بدأ التقدم الغربي بثورة إنسانية معرفية أهلتهم بعد قرون من التربع على ناصية العلم والتكنولوجيا، ومكنتهم من اكتساح العالم. بدأ التقدم الاوروبي بثورة تعليمية إنسانية قامت على الانفتاح وأنتجت التعددية والمعارف والعلوم. بدأت حركة الأنسنة في المدن الإيطالية بثورة في التعليم والمعرفة والثقافة الأدبية والفنية. ركزت الأنسنة على دراسة التراث اليوناني والروماني، وانتقلت به من الجانب الديني إلى البعد الإنساني وقدرات الإنسان وطاقاته ونجاحاته. ينطوي التعليم الإنساني على خصائص مثل التركيز على تنمية الإنسان ككل بما فيه المهارات الاجتماعية والأخلاقية وليس فقط قدراته العقلية؛ ثانيا أنه نهج يركز على المتعلم وتعليم نشط يؤكد التفكير النقدي والاستقصاء الذي يقوم به الطالب، ثالثا أنه تعليم متعدد التخصصات يفتح قريحة الطالب للربط بين المواد المختلفة والتفكير المنظومي في القضايا، من جوانب متعددة. رابعا أنه برنامج يعطي أهمية كبيرة للقيم الأخلاقية مثل الصدق والنزاهة والرحمة والعدالة الاجتماعية. يقوم هذا الاهتمام على قناعة بأن التقدم الانساني يعتمد على العلم وعلى الفكر النقدي والفضول العلمي ومن دون النقد والفضول لا يوجد تقدم. ويقوم كذلك على أن التعددية هي طبيعية والأحادية منافية للواقع والأديان.
بدأ التقدم الغربي في القرن الرابع عشر كردة فعل تجاه أزمات منها ما تعلق بالطاعون وتأثيره المدمر على المجتمعات ومنها ما هو متعلق بالصراعات الدينية بين السلطة الدينية والسياسية. تمخضت ردات الفعل عن حركة تعليمية في المدن الإيطالية وما سمي بعصر النهضة الأوروبية تحت اسم «الأنسنة» أو الأنسنة المدنية (Civic Humanism). هدفت هذه الحركة إلى تكوين مواطن صالح. تكوين المواطن الصالح اقتضى بناء قدراته الخطابية والمنطقية لتؤهله للمشاركة في الحياة العامة وتمنحه مهارة الإقناع وتوصيل أفكاره وآرائه في الحوارات السياسية والمجتمعية، واتخاذ القرار المبني على المنطق والمعلومات والأسس الأخلاقية والقيمية. كذلك اهتمت حركة الأنسنة بتدريس مواد العلوم الدينية والأخلاق، ونظرا إلى اختلاف المفاهيم الدينية من وقت إلى آخر فقد تم التركيز على القيم والأخلاق. قاد هذا التوجه في التعليم إلى تحولات ثقافية وفكرية شجعت التفكير النقدي، والفضول الفكري، وجددت الاهتمام بالطبيعة وقوانينها. أثمر هذا التعليم الإنساني في تنمية المؤسسات الديمقراطية وازدهار الفنون والعلوم، نتج عنها تحولات مجتمعية تعظم القدرات والطاقات الفردية. مثل هذا التوجه كان تحديا كبيرا للتصلب وجمود التكوين الطبقي للمجتمع آنذاك، وأسهمت حركة الأنسنة في نمو المدن، وظهور طبقة تجارية نشطة (طبقة وسطى كبيرة) وشكل جديد من التنظيم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي. أكد التعليم الإنساني هذا المشاركة والتنمية الأخلاقية وخلق مجتمعا تشاركيا وأكثر تعليما.
اعتمدت النهضة الانسانية الايطالية في إصلاح التعليم على 7 مواد رئيسية، مقسمة إلى مجموعتين. المجموعة الاولى 4 مواد، أولها اللغات الكلاسيكية (اللاتينية واليونانية القديمة). من خلال هذه اللغات الكلاسيكية تمت دراسة وقراءة النصوص الأساسية في الفلسفة والأدب والتاريخ، (وكذلك في وقت لاحق إعادة الاهتمام بالكتاب المقدس (الإنجيل) وإعادة قراءته وتفسيره). مثل هذا التعليم عزز التفكير النقدي والمهارات التحليلية وتقدير الثقافات والوجهات النظرية المختلفة. المادة الثانية الأدب (النثر والشعر والدراما والنثر)، يعرض الأدب تعقيدات التجارب الإنسانية وفهم الطبيعة البشرية والتعاطف مع الآخرين. ثالثا التاريخ، يساعد على فهم الماضي وتحليل الأسباب والنتائج والعلاقة بينهما، والتعَلُّم من النجاحات والإخفاقات، ويعزز الشعور بالانتماء العالمي والإنساني وتقدير الثقافات ووجهات النظر المختلفة. رابعا الفلسفة، تشجع التساؤل والتفكير النقدي، والتفكير الأخلاقي واستكشاف الأسئلة الأساسية حول الوجود والمعرفة والأخلاق، كما تساعد على تطوير القيم والمعتقدات الخاصة وتُعلم حسن صياغة المواقف والدفاع عنها بمنطق موضوعي.
المجموعة الثانية مواد تُطور وتُنمي المهارات، وأولها البلاغة والتواصل التي تؤهل المواطن للتواصل مع المجتمع، وتمنحه القدرة على الإقناع والمشاركة المدنية في الحوارات المجتمعية. ثانيا الرياضيات والعلوم، تهيئ المواطن لفهم الخلق من حوله وحل المشكلات واتخاذ القرارات المستنيرة، وتقوي المهارات التحليلية وروح الاستقصاء. ثالثا الفنون، لتعزز روح الإبداع والخيال والذكاء العاطفي وتوفر فرصا للتعبير عن الذات وتقدير الجمال والتنوع.
ما أسهم في تغيير المجتمع هو الإصلاح الديني والثورة اللوثرية في القرن السادس عشر التي قلبت موازين الكنيسة الكاثوليكية وأنتجت مذاهب وتوجهات سياسية أدخلت أوروبا في حروب انتهت إلى قناعة بأهمية التعددية وحق الاختلاف والحرية الفكرية والعقائدية وفصلها عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هذه التطورات مكنت الإنسان من طرح الأسئلة ومناقشة مسلمات دينية وكنسية ومراجعة تفاسير ونصوص ومفاهيم لم تعد متناغمة مع القراءة الجديدة للكتب المقدسة، بل يتعارض بعضها مع الاكتشافات العلمية والاستنتاجات الفكرية. تمخضت هذه المرحلة عن أولوية الضمير الإنساني والحرية الدينية. خلقت هذه الحالة حركة اجتماعية كانت بمثابة الوقود للثورة العلمية والابتكارات الثقافية. الروح النقدية والفضول الفكري، ومراجعة المسلمات والاعتقادات التقليدية، أنتجت ثورة علمية قلبت موازين أكثر المسلمات رسوخا في الوعي الأوروبي. سقوط هذه المسلمات أعطى انطلاقة الثورة العلمية والتفكير المنهجي العلمي في القرن السابع عشر، حققت هذه الثورة العلمية تقدما صناعيا وتكنولوجيا. دروس التاريخ ينبغي أن تحثنا على التساؤل: هل سيكون هناك عصر نهضة عربية؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك