العدد : ١٧٠٩٠ - الاثنين ٠٦ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٠ - الاثنين ٠٦ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٦ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف يلاعبك الموت في جباليا؟

بقلم: د. هيا فريج

السبت ٠٤ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

كنا‭ ‬حشودًا‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬الأحياء‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض،‭ ‬نسير‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬النزوح‭ ‬الإجباري‭ ‬من‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا،‭ ‬نلقي‭ ‬نظرة‭ ‬الوداع‭ ‬الجماعية،‭ ‬وسط‭ ‬سخرية‭ ‬الجنود‭ ‬منا‭: ‬‮«‬جبّارين‭ ‬يا‭ ‬أهل‭ ‬جباليا‮»‬‭ ‬نحن‭ ‬كذلك،‭ ‬لكن‭ ‬جبروتنا‭ ‬لم‭ ‬يقدر‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬أعتى‭ ‬قوى‭ ‬الأرض‭.‬

كنا‭ ‬في‭ ‬معظمنا‭ ‬جِياعًا‭ ‬وعِطاشًا‭ ‬ومصابين‭ ‬نتعلق‭ ‬ببقايا‭ ‬كبريائنا‭ ‬الذي‭ ‬عبثت‭ ‬به‭ ‬خذلان‭ ‬أشقاء‭ ‬وجيران‭ ‬وحكومات‭ ‬ودول‭.‬

اعتقل‭ ‬الجيش‭ ‬إخوتي‭ ‬مع‭ ‬مئات‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬مروا‭ ‬عند‭ ‬دوار‭ ‬الشيخ‭ ‬زايد،‭ ‬وتركوا‭ ‬النساء‭ ‬مع‭ ‬الأطفال‭ ‬دون‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭.‬

‭ ‬طريق‭ ‬الآلام‭ ‬

كنت‭ ‬أجر‭ ‬جدتي‭ ‬مضطرة‭ ‬بالكرسي‭ ‬المتحرك‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬تتكدس‭ ‬فيه‭ ‬الأحجار‭ ‬وركام‭ ‬البيوت،‭ ‬وتضع‭ ‬أمي‭ ‬حملها‭ ‬كله‭ ‬علي،‭ ‬فليس‭ ‬في‭ ‬استطاعتهما‭ ‬أن‭ ‬تمشيا‭ ‬أكثر‭.‬

لا‭ ‬تقتنع‭ ‬ستي‭ ‬بأننا‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬عسكرية‭ ‬مغلقة،‭ ‬وأن‭ ‬الجنود‭ ‬لا‭ ‬يتورعون‭ ‬عن‭ ‬تحذيري‭ ‬من‭ ‬التوقف‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬كررتُ‭ ‬لهم‭ ‬بالعبرية‭ ‬أن‭ ‬معي‭ ‬مرضى،‭ ‬وأنني‭ ‬مضطرة‭ ‬للتمهل‭ ‬في‭ ‬المشي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صحتهم‭.‬

أعدها‭ ‬بأن‭ ‬أطلب‭ ‬لها‭ ‬الإسعاف‭ ‬عند‭ ‬أقرب‭ ‬نقطة‭ ‬فلسطينية‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬فيها‭ ‬الجنود،‭ ‬إنّ‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نمشي‭ ‬حتى‭ ‬أعتاب‭ ‬‮«‬الشجاعية‮»‬‭ ‬وهناك‭ ‬يمكننا‭ ‬أن‭ ‬نتجه‭ ‬غربًا‭ ‬كما‭ ‬نريد،‭ ‬لا‭ ‬جنوبًا‭ ‬كما‭ ‬يطلب‭ ‬الجيش‭ ‬منا‭.‬

تبكي‭ ‬أمي‭ ‬وستي‭ ‬من‭ ‬وجع‭ ‬أقدامهما‭ ‬في‭ ‬المسير،‭ ‬أتذمر‭ ‬قليلًا‭ ‬وأواسيهم‭ ‬كثيرًا‭: ‬نحن‭ ‬أبناء‭ ‬البلاد‭ ‬نعرفها‭ ‬مثلما‭ ‬نعرف‭ ‬أنفسنا،‭ ‬نحفظ‭ ‬طرقاتها،‭ ‬وممراتها،‭ ‬وأزقتها‭. ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬طريقي‭ ‬إلى‭ ‬العمل،‭ ‬وطريقي‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬في‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه،‭ ‬لن‭ ‬يأخذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ساعة،‭ ‬لكنهم‭ ‬يتفننون‭ ‬في‭ ‬تعذيبنا‭.‬

مررنا‭ ‬على‭ ‬الجثث‭ ‬التي‭ ‬ألقى‭ ‬بعض‭ ‬الناس‭ ‬عليها‭ ‬غطاءً،‭ ‬وتركوها‭ ‬تقابل‭ ‬ربّها،‭ ‬كنتُ‭ ‬أحسدهم‭ ‬فقد‭ ‬انتهت‭ ‬تجاربهم‭ ‬الأرضيّة‭ ‬على‭ ‬أرضهم‭ ‬التي‭ ‬يحبون،‭ ‬أما‭ ‬نحن‭ ‬فما‭ ‬زلنا‭ ‬متعثرين‭ ‬مثل‭ ‬المسيح‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬جلجته،‭ ‬نجرّ‭ ‬صلبان‭ ‬العذاب‭ ‬في‭ ‬انتظار‭ ‬نعيم‭ ‬أبدي‭ ‬تواسينا‭ ‬به‭ ‬العجائز‭ ‬اللواتي‭ ‬لم‭ ‬يفقدن‭ ‬إيمانهن‭ ‬بعد‭. ‬يتشبث‭ ‬بي‭ ‬أخواتي‭ ‬كلما‭ ‬رأينَ‭ ‬دبابةً‭ ‬أو‭ ‬جنودًا‭ ‬في‭ ‬استعراضٍ‭ ‬باذخٍ‭ ‬للقوة‭ ‬أمامنا‭ ‬نحن‭ ‬العزل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬من‭ ‬يقنع‭ ‬الساسة‭ ‬والجنود‭ ‬أننا‭ ‬أبرياء‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لنا‭ ‬يدٌ‭ ‬في‭ ‬حربٍ؟‭ ‬من‭ ‬يقنع‭ ‬هؤلاء‭ ‬الجنود‭ ‬أننا‭ ‬لسنا‭ ‬خصومهم‭ ‬في‭ ‬المعركة؟‭ ‬

ألتفت‭ ‬ورائي‭ ‬طول‭ ‬الطريق،‭ ‬لألمح‭ ‬الأطلال‭ ‬وأكوام‭ ‬الركام‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬البصر،‭ ‬القناصون‭ ‬على‭ ‬أهبة‭ ‬الاستعداد‭ ‬لإطلاق‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة،‭ ‬يعتلون‭ ‬سطوح‭ ‬المنازل‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تقصف‭ ‬بعد،‭ ‬فالجيش‭ ‬ينتظر‭ ‬انتهاء‭ ‬مهمته‭ ‬فيها‭ ‬ليقصفها‭ ‬مثلما‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬كل‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬دخلها،‭ ‬ومثلما‭ ‬فعل‭ ‬مع‭ ‬منزلنا‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الرمال‭ ‬غرب‭ ‬غزة‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭.‬

كنّا‭ ‬شهوداً‭ ‬على‭ ‬التطور‭ ‬الحضري‭ ‬لمدينة‭ ‬غزة،‭ ‬وكنا‭ ‬في‭ ‬المخيم‭ ‬حتى‭ ‬آخر‭ ‬نفس‭ ‬وحتى‭ ‬آخر‭ ‬حجر‭. ‬شهدنا‭ ‬العمار‭ ‬والخراب،‭ ‬في‭ ‬الطريق‭ ‬يعاتبني‭ ‬ضميري‭ ‬وتدور‭ ‬الأسئلة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭. ‬هل‭ ‬كان‭ ‬عليّ‭ ‬أن‭ ‬أبقى‭ ‬في‭ ‬المخيم؛‭ ‬لأواجه‭ ‬الموت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬مشفى‭ ‬الشهيد‭ ‬كمال‭ ‬عدوان؟‭ ‬هل‭ ‬بقي‭ ‬مكان‭ ‬لم‭ ‬تدسه‭ ‬أقدام‭ ‬الجيش؟‭ ‬ماذا‭ ‬يخبئ‭ ‬لنا‭ ‬القدر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كتب‭ ‬لنا‭ ‬النجاة‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬ركام‭ ‬المنزل‭ ‬في‭ ‬المخيم؟

لقد‭ ‬أعطانا‭ ‬القدر‭ ‬فرصاً‭ ‬لاستكمال‭ ‬حياة‭ ‬الشقاء،‭ ‬فقد‭ ‬انتصرنا‭ ‬على‭ ‬الموت‭ ‬بالرصاص‭ ‬الحي‭ ‬الذي‭ ‬ظل‭ ‬يمطرنا‭ ‬أسبوعين‭ ‬كاملين‭ ‬في‭ ‬الفالوجة،‭ ‬ونجونا‭ ‬من‭ ‬قذائف‭ ‬الدبابة‭ ‬التي‭ ‬هربنا‭ ‬من‭ ‬أمامها‭ ‬في‭ ‬تل‭ ‬الزعتر،‭ ‬ثم‭ ‬نخرج‭ ‬أحياء‭ ‬في‭ ‬الأخير‭ ‬من‭ ‬حزام‭ ‬ناري‭ ‬ضرب‭ ‬محيط‭ ‬مشفى‭ ‬الشهيد‭ ‬كمال‭ ‬عدوان؛‭ ‬لنعبر‭ ‬درباً‭ ‬في‭ ‬اتجاهٍ‭ ‬واحدٍ‭ ‬بلا‭ ‬عودة‭ ‬كما‭ ‬يتوعدنا‭ ‬الجنود‭.‬

تتكرر‭ ‬تهديداتهم‭: ‬ليس‭ ‬لنا‭ ‬سوى‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬جنوب‭ ‬وادي‭ ‬غزة،‭ ‬وأن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬يخالف‭ ‬الأوامر‭ ‬يعرض‭ ‬نفسه‭ ‬للخطر‭.‬

أحاول‭ ‬أن‭ ‬أتجاهلهم،‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬ملاحقتنا‭ ‬بعد‭ ‬الكنيسة‭ ‬البيزنطية‭ (‬آخر‭ ‬مكان‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬الجيش‭ ‬شرق‭ ‬جباليا‭)‬،‭ ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬ليس‭ ‬لنا‭ ‬في‭ ‬الجنوب‭ ‬مكانٌ‭ ‬نذهب‭ ‬إليه،‭ ‬وأنا‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬أو‭ ‬أموت‭ ‬في‭ ‬خيمة‭.‬

تتكرر‭ ‬ضحكات‭ ‬الجنود‭ ‬الساخرة،‭ ‬فأسترجع‭ ‬في‭ ‬رأسي‭ ‬قهقهاتهم‭ ‬ذاتها،‭ ‬بعد‭ ‬زرعهم‭ ‬البرميل‭ ‬المتفجر‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬منزلنا‭ ‬في‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا،‭ ‬مع‭ ‬علمهم‭ ‬الكامل‭ ‬بوجودنا‭ ‬فيه‭. ‬أكرر‭ ‬سرًّا‭ ‬وجهرًا‭ ‬حزب‭ ‬البحر‭ ‬للإمام‭ ‬أبي‭ ‬الحسن‭ ‬الشاذلي،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لاستدعاء‭ ‬كرامات‭ ‬الأولياء،‭ ‬فقد‭ ‬أنقذنا‭ ‬صدق‭ ‬الدعاء‭ ‬والخشوع‭ ‬في‭ ‬الصلوات‭ ‬ليلة‭ ‬السابع‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬نوفمبر،‭ ‬فخرجنا‭ ‬سبعة‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬عمارة‭ ‬بأربعة‭ ‬طوابق‭ ‬انهارت‭ ‬فوق‭ ‬رؤوسنا‭ ‬مثلما‭ ‬انهار‭ ‬برجا‭ ‬مركز‭ ‬التجارة‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬نيويورك‭ ‬أمام‭ ‬أعين‭ ‬العالم،‭ ‬وسط‭ ‬صراخ‭ ‬مصابين‭ ‬وشهداء‭ ‬في‭ ‬حارتنا‭ ‬جراء‭ ‬تدمير‭ ‬المربع‭ ‬السكني‭ ‬الكامل‭.‬

من‭ ‬يكترث‭ ‬لعشرات‭ ‬آلاف‭ ‬الضحايا‭ ‬وآلاف‭ ‬الناجين؟

تعفر‭ ‬الدبابات‭ ‬وجوهنا‭ ‬وأجسادنا،‭ ‬ثم‭ ‬يجمعنا‭ ‬الجنود‭ ‬نساءً‭ ‬وأطفالًاـ‭ ‬في‭ ‬حفرةٍ‭ ‬رمليةٍ‭ ‬على‭ ‬شارع‭ ‬صلاح‭ ‬الدين،‭ ‬ينتفض‭ ‬جسدي‭ ‬كلما‭ ‬اقترب‭ ‬جندي‭ ‬مني؛‭ ‬لينهر‭ ‬طفلًا‭ ‬صغيرًا‭ ‬يبكي‭ ‬عطشاً‭. ‬التاريخ‭ ‬يكرر‭ ‬نفسه‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬حكت‭ ‬لي‭ ‬جدتي‭ ‬مرارًا‭ ‬قصة‭ ‬حشد‭ ‬الجيش‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬بركة‭ ‬أبو‭ ‬راشد‭ ‬وسط‭ ‬مخيم‭ ‬جباليا‭ ‬إبّان‭ ‬نكسة‭ ‬يونيو‭ ‬1967‭ ‬ونقل‭ ‬الرجال‭ ‬عبر‭ ‬شاحنات‭ ‬إلى‭ ‬مصر،‭ ‬واعتقال‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الرجال‭ ‬وإعدام‭ ‬آخرين‭ ‬أمامهم‭.‬

يتجمع‭ ‬الأطفال‭ ‬حولي،‭ ‬أقسم‭ ‬لهم‭ ‬خبزًا‭ ‬صنعته‭ ‬أمي‭ ‬قبلها‭ ‬بيوم‭ ‬وأسقي‭ ‬سيدةً‭ ‬من‭ ‬قنينتي،‭ ‬وأتذكر‭ ‬رواية‭ ‬جدتي‭ ‬حين‭ ‬لم‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يسقي‭ ‬ابنتها‭ ‬الرضيعة‭ ‬ماءً‭ ‬في‭ ‬النكسة‭ ‬قبل‭ ‬57‭ ‬عاما‭.‬

يطول‭ ‬انتظارنا‭ ‬ماذا‭ ‬يريد‭ ‬الجيش‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬بنا‭ ‬الآن؟

قلبي‭ ‬دليلي‭ ‬أتحسسه‭ ‬فأراه‭ ‬هادئا،‭ ‬منتظما،‭ ‬لا‭ ‬يعكر‭ ‬دقاته‭ ‬صلف‭ ‬الجنود‭. ‬أتذكر‭ ‬رؤياي‭ ‬التي‭ ‬قطعت‭ ‬غفوتي‭ ‬ساعة‭ ‬الفجر،‭ ‬حلمت‭ ‬أنني‭ ‬في‭ ‬حي‭ ‬الرمال‭ ‬أهرب‭ ‬من‭ ‬الدبابة‭ ‬الواقفة‭ ‬على‭ ‬ناصية‭ ‬الشارع،‭ ‬فأستشعر‭ ‬ستر‭ ‬العرش‭ ‬المسبول‭ ‬علينا،‭ ‬وأيقن‭ ‬أنّ‭ ‬فوهة‭ ‬الدبابة‭ ‬المترصدة‭ ‬لنا‭ ‬لن‭ ‬تضرنا،‭ ‬وأن‭ ‬عين‭ ‬الله‭ ‬تسبق‭ ‬عين‭ ‬الجنود‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬غالب‭ ‬الله‭ ‬سيُغلب‭.‬

يأتي‭ ‬فجأة‭ ‬ضابط‭ ‬إلى‭ ‬الحفرة،‭ ‬ويأمر‭ ‬النساء‭ ‬بالاستعداد‭ ‬للتفتيش‭. ‬يضحك‭ ‬الجنود‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭: ‬‮«‬راحت‭ ‬أملاككم‭ ‬يا‭ ‬أهل‭ ‬جباليا‭.. ‬يلا‭ ‬شيلوا‭ ‬شنطكم‭ ‬هي‭ ‬اللي‭ ‬ظللكم‭ ‬من‭ ‬دوركم‭ ‬اللي‭ ‬تهدمت‮»‬‭. ‬يضحكون‭ ‬ونبكي‭. ‬لكن‭ ‬من‭ ‬ينتبه‭ ‬إلى‭ ‬دموع‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬والمساقين‭ ‬نحو‭ ‬حتف‭ ‬آخر؟

يحين‭ ‬دورنا‭ ‬للتفتيش،‭ ‬أستشعر‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬الصعقة‭ ‬الكهربائية‭ ‬التي‭ ‬أصابتنا‭ ‬الساعة‭ ‬الرابعة‭ ‬فجرًا‭ ‬وقت‭ ‬قصف‭ ‬المنزل،‭ ‬كان‭ ‬الحدث‭ ‬يشبه‭ ‬فيلم‭ ‬الكارتون‭ ‬‮«‬قبر‭ ‬اليراعات‮»‬‭ ‬–Grave‭ ‬of‭ ‬the‭ ‬fireflies‭  ‬الذي‭ ‬جسد‭ ‬القصف‭ ‬الذري‭ ‬على‭ ‬مدينتي‭ ‬هيروشيما‭ ‬وناجازاكي‭ ‬في‭ ‬اليابان‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭.‬

كهرباء‭ ‬تصعق‭ ‬قلوبنا‭ ‬وتفجر‭ ‬بيوتنا

ليس‭ ‬لي‭ ‬علم‭ ‬بهندسة‭ ‬المتفجرات،‭ ‬لكن‭ ‬روايتنا‭ ‬ورواية‭ ‬بعض‭ ‬الناجين‭ ‬تجمع‭ ‬على‭ ‬أننا‭ ‬شعرنا‭ ‬بماس‭ ‬كهربائي‭ ‬ناجم‭ ‬عن‭ ‬التفجير‭ ‬الآلي‭ ‬بطريقتهم‭ ‬المبتكرة،‭ ‬إذ‭ ‬يضعون‭ ‬براميل‭ ‬متفجرة‭ ‬في‭ ‬الأحياء‭ ‬السكنية،‭ ‬ويربطونها‭ ‬بأسلاك‭ ‬كهربائية‭ ‬تولد‭ ‬صعقات‭ ‬كهربائية‭ ‬ثم‭ ‬تنفجر‭ ‬البراميل،‭ ‬وعلى‭ ‬أثرها‭ ‬تُنسفُ‭ ‬عشرات‭ ‬البيوت‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭. ‬صرخنا‭ ‬جميعًا‭ ‬في‭ ‬الحي‭ ‬بأننا‭ ‬نحترق‭ ‬إذ‭ ‬شاهدنا‭ ‬كتلة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬اللهب‭ ‬فوقنا‭.‬

يتعطل‭ ‬جهاز‭ ‬التفتيش‭ ‬فجأة‭ ‬أمامي،‭ ‬فيحاول‭ ‬الجنود‭ ‬إصلاحه‭ ‬دون‭ ‬جدوى‭. ‬

أستجمع‭ ‬قواي،‭ ‬وأتكلم‭ ‬بالعبرية‭: ‬‮«‬معي‭ ‬مرضى‭ ‬لا‭ ‬يمكنهم‭ ‬الوقوف‭ ‬أكثر‮»‬‭. ‬تتنزل‭ ‬رحمات‭ ‬السماء،‭ ‬وتحنُّ‭ ‬القلوب،‭ ‬وأمرّ‭ ‬‭ ‬بستر‭ ‬الله‭ ‬وبركة‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬وآله‭ ‬الكرام‭ ‬‭ ‬دون‭ ‬تفتيش‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬المجندات‭ ‬اللواتي‭ ‬فتشن‭ ‬أجساد‭ ‬النساء‭ ‬قبلي‭ ‬وبعدي‭.‬

يلوح‭ ‬لنا‭ ‬ضوء‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬درب‭ ‬الآلام،‭ ‬ويرجع‭ ‬إرسال‭ ‬شبكات‭ ‬الهواتف‭ ‬المحمولة‭ ‬فتطمئنني‭ ‬صديقتي‭ ‬التي‭ ‬سبقتني‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬بعدم‭ ‬وجود‭ ‬حواجز‭ ‬بعد‭ ‬التفتيش،‭ ‬أتفحص‭ ‬وجوه‭ ‬بعض‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬أطلق‭ ‬الجيش‭ ‬سراحهم‭ ‬سريعًا؛‭ ‬علّي‭ ‬أجد‭ ‬وجه‭ ‬إخوتي‭. ‬يستعير‭ ‬الشباب‭ ‬هواتفنا‭ ‬ليطمئنوا‭ ‬أهلهم‭ ‬بسلامتهم‭ ‬وتبكي‭ ‬ستي‭ ‬بما‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬دموع‭ ‬لها‭ ‬‮«‬يا‭ ‬ويلي‭ ‬عليكم‭ ‬يا‭ ‬وليداتي‭ ‬أخدوكم‭ ‬اليهود‮»‬،‭ ‬أقسم‭ ‬بأغلظ‭ ‬الأيمان‭ ‬أنهم‭ ‬بخير،‭ ‬وأن‭ ‬لا‭ ‬مصلحة‭ ‬للجيش‭ ‬في‭ ‬اعتقالهم،‭ ‬فنحن‭ ‬لسنا‭ ‬مسلحين،‭ ‬ولم‭ ‬نشارك‭ ‬في‭ ‬عمل‭ ‬مسلح‭.‬

تجيء‭ ‬رسالة‭ ‬بسلامة‭ ‬إخوتي،‭ ‬فترجع‭ ‬الروح‭ ‬إلى‭ ‬العجوز،‭ ‬وتدب‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ ‬أقدامها؛‭ ‬لتستكمل‭ ‬الطريق‭ ‬إلى‭ ‬المدينة‭ ‬الباردة‭ ‬التي‭ ‬تعصف‭ ‬بها‭ ‬الجيوش،‭ ‬ولا‭ ‬تغفر‭ ‬لها‭ ‬قوى‭ ‬الطبيعة‭. ‬وبذلك‭ ‬ينفرط‭ ‬عقد‭ ‬الصمود‭ ‬الأسطوري‭ ‬لمخيم‭ ‬جباليا‭ ‬الذي‭ ‬رفض‭ ‬أبناؤه‭ ‬تشريدهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أربعمئة‭ ‬يوم،‭ ‬وقاوموا‭ ‬بأظافرهم‭ ‬وأجسادهم،‭ ‬وأمعائهم‭ ‬الخاوية‭.‬

نودع‭ ‬المخيم‭ ‬على‭ ‬كرهٍ،‭ ‬لا‭ ‬عذلَ،‭ ‬ولا‭ ‬لومَ،‭ ‬ولا‭ ‬تأنيبَ،‭ ‬إذ‭ ‬ليس‭ ‬للفتى‭ ‬رأيٌ‭ ‬حين‭ ‬ينزل‭ ‬الخطب،‭ ‬وليس‭ ‬بيده‭ ‬أن‭ ‬يدفع‭ ‬القدر‭ ‬حين‭ ‬يعم‭ ‬البلاء‭.‬

 

{‭ ‬الدكتورة‭ ‬هيا‭ ‬فريج‭ ‬باحثة‭ ‬فلسطينية‭ ‬من‭ ‬غزة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا