عندما كنتُ طالباً في مدينة أوستن بولاية تكساس الأمريكية في نهاية السبعينيات من القرن المنصرم ذهبنا مع بعض الطلبة في جولة بالسيارة من مدينة أوستن عاصمة ولاية تكساس إلى ولاية كاليفورنيا في غرب أمريكا. وفي هذه الرحلة البرية الطويلة مررنا على عدة ولايات منها ولاية نيو مكسيكو المعروفة بفقر سكانها وضعف اقتصادها وقلة كثافتها السكانية، وتتميز بوجود عدد كبير من السكان الأصليين من الهنود الحمر والإسبان، كما تُعرف بتضاريسها الجبلية الصحراوية. وأثناء تحركنا خلال شوارع هذه الولاية متجهين إلى ولاية كاليفورنيا، توقفنا لأخذ قسط من الراحة في مدينة يمر خلالها الشارع المزدوج السريع، ومازلتُ أتذكر اسمها لغرابتها وصعوبة النُطق بها بالنسبة لي وهي مدينة «ألباكركي» (Albuquerque)، إضافة إلى التسوح والاطلاع على البيوت الطينية المميزة لسكان المدينة.
ولكنني أثناء دخولنا ومرورنا في هذه الولاية لم أكن أُدرك أنها أقوى ولاية بين ولايات أمريكا الخمسين، وأكثرها نفوذاً من الناحية العسكرية، وأشدها قوة وهيبة من ناحية السلاح الموجود على أرضها، ولم أكن أعرف أن هذه الولاية الهامشية الفقيرة قليلة السكان هي التي كانت السبب في انتصار الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية وإنهاء الحرب كلياً. كما لم أكن أتصور أن مدينة «ألباكركي» التي تجولنا فيها، كان يسكن فيها العالم الأمريكي الخطير الذي كان السبب في انتصار أمريكا، وكان السبب في إحداث التدمير الشامل للملايين من البشر في مدينتي هيروشيما وناجازاكي، وهو عالم الفيزياء «روبرت أوبنهايمر»، الذي عُرض فيلم خاص عن حياته، وسيرته، وطبيعة عمله العسكري الغاية في السرية في عام 2023 تحت مسمى «أوبنهايمر» (Oppenheimer).
ففي القرب من هذه المدينة، كانت هناك منطقة صغيرة جداً في مساحتها وسكانها، وتعتبر من المناطق المعزولة والبعيدة عن الأنشطة البشرية الحضرية، ومن المناطق الجبلية المقفرة النائية التي لا يعرفها أحد، ويُطلق عليها «لوس ألاموس» (Los Alamos). وقد اختُيرت هذه المنطقة البعيدة عن أعين البشر وسمعهم لتكون النواة الأولى أمريكياً وعالمياً لتطوير التقنية النووية لأغراض عسكرية، وبالتحديد إنتاج قنبلة الدمار الشامل النووية. ففي هذه المنطقة وبالتحديد في عام نوفمبر 1943 تم إنشاء أخطر مختبرٍ على سطح الأرض يهدد البشرية جمعاء بالفناء، وتم البدء في أخطر تجربة عرفها الإنسان، وأكثرها غموضاً وسرية، وأشدها فتكاً وتنكيلاً بالبشر والشجر والحجر، حتى أن الكثير من العاملين في المختبر لم يعرفوا كلياً أهداف وأنشطة هذا المختبر الشيطاني القومي. فهذه المدينة الصغيرة في حجمها الكبيرة في أهدافها وأنشطتها لم تكن موجودة في الخارطة الجغرافية للولايات المتحدة الأمريكية حتى تَسير أعمالها في كتمان وسرية شديدين على المستويات كافة. وفي هذه المدينة المغمورة، وبالتحديد في يوليو 1945 تم بنجاح أول تجربة انفجار نووي على سطح الأرض في موقع «ترينيتي»، حيث تم الإيذان بولادة القنبلة الذرية على كوكبنا لأول مرة والقاؤها بعد شهر فقط على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، طوى التاريخ شيئاً فشيئاً صفحات هذه المدينة المنكوبة، ورُفعت السرية عنها وعما دار بداخلها، وسُمح الناس بالدخول في هذه المنطقة الغريبة، الغامضة، التي كأنها طوال السنوات الماضية لم تكن موجودة كليا.
وكنتُ أظن أن هذه المدينة بعد هذه التجربة التدميرية الشاملة، وبعد الانتهاء من مهمتها الأصلية، ستفقد لمعانها ويأفل نجمها وأهميتها، وسيزول بريقها، وستتحول كلها إلى متحفٍ تاريخي يحكي ويصور مراحل تطوير وإنتاج القنبلة الذرية، ولكن خاب ظني، فلم يحدث هذا كله، بل وحدث عكس ما توقعت كلياً. فقد دبت الحياة في المدينة في السنوات القليلة الماضية من جديد، وبُعث فيها الروح مرة ثانية، وبدأت في الازدهار والنمو، وكل ذلك بسبب إعطاء مهمة سرية ثانية للمختبر. وهذه المرة أيضاً، كما في السابق ليس للتعمير، والبناء، والإصلاح، وتنمية البشر، ولكن لإفساد بنية الأرض، والقتل الجماعي الشامل للبشر من خلال إنتاج أسلحة وقنابل تدميرية عظيمة أعنف من القنبلة الذرية السابقة، فما لا أذن سمعت في شدة تدميرها، ولا عين رأت قوتها الهائلة، ولا خطر على قلب بشر.
فهذا المختبر القومي التاريخي العريق في مدينة «لوس ألاموس» خُصصت له ميزانية مهولة غير مسبوقة في التاريخ الأمريكي، وتُقدر بنحو 1.7 تريليون دولار، كما تم توظيف أكثر من 3000 عامل في مختلف التخصصات والمجالات العلمية. فالمهمة هذه المرة هي تحديث الآلاف من القنابل الذرية السابقة الموجودة حالياً في أرض الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى إنتاج أسلحة دمار شامل نووية لا يعرفها أحد حتى اليوم، ولم تُنتج أية دولة مثيلاً لها في شدتها وقوتها التدميرية. فهذه المدينة المغمورة تحولت الآن لتكون أقوى مدينة في أمريكا، ومن أكثرها أهمية من الناحية الاستراتيجية العسكرية، فهي تضم الآن مجمعاً عظيماً متخصصاً في أسلحة الدمار الشامل الذرية. ومن بين مرافق المجمع الفريد من نوعه على الكرة الأرضية، مختبر آخر هو اسمه «سانديا» (Sandia) في مدينة «ألباكركي» التي نزلت فيها أثناء رحلتي السياحية، وهذا المختبر له هدف واختصاص واحد فقط، وهو تصميم مكونات آلة وأداة التفجير في الأسلحة النووية، إضافة إلى قاعدة كيرتلند الجوية التي تحتوي على موقع خاص لتخزين الأسلحة النووية، وموقع آخر تحت الأرض لتخزين المخلفات النووية.
وجدير بالذكر أن كل هذه الجهود الشريرة تبذل بسرعة شديدة، وتنفق عليها المليارات من أموال الشعب الأمريكي، وكأن الولايات المتحدة الأمريكية في خطر فوري يحدق بها، أو أنها تتلقى تهديدات من دول مجاورة تسعى إلى غزوها والانقضاض عليها واحتلالها، كما يفعلون هم بالدول الأخرى، أو كأنها لا تمتلك أي أسلحة نووية لتحمي بها أرضها، وتدافع بها عن شعوبها.
فالتقارير تفيد بأن الولايات المتحدة الأمريكية تفوق كل دول العالم من الناحيتين الكمية والعددية للترسانة النووية، فهي تمتلك قرابة 5244 رأس نووي من مختلف القوى التدميرية، ومن بينها قنابل أشد قوة من القنبلتين النوويتين اللتين ألقيتا على اليابان، إضافة إلى زهاء 2000 منها في الغواصات، والمتفجرات، والقنابل، والصواريخ الباليستية عابرة الحدود وجاهزة للاستخدام (بحسب التقارير الدورية التي ينشرها «معهد إستكهولم الدولي لأبحاث السلام»).
فلماذا تمتلك أمريكا هذه القوة النووية الجبارة التي تكفي لتدمير كوكبنا كله، وليس تدمير مدينة واحدة في أي دولة؟ وما الحاجة إلى تطوير المزيد من هذه القوة التدميرية والإصرار على إنتاجها وتخزينها؟
فالحجة التي تقدمها أمريكا للشعب الأمريكي ولعامة الناس بأنها أسلحة ردع ودفاع عن النفس، ولكن ترامب الرئيس المنتخب فضح هذا الادعاء الكاذب والمخادع، وصرح أمام العالم في مؤتمر صحفي عُقد في منزله في فلوريدا في 7 يناير 2024 بأن له نوايا توسعية من الناحية الجغرافية، كما هدد بأنه سيغزو ويستعمر بعض الدول بالقوة، فإما القوة العسكرية التقليدية العنيفة، وإما القوة الاقتصادية الناعمة، فهو يريد احتلال قناة باناما، وجزيرة جرينلاند، وضم كندا لتصبح الولاية رقم (51)، كما ينوي تغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا. وطبعاً لا يمكن لأمريكا أن تحقق طموحاتها الاحتلالية التوسعية والسيطرة على دول العالم إلا بوجود الأداة الفاعلة القوية التي تستطيع بها القيام بذلك، وهذا الأداة هي أسلحة الدمار الشامل النووية.
فهل بعد هذه التصريحات العلنية يشك أحد في أن أمريكا دولة حربٍ وعدوان واحتلال للدول الأخرى الضعيفة، وليست دولة سلام، وتعايش، وتسامح بين الدول والشعوب؟ فكل هذه الترسانة النووية غير المسبوقة ستستخدمها أمريكا كالعصا القوية الغليظة التي لن تسمح لأحد بامتلاكها، كما ستستخدمها لمصالحها الاحتلالية التوسعية ونهب خيرات الأمم والشعوب.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك