حينما تندلع الحرائق وتغطي النيران كل شيء، تختفي معالم الحياة وتبرز قصص إنسانية وسط الدمار. إنها اللحظة التي تذوب فيها الفوارق وتتوحد الجهود في مواجهة قوة الطبيعة.
في كاليفورنيا، حيث تتحول الأيام إلى مشهد واحد من المأساة، تقف الإنسانية جنبا إلى جنب، لتثبت أن التكاتف البشري قادر على مواجهة أصعب التحديات.
تشير التقارير إلى أن الحرائق هناك خلفت خسائر بشرية ومادية ضخمة، إذ أتت النيران على عشرات الآلاف من المباني، وأجبرت مئات الآلاف على النزوح من منازلهم، بينما واجه البعض فقدانا مأساويا لأحبائهم. هذه المشاهد القاسية تجعلنا نتأمل في مدى هشاشتنا كبشر أمام الطبيعة، وفي الوقت ذاته، تبرز أهمية دورنا في دعم بعضنا البعض في أوقات الشدائد.
التعاطف، ذلك الشعور الإنساني النبيل الذي يجعلنا نشارك الآخرين ألمهم من دون مقابل، ليست شعارات نرددها، بل هو طاقة حقيقية تغير حياة من يعاني ومن يتعاطف معه على حد سواء. حين يرى المتضررون من هذه الحرائق أن العالم يقف بجانبهم، تتجدد لديهم الثقة بالحياة، ويتحول شعورهم بالعجز إلى أمل يدفعهم الى الاستمرار.
الأدلة النفسية تؤكد أن التعاطف له تأثير بالغ على كل من يمارسه ومن يتلقاه. الناجون من الكوارث الذين يتلقون دعما عاطفيا واجتماعيا يظهرون قدرة أكبر على التعافي من الصدمات النفسية، ويقل لديهم خطر الإصابة باضطرابات ما بعد الصدمة. في المقابل، الأشخاص الذين يمدون يد المساعدة يجدون أنفسهم أكثر سعادة ورضا؛ إذ يفعل العطاء مناطق في الدماغ مسؤولة عن الشعور بالسعادة.
قصص الكوارث مليئة بالأمثلة التي تظهر كيف يمكن للتعاطف أن يغير المسار. فعندما ضرب تسونامي عام 2004، كانت المساعدات الدولية وجهود الإغاثة الإنسانية سببا في تخفيف الألم وإعادة بناء المجتمعات المدمرة. وفي حرائق كاليفورنيا اليوم، نرى مشاهد مماثلة، حيث يفتح السكان المحليون منازلهم لإيواء النازحين، وتتدفق التبرعات من جميع أنحاء العالم لدعم المتضررين. حتى رجال الإطفاء، الذين يعملون بلا كلل على مدار الساعة، استمروا في التضحية بأرواحهم لإنقاذ الآخرين رغم شح الموارد ومحدودية الإمكانيات مقارنة بالكارثة.
لكن مع بروز هذه الملاحم الإنسانية المضيئة، تظهر أيضا مظاهر أخرى لا تقل خطورة عن الكارثة ذاتها: خطاب الكراهية والتبرير الديني للكوارث. فالألم الإنساني واحد، لا يعترف بحدود أو اختلافات، بل يوحدنا عبر المشاركة الوجدانية التي تجمع البشرية. علينا أن نتألم لكل إنسان يعاني بغض النظر عن دينه أو عرقه أو موطنه. لكن للأسف، فإن استخدام البعض الكوارث للتشفي أو الادعاء بأنها عقاب إلهي لأن الضحايا ليسوا على ديننا أو ملتنا، ليس فقط أمراً مجافيا للإنسانية، بل هو أيضا يخالف جوهر الإسلام، الذي يحتضن العالم برحمته وعدله. الذي يؤكد أن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن الوقوف مع المنكوبين لا يعرف حدوداً جغرافية أو عقائدية. فكما نطالب العالم بالوقوف مع المظلومين في كل مكان، علينا أن نكون قدوة في إنسانيتنا وإحساننا لكل من يعاني. يقول جل جلاله: «لا ينهاكم اللَّه عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إِن اللَّه يحب المقسطين» (الممتحنة: 8).
ومع ذلك، فإن هذه الكوارث ليست فقط اختبارا لإنسانيتنا، وإنما تحمل أيضا تذكيرا صارخا بالرسائل التي تحملها الطبيعة لنا، وسط هذه الكارثة الإنسانية، تظهر الطبيعة كخصم صامت لا يمكن تجاهل رسائله. فالحرائق ليست حدثا عابرا فحسب، بل هي إنذار واضح بأن العالم يدفع ثمن إهماله المتواصل لقضايا البيئة والتغير المناخي. ما نشهده هو انعكاس مباشر لعواقب تغيرات مناخية تفاقمت جراء التغاضي عن قضية البيئة. فلا يمكن فصل مأساة حرائق كاليفورنيا عن السياق البيئي العالمي الأوسع.
لقد أدى التغير المناخي وتزايد موجات الجفاف إلى جعل الغابات أكثر عرضة للاشتعال، مع تسجيل درجات حرارة غير مسبوقة في بعض المناطق. ما دفعت هذه التحديات العديد من الدول إلى تطوير استراتيجيات متقدمة لمواجهة الحرائق، من خلال الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر وتحسين قدرات الاستجابة السريعة.
تؤكد التجارب العالمية أهمية تبني رؤية شاملة تجمع بين التقنيات الحديثة والخبرات المحلية، مع التركيز على تعزيز التعاون الدولي في مجال مكافحة الحرائق وتبادل الموارد والخبرات. فالحلول المستقبلية تتطلب استثماراً في البنية التحتية المقاومة للحرائق، وتطوير أنظمة إطفاء متقدمة، وتعزيز الوعي المجتمعي بأهمية الحفاظ على الغابات كجزء من النظام البيئي العالمي.
ما نشهده اليوم ليس كارثة بيئية أو إنسانية محدودة، بل هو قياس حقيقي لقيمنا المشتركة وقدرتنا على التحرك بشكل جماعي لتخفيف الألم وحماية كوكبنا. هذه اللحظة تتطلب منا تجاوز حواجز الدين والجغرافيا والعمل يداً بيد لمواجهة التحديات المشتركة. مواجهة هذه الكوارث لا تقتصر على المشاعر النبيلة، بل تتطلب اتخاذ تدابير عملية لحماية الطبيعة وتقليل الأضرار الناجمة عن أفعالنا. فالحلول تبدأ من وعي فردي ومجتمعي، وتعززها سياسات دولية عادلة تهدف إلى التخفيف من آثار التغير المناخي. في النهاية، ما يميزنا كبشر ليس فقط قدرتنا على الشعور بآلام الآخرين، بل قدرتنا على تحويل هذه المشاعر إلى أفعال تحدث فرقا في حياة المتضررين وفي مستقبل كوكبنا.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك