في 29 ديسمبر 2024، رحل «جيمي كارتر»، الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة عن عمر يناهز المائة عام، تاركًا إرثًا دبلوماسيًا وسياسيًا، لا يزال موضع تقدير من زعماء العالم السابقين والحاليين، نظرًا لبصماته الدبلوماسية الواضحة في الشؤون الخارجية ودوره في التحولات الجيوسياسية الكبيرة، بالإضافة إلى عقود من الجهود الإنسانية والدبلوماسية التي استمرت بعد مغادرته البيت الأبيض في عام 1981، والتي حصد عنها جائزة نوبل للسلام عام 2002، وقد وصفه الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، بأنه «زعيم ورجل دولة وإنسان استثنائي، أنقذ وعزز وغيّر حياة الكثيرين حول العالم بتعاطفه ووضوحه الأخلاقي».
وعلى الرغم من أوجه التشابه بين الرئيسين الأمريكيين -كارتر وبايدن -كديمقراطيين يتشاركان توجهات متقاربة في السياسات المحلية، والاقتصادية، والبيئية؛ إلا أن إرث كل منهما يختلف بشكل لافت. ووصف «بيتر بيكر»، و«روي ريد»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، كارتر بأنه «رئيس صانع للسلام»، أما بايدن، فالتاريخ قد يحمل له صورة مغايرة، ووفقًا لـ«ديلان ويليامز»، من «مركز السياسة الدولية»، فإنه قد يُذكر باعتباره «المُمكن الأكبر للمذابح والمجاعة في غزة».
وفي نعي «كارتر» -أطول رئيس أمريكي عُمرا في التاريخ -كتب «جوناثان ألتر»، في مجلة «فورين بوليسي» أنه كان «رئيساً ذا رؤية في السياسة الخارجية»، ومع أن إنجازاته «لا يتذكرها أحد، لكنها ذات أهمية». وسجلت «ليزلي فينجاموري»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، كيف أن «عمله بعد مغادرته الرئاسة لتعزيز السلام والديمقراطية وحقوق الإنسان والتحرر من الفقر والجوع»؛ يعد مثالا استثنائيا لجميع القادة في جميع أنحاء العالم.
وكما هو الحال في رئاسة بايدن، كانت فترة ولاية «كارتر»، ولاية واحدة دامت أربع سنوات، مليئة بالمشاكل الداخلية، والصعوبات الاقتصادية، ومجموعة لا حصر لها من تحديات السياسة الخارجية، خاصة في الشرق الأوسط؛ لكن الاختلافات في كيفية استجابة الرجلين لهذه التحديات تشير إلى ما طرأ من تغييرات في القيادة الغربية، والتي ألحقت ضررا بالغًا بالسلام والاستقرار العالميين.
وعلى الرغم من اعتراف «سنام فاكيل»، من «المعهد الملكي للشوؤن الدولية»، بأن إرث كارتر «أقل احتفاءً» بالشرق الأوسط، مما كان عليه على نطاق أوسع في جميع أنحاء العالم، وأرجعت ذلك في المقام الأول إلى تأكيده أولوية الديمقراطية وحقوق الإنسان في السياسة الخارجية الأمريكية، فضلاً عن حقيقة معاصرته كرئيس للثورة الإيرانية عام 1979؛ فقد أكدت «فينجاموري»، اتفاقية «كامب ديفيد»، لعام 1978، باعتبارها «السمة الأبرز لرئاسته».
وفي دعوته إلى هذه المفاوضات بين الرئيس المصري «أنور السادات»، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، مناحيم بيجن؛ كتب «ألتر»، عن كيف «تحمل كارتر مخاطر سياسية كبيرة»؛ بغية تحقيق «السلام في الشرق الأوسط»، وكيف أظهر زعامته الدبلوماسية الشخصية، عبر «إصراره» على منع المحادثات من الانهيار من خلال استخدام «المداهنة، والترغيب، وسرعة البديهة». وعندما تعثرت الاتفاقات، سافر إلى مصر، وإسرائيل، وأعاد تجميع كل شيء مرة أخرى بعناية شديدة؛ ما أدى إلى توقيع معاهدة سلام رسمية في 26 مارس 1979.
وعلى هذا الأساس، كتب «بروس ريدل»، من مؤسسة «بروكينجز»، «أنه من نواحٍ عدة، يمكنك القول إن الشرق الأوسط الحديث قد تشكل على يد جيمي كارتر»، مع الوضع في الاعتبار أنه كان أيضًا أول زعيم أمريكي، يدعو إلى دولة فلسطينية مستقلة. وأضاف «ألتر»، أنه كان «الرئيس الأمريكي الأكثر تأييدًا للفلسطينيين على الإطلاق»، من خلال كتابه الصادر عام 2006، والذي حمل عنوان «فلسطين.. سلام، وليس فصل عنصري»، حيث اعترف «بالحقيقة الأساسية التي يجب مواجهتها»، حول كيف أن الولايات المتحدة «لا يمكن أن تكون صانعة سلام ما دام يُنظر إلى قادتها على أنهم مؤيدون بشدة لكل عمل أو سياسة لأي حكومة إسرائيلية تكون بالسلطة».
وبشكل عام، تعد السياسات الخارجية الأمريكية محلًا دائمًا للإدانة والانتقاد، حيث تجاهلت الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض –سواء ديمقراطية أو جمهورية– العديد من التحذيرات الحكيمة التي أطلقها المراقبون. وتجلى ذلك بوضوح في النموذج الذي قدمه «جو بايدن»، منذ اندلاع حرب إسرائيل على غزة في أكتوبر 2023، والذي قوض إلى الأبد أي خطاب من واشنطن، حول الالتزام المفترض والواجب الأخلاقي لحماية حقوق الإنسان وفرض القانون الدولي.
وعلى النقيض مما أشارت إليه «فاكيل»، بشأن اعتماد «كارتر»، على الطرق الدبلوماسية التي أسهمت في تمكين الرؤساء الأمريكيين اللاحقين من بناء «نموذج سلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين؛ منحت «إدارة بايدن» الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بقيادة «نتنياهو»، تفويضًا مفتوحًا لشن حرب تدمير جماعي واحتلال عسكري، ما أسفر عن كارثة إنسانية في غزة -فضلا عن امتداد هذه الحرب إلى الضفة الغربية، ولبنان وسوريا -وهو ما أدانته «المحكمة الجنائية الدولية»، و«محكمة العدل الدولية»، مشددة على ضرورة أن تواجه إسرائيل الاتهامات القانونية بتورطها في جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
وأشار «جيمس بامفورد»، في مجلة «ذا نيشن»، إلى أنه بالرغم من تزايد الأدلة على أن «الأسلحة الأمريكية كانت تستخدم لتنفيذ «إبادة جماعية»، من قبل إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة؛ فإن بايدن استمر في إرسال المزيد منها في ظل استمرار القصف وعدم توقف المجازر.
وخلال الحرب والقصف الإسرائيلي المتواصل، والغزو البري، والاحتلال العسكري لغزة، تراجع «بايدن» ومسؤولوه بشكل متكرر عن اتخاذ أي موقف أخلاقي تجاه النوايا الواضحة للحكومة الإسرائيلية المتطرفة بتنفيذ تطهير عرقي بحق الفلسطينيين في غزة. وشمل ذلك التخلي عن المطالبات الأمريكية بتقليص الدعم العسكري لإسرائيل، رغم استمرارها في منع المساعدات الإنسانية عن غزة ورفضها الامتثال. ورغم هذه الانتهاكات، أصرت الولايات المتحدة على أن حليفتها لم تخالف القانون الدولي.
وفي واحدة من خطواته الأخيرة كرئيس، أقر «بايدن»، صفقة أسلحة بقيمة تقارب 8 مليارات دولار لإسرائيل، شملت قذائف مدفعية، وصواريخ متوسطة المدى، وقنابل تزن 500 رطل. وجاءت هذه الصفقة لتضاف إلى أكثر من 17.9 مليار دولار قدمتها «واشنطن»، للجيش الإسرائيلي منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر 2023، كما سبق لإدارته في أغسطس الماضي الموافقة على صفقة أخرى لنقل طائرات مقاتلة من طراز F-15 وصواريخ جو-جو وقذائف هاون متفجرة، وذخائر دبابات بقيمة 20 مليار دولار إلى إسرائيل.
وداخل الإدارة الأمريكية، تم تسجيل أن «بايدن»، ووزير خارجيته «أنتوني بلينكن»، قد تجاهلا تقارير داخلية من وكالات، مثل «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية»، التي توصلت إلى أن إسرائيل، قد حجبت المساعدات الإنسانية عن المدنيين الفلسطينيين، وهو ما أسفر عن إصابات ووفيات تمثل جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. وتشير «تقارير طبية»، نشرتها مجلة «ذا لانسيت» في يوليو 2024، إلى أن العدد الحقيقي للضحايا الفلسطينيين الذين قتلوا على يد الجيش الإسرائيلي في غزة، قد بلغ حوالي 186 ألف شخص حتى ذلك الحين، ولذا، فقد ذكر «ديفي سريدهار»، رئيس قسم الصحة العامة العالمية في «جامعة إدنبرة»، أن إجمالي عدد القتلى في حرب إسرائيل قد يتجاوز الآن 335,000 شخص، بسبب العنف والمجاعة والأمراض.
ومن خلال دعمها الحازم لطموحات إسرائيل الحربية، فإن «إدارة بايدن»، تتحمل المسؤولية المباشرة عن الخسائر الفادحة في الأرواح المدنية. وأضاف «بامفورد»، أن البيت الأبيض «قرر أن يمارس لعبة سياسية باستغلاله حياة الناجين اليائسين والجائعين في غزة»، خلال حملة الانتخابات الرئاسية في 2024، حيث «تظاهر بايدن ومستشاروه بتشديد المواقف ضد إسرائيل»، من أجل تعزيز آمال نائبة الرئيس «كامالا هاريس»، ضد «ترامب»؛ لكن هذه المناورات كانت «مجرد خدعة واهية».
وبالتالي، وبينما وصف «ألتر»، الرئيس «كارتر»، بأنه «رجل طيب وبعيد النظر لم يُمنح التقدير الكافي لجهوده»، وأشار «ريدل»، إلى أنه «يستحق المزيد من التقدير لرئاسته بشكل عام ولدوره بشكل خاص في الشرق الأوسط»؛ فإن إرث «جو بايدن»، سيكون مرتبطا بقبوله ودعمه لحرب إسرائيل التي تهدف إلى ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، وتطهير عرقي في قطاع غزة، وتقويض كبير للأمن والاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط، مما يعود بالضرر الكبير والمطلق على جميع الأطراف، بما في ذلك الولايات المتحدة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك