لا شك أن أغلب مناطق ودول العالم العربي تعيش حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. فباستثناء دول الخليج العربية، فقد أصبح العالم العربي يعاني حالة من الضعف والانقسامات وانعدام الوجهة الواضحة كما أنه محاصر ويتخبط في أتون صراعات متعددة، وغير قادر على التحكم في مصيره.
في الحقيقة، فإن هذا الوضع ليس بالأمر الجديد. فقد كان الأمر على هذا النحو منذ قرن من الزمان، حيث كانت القوى غير العربية تستغل المنطقة في سعيها إلى تحقيق تطلعاتها الخاصة. وقد تجلى هذا في أربع فترات رئيسية تسببت في محنة العالم العربي خلال القرن الماضي.
ورغم أن اللاعبين المهيمنين على التاريخ العربي قد تغيروا بمرور الوقت، فإن الثابت هو أن العديد من الشعوب العربية كانوا ضحايا للتلاعب الذي يحيكه ويدبره الآخرون.
قبل قرن من الزمان، كان العالم العربي محاصراً بين المخططات الاستعمارية وجشع البريطانيين والفرنسيين؛ حيث إن الصراعات كان مدارها السيطرة على النفط وشرق البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس.
لقد عمدت هذه القوى الاستعمارية إلى تقسيم وتقاسم المنطقة من خلال إنشاء دول من دون تنسيق مع أشكال الحكم المفروضة، وزرع بذور الصراع الذي كانت له عواقب وخيمة ومريرة منذ ذلك الوقت.
لقد تم تشريد الفلسطينيين وتشتيتهم لإفساح المجال لدولة عميلة للغرب في إسرائيل، كما أسس الفرنسيون دولة طائفية في لبنان حيث سيطرت الطوائف المفضلة لديهم، بينما فرضت سوريا والعراق أنظمة ملكية أفسحت المجال في نهاية المطاف للانقلابات العسكرية الإيديولوجية التي كانت تخفي في طياتها روح الطائفية.
خلال الحرب الباردة، أصبح العالم العربي أحد المنصات العديدة على مستوى العالم للتنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وفي حين كان الاتحاد السوفييتي راعياً لـ«حركات الثورة» والأنظمة العسكرية «المناهضة للإمبريالية» في المنطقة، فقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية على رعاية إسرائيل، والتحالف مع الأنظمة الساعية إلى الاستقرار، والجماعات الطائفية الساعية إلى الحفاظ على مواقع نفوذها.
في نهاية الحرب الباردة، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001، بالغت الولايات المتحدة الأمريكية في لعب دورها بشكل خطير من خلال غزو العراق واحتلاله، والدعوة الإيديولوجية إلى الديمقراطية، واحتضان الطموحات الإسرائيلية وتمكينها بالكامل.
وكانت النتيجة مزدوجة؛ فقد تراجع دور الولايات المتحدة الأمريكية التي فقدت ثرواتها وجنودها وهيبتها أثناء تنفيذ هذه المهمة الحمقاء لإنشاء دولة تابعة في العراق (ناهيك عن مقتل نحو مائتي ألف مدني عراقي)، وتشجيع القوى الإقليمية غير العربية التي رأت في ذلك فرصة لتوسيع نفوذها في هذه المنطقة.
يتواصل هذا الوضع العربي المتردي اليوم في خضم أعقاب الحرب في قطاع غزة ولبنان وسقوط حكومة بشار الأسد في سوريا. وفي حين لا تزال روسيا والولايات المتحدة الأمريكية تضعان أيديهما في القدر وتحركان الأوضاع، فمن الواضح أن القوى المؤثرة الناشئة حديثا في المنطقة هي الآن، بدرجات مختلفة، الدول غير العربية مثل إسرائيل وإيران وتركيا.
يبدو رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكأنه مصاب بجنون العظمة عندما يصف الدور الإقليمي المهيمن الذي تلعبه بلاده، في حين يتجاهل حقيقة مفادها أن إسرائيل لم تصل إلى هذا الوضع إلا بفضل الإمدادات الضخمة من الأسلحة الأمريكية، والأصول العسكرية الاحتياطية، والدعم السياسي، كما يزعم نتنياهو أنه يقاتل وينتصر على عدة جبهات، وينقذ الغرب من آفة التطرف.
تعمل إسرائيل الآن بلا هوادة، وهي تسعى إلى تحويل قطاع غزة إلى أرض لا يملكها أحد، وفرض قواعد دائمة هناك كعلامة على الغزو الدائم، كما تفعل القوات الإسرائيلية نفس الشيء في سوريا، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار المقبول دوليا مع لبنان، فقد أوضحت إسرائيل بالفعل أنها سوف تنتهك شروط الاتفاق من خلال الاحتفاظ بوجود لها في جنوب لبنان.
ولا شك أن إيران، التي أضعفتها بلا شك الخسائر التي تكبدتها مؤخرا، وخاصة في لبنان وسوريا، قد تكون في حالة تراجع، ولكنها لم تنته بعد. فهي تحتفظ بدعم مجموعات كبيرة في لبنان وبعضها في سوريا، ناهيك عن تغلغلها العميق في العراق واليمن.
قد تكون الحكومة الإيرانية فقدت محورها الرئيسي المتمثل في سوريا، وهو ما أضعف بالتالي «محور المقاومة»، ولكن تركيا ودعمها للحركات المختلفة في المنطقة برزت باعتبارها العامل الجديد في المعادلة السياسية في تلك الدولة والعالم العربي.
في الحقيقة لم يتضح حتى الآن مدى تأثير هذا التطور من حيث تمكين أو تشجيع الجماعات الإسلامية الإيديولوجية في الدول المجاورة، حيث إنه لا أحد يعرف كيف ستتأثر الأقليات الدينية أو العرقية في هذه العملية.
وفي الوقت نفسه، يظل مصير الشعب الفلسطيني دون حل ولا يمكن تجاهله.
كما تظل صورة إسرائيل للقوة الإقليمية تواجه تحديات بسبب حربها المستمرة في غزة، والتي باتت توصف على أنها تمثل إبادة جماعية، إضافة إلى تصعيد آلة القمع ضد الشعب الفلسطيني في القدس وبقية الضفة الغربية.
إن هذا الوضع لا يؤدي إلى تأجيج المقاومة الفلسطينية فحسب، بل إنه يسهم أيضاً في تعميق عزلة إسرائيل بين الشعوب العربية ومعظم دول العالم الأخرى.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة أيضًا إلى الشعب الكردي، الذي ظل معزولًا عن بعضه البعض عقودا من الزمن بعد تقسيمه إلى أربعة أجزاء ودمجه في إيران والعراق وسوريا وتركيا.
إن نقطة الاشتعال الرئيسية اليوم هي بين المنطقة الكردية في سوريا، التي تدعمها واشنطن، والتي تواجه رفضا من سلطات أنقرة، التي ترى أن استقلال المنطقة الكردية في سوريا من شأنه أن يتسبب في زعزعة استقرار المجتمع الكردي داخل تركيا نفسها، وقد يؤدي ذلك إلى انفجار الوضع.
في هذه الأثناء يواصل البعض إلقاء اللوم على الجمهوريات العربية في هذه الحالة المزرية، ويتهمونها بالطائفية أو غياب القيادة، غير أن هذا الأمر يشبه إلقاء اللوم على الضحايا.
إن الانقسامات القائمة هي نتيجة للتلاعب الخارجي. وفي الماضي، عندما نشأت حركات تهدف إلى خلق وحدة واسعة على أساس هوية غير طائفية، تحركت قوى خارجية لسحقها أو استغلالها.
لقد حان الوقت لأن تتولى الشعوب العربية زمام مصيرها. ولا ينبغي للعالم العربي أن يظل ساحة لعب لغير العرب يتنافسون فيها على تحقيق غاياتهم الخاصة ومصالحهم.
إن أحد الأماكن التي يمكن البدء منها هو أن تعقد القوى العربية الرئيسية قمة وتضع رؤية للمستقبل مقرونة بالمطالب التالية: سياسة عدم التدخل في شؤون الدول غير العربية، مع التهديد بأن العلاقات المستقبلية سوف تعتمد على الالتزام بهذا الهدف؛ ورؤية للوحدة العربية غير الطائفية داخل كل دولة من الدول.
ويجب أن تكون هناك مطالب أخرى تدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي والتوسع والعدوان على العديد من الدول العربية؛ وتكريس تقرير المصير الكامل للشعب الفلسطيني وإنشاء مجموعات عمل لدراسة الخطوات اللازمة لجعل هذه الأهداف ممكنة.
قد يرفض البعض هذا الأمر باعتباره حلماً بعيد المنال، ولن يحدث ذلك بين عشية وضحاها لأن الكثير من الأضرار المتراكمة لا بد أن يتم إصلاحها. ولكن إذا لم يتم تطوير رؤية جديدة، مدعومة بخطوات لترجمتها إلى واقع، فسوف تستمر المنطقة العربية في الترنح بسبب الانقسام والتلاعب الخارجي.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك