة»، على الدول لعدم الامتثال لأوامر المحكمة، يُتوقع تصاعد هذه الضغوط بشكل أكبر مع عودة «ترامب»، إلى البيت الأبيض، ومن ثمّ، رفض الدول الغربية احتجاز نتنياهو أو جالانت. وقد تجلى ذلك بالفعل في رفض «بولندا»، اعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي أو تسليمه إذا زار البلاد للاحتفال بالذكرى الثمانين لتحرير معسكر الاعتقال النازي «أوشفيتز»، متجاهلة عمدا اتهامه من أكبر محكمة دولية في العالم، بتهم ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
وإزاء تصرفات زملائها الأعضاء في الكونجرس؛ نددت «رشيدة طليب»، النائبة الديمقراطية عن ولاية ميشيغان، بأن الأولوية القصوى للبرلمانيين الأمريكيين خلال أسبوعهم الأول من المداولات في 2025، لم تكن معالجة القضايا المحلية والاقتصادية العاجلة؛ بل «فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية لحماية نتنياهو»؛ حتى يتمكن «من مواصلة الإبادة الجماعية في غزة».
وكما أصبح واضحًا من تصرفات معظم الساسة الأمريكيين من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فإن حماية إسرائيل من المساءلة الدولية عن انتهاكاتها ضد الشعب الفلسطيني تشكل أهمية قصوى لأجندتهم وغاياتهم، ومن الواضح أنهم سيتخلون عن أي قيادة أمريكية فيما يتعلق بالقانون الدولي، أو الالتزامات تجاه بقية العالم لتحقيق هذه الغاية.
وفي مواجهة الاتهامات غير المستندة إلى أدلة من قبل أعضاء الكونجرس المؤيدين لإسرائيل، مثل الديمقراطي «ريتشي توريس»، عن ولاية نيويورك، الذي وصف أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بأنها «تسليح للقانون الدولي في أبشع صوره»؛ أشار «بريت ويلكنز»، من موقع «كومون دريمز»، إلى أن «توريس هو أكبر متلقٍ للتبرعات الانتخابية من جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل في الكونجرس»، بما في ذلك منظمة (أيباك)، ويكشف هذا مدى تأثير لوبي إسرائيل في الكونجرس ومدى تغلغل هذه الجماعات في عملية صنع القرار.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك