يبدو العالم دائرًا في حلقة مفرغة، بين دول كانت غنية ثم أصبحت فقيرة وأخرى فقيرة باتت غنية، بين حضارات بُنِيَت وأخرى هُدِمَت، بين أفكار خاطئة صُححَت وأفكار صحيحة خُطئت، عبر أزمنة أتت وذهبت بين مد وجزر، تعطي وتأخذ، تُقوي ثم تُضعِف، لتنقل البشرية إلى آفاق متقلبة تطمئن فيها بقدر ما تخاف منها، تلك الأضداد هي التي جعلت العالم ثابتًا رغم ما فيه من تغير، ومتغير وإن بدا ثابتًا، وصنعت من بدايته نفس خيوط النهاية، كما أبقت على المخاطر- باختلاف مستوياتها وطبيعتها- سببًا في حياة البعض وموت الآخرين، وطمَسَت الشيء في اللا شيء مثلما أحيت اللا شيء فجعلته شيئًا، في تأكيد ما سبق أن أشار إليه «هيرقليس» منذ آلاف السنين: (إنه لا شيء ثابت في هذا العالم سوى التغيير).
وتلك حقيقة -إن أردت- لن يصعب عليك اكتشافها والتحقق منها، عندما تسأل نفسك: (أين كنت؟ وكيف أصبحت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ هل هنالك ثابت في حياتك لم يتغير؟ ومَن بقي معك من أصدقائك وأحبتك وجيرانك على مدى عمرك؟ وهل صادفتك طرق دون تعرجات وانحرافات يمينًا وشمالًا، ارتفاعًا وانخفاضًا؟ هل رأيت صغيرًا لم يكبر أو مريضًا لم يُشفَ أو صحيحًا لم يمرض؟ هل عرفت حيًّا لم يمت؟ أو جاء يوم لم يمضِ؟).
إن حقيقة الكون كامنة في تناقضاته وتغيراته. يقول «أينشتاين»: (في هذا العالم لا يوجَد شيء ثابت إلا التغيير)، وهو ما أكده أستاذ الفيزياء «مايكل مان» بقوله: (في عالمنا تكون التغيرات هي القاعدة، والاستقرار هو الاستثناء، والكون يعكس التغيير دائمًا، أما الثبات فهو في مفاهيمنا فقط)، ويضيف «الفيزيائي العظيم»، ستيفن هوكينج: (إن العالم ليس كما نراه، بل هو شبكة معقدة من العلاقات التي تتغير باستمرار، حيث يظهر التوازن بين الأضداد في كل زاوية من الزوايا)، وفي محاولة لتفسير الكون، يقول العالِم الفيزيائي «نيل تيجار تايسون»: (إن الكون لا يرحم، فلا توجَد فيه أشياء ثابتة. كل الأشياء في حالة تغير مستمر، وكل قانون طبيعي يختبر حدود الأضداد).
وإن تركنا العلم إلى الأدب والفلسفة والتاريخ، فسنجد تطابقًا مع وجهات النظر السابقة، وسيتضح لنا أن روح عالمنا كامنة في تناقضاته، واستمرار وجوده قائمًا على أضداده. يقول «جلال الدين الرومي»: (لا ضوء بلا ظلام، ولا حلاوة دون مرارة)، كما أن الحياة -بحسب «جبران خليل جبران»: (محبة تختلط بالألم، وفرح يقترن بالحزن، وقوة تمتزج بالضعف) لكونها كما عبر عنها «قس بن ساعدة»: (إذا حَلَت أوحَلَت، وإذا كَسَت أوكسَت).
بالطبع، لم أقصد بما صغت تحبيب الناس في الزهد، وإنما الدفع إلى فهم ماهية هذا العالم، باعتبار التفاوت طريقًا للانسجام والاختلاف جسرًا يقود إلى الاتفاق، والهزيمة التي قد نواجهها اليوم ربما تقودنا غدًا إلى انتصار محقق وبالعكس.
يقول الشاعر:
كل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يُغَرّ بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دُوَل
مَن سَرّه زمن ساءته أزمان
هذه الدار لا تُبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شان
الخلاصة أننا نعيش رواية محفوظة ومكررة وساذجة، تنتظم خطوطها في الفوضوية، وتدور أحداثها -مهما كانت عظيمة- في إطار زمني محدود، لا يتوقف عندها أبدًا، أما البطولة فلا تدوم، ولم ولن يستأثر بها أحد، وإذا كان بعضنا -بالأمس- ضمن صفوف المتفرجين، فلا يُستغرب أن يكون اليوم أو غدًا فُرجة لمَن هَبَّ ودَبّ.
لكل ما فات، أنصحني وأنصحك بألّا نصدق ما نسمع من كلمات لأنها مثل فصول السنة تتغير كلما اختلفت الأجواء وهبت رياح المصالح، فلنحذر الغضب حتى لا نستعجل الموت، ولنستمتع بالهم اللذيذ قبل أن يؤلمنا الفرح، ولنرضَ بأن هذا العالم لا يستحق منّا كل هذه الصراعات والمشاحنات لأنه وهم في ثوب الحقيقة، أو حقيقة عاشت في الوهم.
{ باحث لغوي وأكاديمي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك