العدد : ١٧٠٩٩ - الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٩ - الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ١٥ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

بين لهيب الغابات وقلوب البشر.. دور التعاطف في مواجهة الكوارث

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ١٥ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

حينما‭ ‬تندلع‭ ‬الحرائق‭ ‬وتغطي‭ ‬النيران‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تختفي‭ ‬معالم‭ ‬الحياة‭ ‬وتبرز‭ ‬قصص‭ ‬إنسانية‭ ‬وسط‭ ‬الدمار‭. ‬إنها‭ ‬اللحظة‭ ‬التي‭ ‬تذوب‭ ‬فيها‭ ‬الفوارق‭ ‬وتتوحد‭ ‬الجهود‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬قوة‭ ‬الطبيعة‭.‬

في‭ ‬كاليفورنيا،‭ ‬حيث‭ ‬تتحول‭ ‬الأيام‭ ‬إلى‭ ‬مشهد‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬المأساة،‭ ‬تقف‭ ‬الإنسانية‭ ‬جنبا‭ ‬إلى‭ ‬جنب،‭ ‬لتثبت‭ ‬أن‭ ‬التكاتف‭ ‬البشري‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬أصعب‭ ‬التحديات‭.‬

تشير‭ ‬التقارير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الحرائق‭ ‬هناك‭ ‬خلفت‭ ‬خسائر‭ ‬بشرية‭ ‬ومادية‭ ‬ضخمة،‭ ‬إذ‭ ‬أتت‭ ‬النيران‭ ‬على‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المباني،‭ ‬وأجبرت‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬على‭ ‬النزوح‭ ‬من‭ ‬منازلهم،‭ ‬بينما‭ ‬واجه‭ ‬البعض‭ ‬فقدانا‭ ‬مأساويا‭ ‬لأحبائهم‭. ‬هذه‭ ‬المشاهد‭ ‬القاسية‭ ‬تجعلنا‭ ‬نتأمل‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬هشاشتنا‭ ‬كبشر‭ ‬أمام‭ ‬الطبيعة،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته،‭ ‬تبرز‭ ‬أهمية‭ ‬دورنا‭ ‬في‭ ‬دعم‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الشدائد‭.‬

التعاطف،‭ ‬ذلك‭ ‬الشعور‭ ‬الإنساني‭ ‬النبيل‭ ‬الذي‭ ‬يجعلنا‭ ‬نشارك‭ ‬الآخرين‭ ‬ألمهم‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬مقابل،‭ ‬ليست‭ ‬شعارات‭ ‬نرددها،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬طاقة‭ ‬حقيقية‭ ‬تغير‭ ‬حياة‭ ‬من‭ ‬يعاني‭ ‬ومن‭ ‬يتعاطف‭ ‬معه‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭. ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬المتضررون‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحرائق‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬يقف‭ ‬بجانبهم،‭ ‬تتجدد‭ ‬لديهم‭ ‬الثقة‭ ‬بالحياة،‭ ‬ويتحول‭ ‬شعورهم‭ ‬بالعجز‭ ‬إلى‭ ‬أمل‭ ‬يدفعهم‭ ‬الى‭ ‬الاستمرار‭.‬

الأدلة‭ ‬النفسية‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬التعاطف‭ ‬له‭ ‬تأثير‭ ‬بالغ‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يمارسه‭ ‬ومن‭ ‬يتلقاه‭. ‬الناجون‭ ‬من‭ ‬الكوارث‭ ‬الذين‭ ‬يتلقون‭ ‬دعما‭ ‬عاطفيا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬يظهرون‭ ‬قدرة‭ ‬أكبر‭ ‬على‭ ‬التعافي‭ ‬من‭ ‬الصدمات‭ ‬النفسية،‭ ‬ويقل‭ ‬لديهم‭ ‬خطر‭ ‬الإصابة‭ ‬باضطرابات‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الصدمة‭. ‬في‭ ‬المقابل،‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يمدون‭ ‬يد‭ ‬المساعدة‭ ‬يجدون‭ ‬أنفسهم‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة‭ ‬ورضا؛‭ ‬إذ‭ ‬يفعل‭ ‬العطاء‭ ‬مناطق‭ ‬في‭ ‬الدماغ‭ ‬مسؤولة‭ ‬عن‭ ‬الشعور‭ ‬بالسعادة‭.‬

قصص‭ ‬الكوارث‭ ‬مليئة‭ ‬بالأمثلة‭ ‬التي‭ ‬تظهر‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬للتعاطف‭ ‬أن‭ ‬يغير‭ ‬المسار‭. ‬فعندما‭ ‬ضرب‭ ‬تسونامي‭ ‬عام‭ ‬2004،‭ ‬كانت‭ ‬المساعدات‭ ‬الدولية‭ ‬وجهود‭ ‬الإغاثة‭ ‬الإنسانية‭ ‬سببا‭ ‬في‭ ‬تخفيف‭ ‬الألم‭ ‬وإعادة‭ ‬بناء‭ ‬المجتمعات‭ ‬المدمرة‭. ‬وفي‭ ‬حرائق‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬اليوم،‭ ‬نرى‭ ‬مشاهد‭ ‬مماثلة،‭ ‬حيث‭ ‬يفتح‭ ‬السكان‭ ‬المحليون‭ ‬منازلهم‭ ‬لإيواء‭ ‬النازحين،‭ ‬وتتدفق‭ ‬التبرعات‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬لدعم‭ ‬المتضررين‭. ‬حتى‭ ‬رجال‭ ‬الإطفاء،‭ ‬الذين‭ ‬يعملون‭ ‬بلا‭ ‬كلل‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬الساعة،‭ ‬استمروا‭ ‬في‭ ‬التضحية‭ ‬بأرواحهم‭ ‬لإنقاذ‭ ‬الآخرين‭ ‬رغم‭ ‬شح‭ ‬الموارد‭ ‬ومحدودية‭ ‬الإمكانيات‭ ‬مقارنة‭ ‬بالكارثة‭.‬

لكن‭ ‬مع‭ ‬بروز‭ ‬هذه‭ ‬الملاحم‭ ‬الإنسانية‭ ‬المضيئة،‭ ‬تظهر‭ ‬أيضا‭ ‬مظاهر‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬خطورة‭ ‬عن‭ ‬الكارثة‭ ‬ذاتها‭: ‬خطاب‭ ‬الكراهية‭ ‬والتبرير‭ ‬الديني‭ ‬للكوارث‭. ‬فالألم‭ ‬الإنساني‭ ‬واحد،‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بحدود‭ ‬أو‭ ‬اختلافات،‭ ‬بل‭ ‬يوحدنا‭ ‬عبر‭ ‬المشاركة‭ ‬الوجدانية‭ ‬التي‭ ‬تجمع‭ ‬البشرية‭. ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نتألم‭ ‬لكل‭ ‬إنسان‭ ‬يعاني‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬دينه‭ ‬أو‭ ‬عرقه‭ ‬أو‭ ‬موطنه‭. ‬لكن‭ ‬للأسف،‭ ‬فإن‭ ‬استخدام‭ ‬البعض‭ ‬الكوارث‭ ‬للتشفي‭ ‬أو‭ ‬الادعاء‭ ‬بأنها‭ ‬عقاب‭ ‬إلهي‭ ‬لأن‭ ‬الضحايا‭ ‬ليسوا‭ ‬على‭ ‬ديننا‭ ‬أو‭ ‬ملتنا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬أمراً‭ ‬مجافيا‭ ‬للإنسانية،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬أيضا‭ ‬يخالف‭ ‬جوهر‭ ‬الإسلام،‭ ‬الذي‭ ‬يحتضن‭ ‬العالم‭ ‬برحمته‭ ‬وعدله‭. ‬الذي‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬وسعت‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬وأن‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬المنكوبين‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬حدوداً‭ ‬جغرافية‭ ‬أو‭ ‬عقائدية‭. ‬فكما‭ ‬نطالب‭ ‬العالم‭ ‬بالوقوف‭ ‬مع‭ ‬المظلومين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬قدوة‭ ‬في‭ ‬إنسانيتنا‭ ‬وإحساننا‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يعاني‭. ‬يقول‭ ‬جل‭ ‬جلاله‭: ‬‮«‬لا‭ ‬ينهاكم‭ ‬اللَّه‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يقاتلوكم‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬ولم‭ ‬يخرجوكم‭ ‬من‭ ‬دياركم‭ ‬أن‭ ‬تبروهم‭ ‬وتقسطوا‭ ‬إليهم‭ ‬إِن‭ ‬اللَّه‭ ‬يحب‭ ‬المقسطين‮»‬‭ (‬الممتحنة‭: ‬8‭).‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬الكوارث‭ ‬ليست‭ ‬فقط‭ ‬اختبارا‭ ‬لإنسانيتنا،‭ ‬وإنما‭ ‬تحمل‭ ‬أيضا‭ ‬تذكيرا‭ ‬صارخا‭ ‬بالرسائل‭ ‬التي‭ ‬تحملها‭ ‬الطبيعة‭ ‬لنا،‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬الإنسانية،‭ ‬تظهر‭ ‬الطبيعة‭ ‬كخصم‭ ‬صامت‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تجاهل‭ ‬رسائله‭. ‬فالحرائق‭ ‬ليست‭ ‬حدثا‭ ‬عابرا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬إنذار‭ ‬واضح‭ ‬بأن‭ ‬العالم‭ ‬يدفع‭ ‬ثمن‭ ‬إهماله‭ ‬المتواصل‭ ‬لقضايا‭ ‬البيئة‭ ‬والتغير‭ ‬المناخي‭. ‬ما‭ ‬نشهده‭ ‬هو‭ ‬انعكاس‭ ‬مباشر‭ ‬لعواقب‭ ‬تغيرات‭ ‬مناخية‭ ‬تفاقمت‭ ‬جراء‭ ‬التغاضي‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬البيئة‭. ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬فصل‭ ‬مأساة‭ ‬حرائق‭ ‬كاليفورنيا‭ ‬عن‭ ‬السياق‭ ‬البيئي‭ ‬العالمي‭ ‬الأوسع‭.‬

‭ ‬لقد‭ ‬أدى‭ ‬التغير‭ ‬المناخي‭ ‬وتزايد‭ ‬موجات‭ ‬الجفاف‭ ‬إلى‭ ‬جعل‭ ‬الغابات‭ ‬أكثر‭ ‬عرضة‭ ‬للاشتعال،‭ ‬مع‭ ‬تسجيل‭ ‬درجات‭ ‬حرارة‭ ‬غير‭ ‬مسبوقة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المناطق‭. ‬ما‭ ‬دفعت‭ ‬هذه‭ ‬التحديات‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬استراتيجيات‭ ‬متقدمة‭ ‬لمواجهة‭ ‬الحرائق،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الاستثمار‭ ‬في‭ ‬أنظمة‭ ‬الإنذار‭ ‬المبكر‭ ‬وتحسين‭ ‬قدرات‭ ‬الاستجابة‭ ‬السريعة‭. ‬

تؤكد‭ ‬التجارب‭ ‬العالمية‭ ‬أهمية‭ ‬تبني‭ ‬رؤية‭ ‬شاملة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬التقنيات‭ ‬الحديثة‭ ‬والخبرات‭ ‬المحلية،‭ ‬مع‭ ‬التركيز‭ ‬على‭ ‬تعزيز‭ ‬التعاون‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬مكافحة‭ ‬الحرائق‭ ‬وتبادل‭ ‬الموارد‭ ‬والخبرات‭. ‬فالحلول‭ ‬المستقبلية‭ ‬تتطلب‭ ‬استثماراً‭ ‬في‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬المقاومة‭ ‬للحرائق،‭ ‬وتطوير‭ ‬أنظمة‭ ‬إطفاء‭ ‬متقدمة،‭ ‬وتعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬بأهمية‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬الغابات‭ ‬كجزء‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬البيئي‭ ‬العالمي‭.‬

ما‭ ‬نشهده‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬كارثة‭ ‬بيئية‭ ‬أو‭ ‬إنسانية‭ ‬محدودة،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬قياس‭ ‬حقيقي‭ ‬لقيمنا‭ ‬المشتركة‭ ‬وقدرتنا‭ ‬على‭ ‬التحرك‭ ‬بشكل‭ ‬جماعي‭ ‬لتخفيف‭ ‬الألم‭ ‬وحماية‭ ‬كوكبنا‭. ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬تتطلب‭ ‬منا‭ ‬تجاوز‭ ‬حواجز‭ ‬الدين‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والعمل‭ ‬يداً‭ ‬بيد‭ ‬لمواجهة‭ ‬التحديات‭ ‬المشتركة‭. ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬الكوارث‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬المشاعر‭ ‬النبيلة،‭ ‬بل‭ ‬تتطلب‭ ‬اتخاذ‭ ‬تدابير‭ ‬عملية‭ ‬لحماية‭ ‬الطبيعة‭ ‬وتقليل‭ ‬الأضرار‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬أفعالنا‭. ‬فالحلول‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬فردي‭ ‬ومجتمعي،‭ ‬وتعززها‭ ‬سياسات‭ ‬دولية‭ ‬عادلة‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬التخفيف‭ ‬من‭ ‬آثار‭ ‬التغير‭ ‬المناخي‭. ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬ما‭ ‬يميزنا‭ ‬كبشر‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬الشعور‭ ‬بآلام‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬قدرتنا‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬إلى‭ ‬أفعال‭ ‬تحدث‭ ‬فرقا‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬المتضررين‭ ‬وفي‭ ‬مستقبل‭ ‬كوكبنا‭.‬

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا