لم ينتظر ترامب طويلا للإفصاح عن نواياه التوسعية الجغرافية حول العالم، ولم يصبر قليلاً حتى بعد موعد تنصيبه رئيساً رسمياً للولايات المتحدة الأمريكية ليبين للعالمين طموحاته الاستعمارية البغيضة لبعض مناطق ودول العالم التي تتمتع بالسيادة والحكم الذاتي، سواء بالقوة العسكرية التقليدية المعروفة، أو بسلاح القوة الاقتصادية.
فها هو ترامب يعلن وبصوت عالٍ مسموع أمام الملأ في مؤتمر صحفي تلفزيوني مشهود عُقد في منزله المشهور في فلوريدا في السابع من يناير عن خططه الحالية والمستقبلية للانقضاض على الدول، وضمها إلى إمبراطورتيه الواسعة بحجج بالية ووهمية منها ضروريات الأمن القومي الأمريكي، وتعميم السلام والأمن على سطح الأرض، وحماية العالم الحر. وكأنه بهذه التوجهات الاحتلالية مازال يعيش في الحقبة الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر، حيث قامت الدول الكبرى بشن حملاتٍ عسكرية عقيمة على دول العالم الثالث المستضعفة عسكرياً وعلمياً في المشرق والقارة الأفريقية لتقسيمها، وتمزيقها، والاستيلاء عليها واحدة تلو الأخرى، وكأنها قطعة كبيرة من الكعك يأكل كل طرفٍ منها القطعة الأكبر، حسب قوته العسكرية، وجبروته، وقيادته، ونفوذه الدولي.
فهذا الرئيس الأمريكي المغرور بقوته، وسلطته، ونفوذ دولته، والذي تمت إدانته قضائيا بأنه «مجرم» في 10 يناير، يعيد مرة ثانية إلى الأذهان ذلك العهد البائد الأسود من تاريخ البشرية، ويرجع إلى العالم الذكريات المريرة السوداء المظلمة لتلك الحقبة الزمنية التي كان فيها المتنفذ القوي يأكل الضعيف ويعتدي على حرماته وسيادته، والغني والقوي يملي شروطه القاسية على الفقير والضعيف، فيتحول المستضعفون من حكومات وشعوب إلى عبيدٍ طائعين، خاضعين أذلاء يعملون تحت سوط وسلطة الدول القوية.
فأثناء مؤتمره الصحفي الذي استغرق نحو 70 دقيقة أكد نقطتين رئيستين تصبان في صميم اهتمام دول العالم أجمع، سواء بشكلٍ مباشر، أو غير مباشر. أما القضية الأولى التي طرحها الرئيس ترامب فكانت إعلان سياسته وتوجهاته القادمة في التعامل مع بعض دول العالم، وهي سياسة الغزو والاحتلال وضم بعض دول العالم إلى حظيرة الولايات المتحدة الأمريكية رغماً عن أنفها. وبالتحديد فقد أكد نيته في ضم أكبر جزيرة في العالم، وهي جزيرة جرينلاند ذات الموقع الاستراتيجي الدولي في القطب الشمالي. فهذه الجزيرة ذات سيادة وحكم ذاتي تحت مظلة الدنمارك، ويسكنها قرابة 57 ألف نسمة، وتعتبر من الجزر الثرية والغنية بالنفط والمعادن الأرضية النادرة التي يلهث وراءها الآن قطاع الطاقة النظيفة المتجددة. ولكي يؤكد للعالم صدق عزمه وجديته لإتمام هذه الصفة بأية وسيلة كانت، قام بإرسال ابنه إلى الجزيرة، حيث حطتْ طائرته على أرض مطار عاصمة الجزيرة في الثامن من يناير 2024 للاطلاع على الأوضاع في الجزيرة القطبية الشديدة البرودة.
كذلك أكد في المؤتمر الصحفي، كما أشار في عدة مناسبات أخرى من قبل على نيته ضم كندا لتُعتبر الولاية رقم (51) للولايات المتحدة الأمريكية، ثم أفصح أيضاً عن رغبته في احتلال قناة بنما التي أصبحت تحت هيمنة بنما في عام 1977، وأخيراً أفاد عن رغبته في تغيير الاسم التاريخي لخليج المكسيك إلى «خليج أمريكا».
والقضية الثانية الخطيرة والمهمة جداً والتي تهدد كل دول العالم، وبخاصة الدول المستضعفة والصغيرة التي لا تمتلك أسلحة دمار شامل أو غيرها من الأسلحة الرادعة، وليس لها أي نفوذ على المستوى الدولي، وهي أن ترامب يريد الاستيلاء على الدول باستخدام كل الأدوات والوسائل التي تحت يديه، سواء أكانت بسلاح القوة العسكرية بالغزو والاحتلال المباشر، أو بسلاح القوة الاقتصادية الناعمة، إما باستخدام الجَزَرة، كإغراء الدول بالمال والثراء والنمو الاقتصادي، أو عن طريق العصا الغليظة كفرض الضرائب والرسوم الجمركية العالية، والتضييق الاقتصادي بشكلٍ عام على الدول المطلوب ضمها إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
فهذه إذن سياسة الضم المباشر علانية وأمام مسمع الأمم المتحدة ومجالسها العبثية لبعض دول العالم باستعمال العنف والقوة العسكرية، أو القوة الاقتصادية. وهناك في الوقت نفسه والذي يصب في أهداف هذه السياسة الاستعمارية، وهي سياسة التنمر، والاستقواء، والابتزاز للدول التي لا يرغب في ضمها تحت سلطته بشكلٍ مباشر، وإنما ينوى السيطرة على مواردها، وثرواتها الطبيعية الحية وغير الحية، وأن تكون له الكلمة الفصل في كيفية إدارة هذه الدول لمواردها، كالثروة النفطية، والغاز الطبيعي، والمعادن المطلوبة حالياً كمواد خام تدخل في مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، كالبطاريات الكهربائية، والألواح الشمسية، وغيرهما.
فهذه السياسة العقيمة، وهذه التوجهات الخطيرة لها تداعيات على كوكبنا بشكلٍ عام. فالأولي هي أن مثل هذه التوجهات الكارثية لها عواقب وخيمة على السلم والأمن الدوليين، وتخلق فوضى عالمية عارمة لا يمكن التحكم فيها والسيطرة عليها، كما أنها في الوقت نفسه تتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة في بسط دول العالم، صغيرة كانت أم كبيرة هيمنتها على حدودها ومواردها. فستلعب فيها الدول الصناعية القوية لعبة الشرطي العنيف على الدول الأخرى. فمن جهة مثل هذه التصرفات تضعف سيادة الدول، وقدرتها على التحكم في مواردها، والسيطرة على ثرواتها خدمة لشعوبها، ومنها أن مثل هذه السياسة التوسعية تشجع الدول الكبرى الأخرى وتحفزها قانونياً على القيام بممارسات مماثلة للولايات المتحدة الأمريكية، كما قامت من قبل روسيا في الاعتداء على أوكرانيا، وضم أراضي أوكرانية إليها، وقد تدعو الصين أيضاً إلى احتلال تايوان وضمها علنياً ورسمياً تحت سيادة الصين. وفي الوقت نفسه فمثل هذه السياسة الاستعمارية ستشجع الكيان الصهيوني على الامتداد والتوسع الجغرافي في الأراضي الفلسطينية أولاً، ثم أراضي بعض الدول العربية، حسب النيات العلنية للاحتلال الصهيوني، والخرائط الرسمية المعتمدة من الحكومة الصهيونية «لإسرائيل الكبرى».
والنقطة الثانية فسياسة ترامب التي يهدد فيها ويتوعد ضم الدول الأخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتوسيع أرضها وامتداد حدودها الجغرافي، وبالتالي زيادة قوتها ونفوذها على المستوى الدولي، مما سيرجع العالم مرة ثانية إلى تحكم وسيطرة القطب الواحد على العالم، كما يعني هيمنة «الجنس الأبيض» على كل مفاصل كوكبنا، أرضا، وحكومات، وشعوبا.
فبعد هذا الإعلان الواضح من ترامب، ماذا ستفعل الأمم المتحدة لمواجهة هذا التهديد لاستقرار حكومات وشعوب الأرض؟ وكيف ستكون ردود فعل الدول الكبرى الأخرى تجاه سياسة ترامب التوسعية، وبخاصة روسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي؟ !
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك