فجأة توارى يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي سيئ السمعة، عن الأنظار ودخل في طيات النسيان. يوآف غالانت هو ذلك الرجل الذي خدم في جيش بلاده مدة 35 عامًا تقريبًا، وفي السياسة مدة 10 أعوام تقريبًا، وأشرف على حروب كبرى، بما في ذلك الإبادة الجماعية المستمرة في غزة. سرعان ما تراجع اليوم عن عناوين الأخبار والأهمية السياسية وغاب تماما عن دائرة الاهتمام.
وفي رسالة استقالته، اتهم غالانت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أقاله في الخامس من شهر نوفمبر الماضي، وخليفته يسرائيل كاتس، بتعريض أمن البلاد للخطر. ومع ذلك، فقد ركز انتقاده إلى حد كبير على قضية التجنيد العسكري للمجتمع الأرثوذكسي المتطرف في إسرائيل.
كان رفض غالانت تقديم إعفاء لليهود المتشددين (الحريديم) الذين يرفضون الخدمة العسكرية في إسرائيل مصدراً للتوتر بينه وبين رئيسه المتسلط. ومع ذلك، يبدو أن الثقل السياسي لهذه القضية قد تضخم إلى حد كبير من قبل جميع الأطراف، التي تضع كل منها غاياتها ومصالحها السياسية في الاعتبار.
كان غالانت يريد أن يوجه إشارة إلى الفصائل الأكثر علمانية وقومية داخل حزب الليكود ــ وهو الأكبر في الائتلاف الحاكم الذي يرأسه نتنياهو ــ بأنه يدافع عن إسرائيل أكثر عدالة وإنصافا. وكان نتنياهو، الذي يرأس الليكود، يريد أن يستقطب الشرائح الأكثر تدينا في الحزب وشركائه المتدينين في الائتلاف.
وبالنظر إلى انزلاق إسرائيل نحو اليمين الديني المتطرف، كان من الطبيعي أن ينتصر نتنياهو في نهاية المطاف في هذه الجولة. وكان غالانت، الذي استقال من الكنيست الإسرائيلي اعتبارًا من الأول من شهر يناير 2025، قد كتب خطاب استقالته وركز فيه على حزب الليكود إلى حد كبير، وليس على إسرائيل نفسها.
وقال غالانت في خطاب استقالته: «إن طريقي هو طريق الليكود، وأنا أؤمن بمبادئه، وأثق في أعضائه وناخبيه»، وربط تصويته الأول للحزب بالشراكة في «ثورة مناحيم بيغن»، بينما يفتخر بأنه ظل «مخلصًا للمسار الوطني والإيديولوجي للحركة».
يمكن فهم مشاعر جالانت بطريقتين: إما كوسيلة لتأكيد إرثه قبل ترك السياسة تمامًا، أو، وهو الأرجح، كرسم خطاب سياسي جديد يسمح له بالتنافس على زعامة الليكود -وربما حتى على رئاسة الوزراء.
إن نتنياهو يدرك هذا جيداً ويبدو أنه توصل إلى استنتاج مفاده أن السبيل الوحيد للبقاء السياسي هو استمرار حرب غزة وتوسيع الصراع ليشمل أطرافاً متعددة. وهذه الحرب الموسعة هي التي سمحت له باستعادة معدلات التأييد التي كان يتمتع بها قبل الحرب وإرضاء شركائه في الائتلاف.
كانت استراتيجية رئيس الوزراء الإسرائيلي على مدى الخمسة عشر شهرا الماضية من حرب الإبادة الجماعية متسقة مع إرثه السياسي: الوصول إلى السلطة والتمسك بها. لكن الأحداث التي أعقبت يوم السابع من أكتوبر 2023 جعلت فرصه في البقاء السياسي أضعف بكثير.
في الماضي، أتقن بنيامين نتنياهو فن البقاء من خلال استغلال نقاط ضعف منافسيه، مستخدماً سلطته للتلاعب عاطفياً بالجمهور الإسرائيلي بمزيج من الخطاب القومي والديني والشخصي.
غالبًا ما تصور هذه الرواية بنيامين نتنياهو وعائلته كضحايا لأعداء متعددين خططوا بلا كلل لإسقاطه، على الرغم من كل الخير الذي فعله للبلاد.
لقد كانت «عقلية الضحية التي يتبناها نتنياهو» موضوعاً بارزا ومادة دسمة في وسائل الإعلام الإسرائيلية منذ فترة طويلة، حتى قبل سنوات من الحرب. وهي استراتيجية استخدمها نتنياهو للدفاع عن نفسه في المحكمة ضد اتهامات الفساد، ولا تزال تخدمه حتى أثناء الحرب.
وحتى مذكرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضده وضد وزير دفاعه المقال جالانت في 21 نوفمبر الماضي، استُخدمت لتغذية تلك الرواية القائلة بأن نتنياهو يعاقب لمجرد حبه لإسرائيل أكثر مما ينبغي.
ولكن عندما تنتهي الحرب فإن مجرد لعب دور الضحية لن يكون كافياً. وسوف يكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تفسير ما حدث منذ السابع من أكتوبر 2023: انهيار الأجهزة الأمنية، وفشل المؤسسة العسكرية، والافتقار إلى الاستراتيجية، وضعف الاقتصاد بشكل حاد، وتفكك الأمة، وقتل الرهائن، وغير ذلك الكثير.
وحتى نتنياهو، السياسي الماكر، سوف يسعى للحفاظ على دعم الجمهور له أو إبقاء شركائه الغاضبين في الائتلاف الحاكم على نفس الخط. والواقع أن الائتلاف اليميني أصبح بالفعل على وشك الانهيار.
ربما كان انضمام جدعون ساعر وحزبه «الأمل الجديد» في 29 سبتمبر الماضي قد أعطى بعض الحياة للحكومة، لكن التهديدات المستمرة من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتامار بن جفير تجعل الحكومة غير مستقرة، في أفضل الأحوال.
لقد تم اختبار قوة الحكومة الإسرائيلية في 31 ديسمبر الماضي، عندما أثار التصويت الحاسم على قانون الميزانية صراعا علنياً بين سموتريتش وبن جفير، وهو ما كاد يتسبب في إقالة هذا الأخير من منصبه.
ولكن الحكومة لا تزال قائمة لأن الحرب لا تزال مستمرة. فقد سمحت الحرب، والصراع الموسع، لوزراء نتنياهو بدفع أجنداتهم المتطرفة دون أدنى شك، وهو ما يسمح في نهاية المطاف لنتنياهو بالبقاء على رأس السلطة فترة أطول قليلا.
ولكن من غير المرجح أن يؤدي أي من هذا إلى تغيير السيناريو الذي قد ينشأ بعد الحرب: حيث من المرجح أن يتعثر الائتلاف، وقد يدخل حزب الليكود في حرب أهلية، ومن المرجح أن يشهد المجتمع الإسرائيلي احتجاجات جماهيرية.
عندها سيصبح شركاء الائتلاف أعداء، وقد يعود أمثال غالانت، ليعرضوا أنفسهم كمنقذين لإسرائيل ويتصدرون المشهد السياسي من جديد. فماذا سيفعل بنيامين نتنياهو حينئذ في مواجهة مثل هذا الوضع؟
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك