تحت مظلة مكتبة الإسكندرية انعقدت مؤخرا ندوة «مستقبل النظام العربي» في توقيت يبدو فيه «النظام» مارًّا بلحظة تاريخية حرجة، سقط فيها آلاف الضحايا، وكان التدمير فيها مماثلًا لما جرى في حروب عالمية. نقطة الصفر التي بدأ عندها تاريخ المرحلة كانت هجمة «حماس» على غلاف غزة، سقط فيها 1200 ضحية إسرائيلي، ومعها جرى خطف 245 إسرائيليًّا واعتقالهم داخل أنفاق غزة.
ذلك العمل كان معبرًا عن تاريخ طويل من الاحتلال الإسرائيلي؛ وما جرى بعد ذلك بات معروفًا بأعداد من الشهداء بلغوا 45 ألفًا، 70% من النساء والأطفال، مع التدمير الكامل لقطاع غزة لا يُستثنى في ذلك بيت ولا مستشفى ولا مدرسة، وحتى وكالة «الأونروا» للإغاثة التابعة للأمم المتحدة جرى التخلص منها.
إن المجزرة أصبحت حربًا إقليمية، دخل فيها حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي وفصائل مماثلة في سوريا مضافًا لهم الحوثيون في اليمن.
بات الإقليم مشتعلًا على مدى 15 شهرًا، وبات على حافة حرب إقليمية تجرى بين إيران وتوابعها الإقليمية وإسرائيل ومسانديها الدوليين الذين تسارعوا إلى مدها بالمال والسلاح، وإرسال الرسائل إلى طهران أن مصيرها لن يكون بعيدًا عن المصير الذي حل بالمليشيات المسلحة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين. كانت سوريا هي الحلقة الأخيرة قبل أن ينتهي عام 2024 في تشكيل حالة الأزمة في الأمن الإقليمي العربي الذي بات محاطًا بقوى المحيط الإقليمي في إيران وتركيا وإسرائيل. القوى الثلاث مضافًا إليها إثيوبيا، استغلت «الربيع العربي» لكي تدفع بمشروعها الخاص لإعادة ترتيب المنطقة وفق مصالحها.
الندوة كان طبيعيًّا وهي منعقدة في مكتبة الإسكندرية وفى مبناها الأنيق بالقرية الذكية في مدخل القاهرة أن تضع حزمة من الأكاديميين والدارسين وأصحاب الخبرة من ساسة ودبلوماسيين في خدمة الموضوع المعبر عن التراجيديا في المنطقة.
لقد ثبت أن «الإقليم العربي» لا يعبر عن الدول العربية وإقليمها بقدر تفاعلاتها مع دول الجوار الجغرافي التي عندما تضاف يصير الأمر إقليمًا لا يحتكره العرب وحدهم. الأكاديميون لا يبدأون التداول حول الأمور التاريخية من دون بداية تحديد المفاهيم وتعريفها بدءًا من تعريف النظام الذي يصير تواتر أنماط من السلوك والتفاعلات في صورة منتظمة؛ وبعد إضافة الإقليمي فإنه في هذه الحالة يعبر عن نطاق جغرافي تتفاعل فيه دول غير عربية مع تلك العربية. وعندما تصل الحالة إلى تلك المزدحمة بالصراع والمنافسة والحرب وما يتبعه من مساعي وقف إطلاق النار يصل الجميع إلى السلام والأمن الإقليمي.
ومن باب العلم فإن الفكرة الإقليمية قديمة فقد وردت في ميثاق عصبة الأمم، والأمم المتحدة، بحيث تناشد الدول الإقليمية كلًّا فيما يخصه بالسعي نحو حل قضايا الحرب والسلام. والإقليمية قد تكون وظيفة شاملة لأشكال كثيرة من التعاون، ويُعد الاتحاد الأوروبي مثالًا بدأ من اتحاد للحديد والصلب والسوق المشتركة حتى وصل إلى الاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة. كما أنها قد لا تكون بمثل هذا الشمول وتكون جزئية بقدر ما تتراضى مصالح مجموعة من الدول مثل دول «البينيلوكس» – بلجيكا وهولندا ولوكسمبورج – أو الدول الاسكندنافية. ومن الجائز أن تكون الإقليمية معبرة عن تلاقى مصالح مجموعة من الدول للحصول على مصلحة مشتركة مثل التحكم في أسعار النفط وهو الوظيفة التي تقوم بها منظمة «الأوبك».
ساحة «الإقليمية» إذن واسعة، وهي في العلاقات الدولية تقع ما بين الدولة الوطنية ذات السيادة، والنظام الدولي الذي تهيمن عليه القوى القائدة عسكريًا واقتصاديًا.
ان التنظيم المعبر عن الإقليم العربي هو الجامعة العربية التي حاولت عبر تاريخها الطويل أن تأخذ بعضًا من مسار الاتحاد الأوروبي، بينما كان الواقع دائمًا يجعلها تتأرجح بين الصراعات الأهلية الداخلية، والصراعات الإقليمية بين دول عربية، والصراعات الإقليمية مع دول الجوار الجغرافي إيران وتركيا وإسرائيل، والصراعات الدولية عندما تتدخل دول خارجية في شؤون دول عربية.
ان الحالة الراهنة للإقليم العربي تتوفر فيها كل هذه الحالات مجتمعة. المشهد العربي يشهد الحروب الأهلية في السودان واليمن وليبيا وسوريا وفلسطين؛ كما شهد حربًا إقليمية بين إسرائيل والفلسطينيين ودول عربية أخرى؛ وكذلك بين الدول الإقليمية لكل من إيران وإسرائيل عبر سماوات عربية، وكلاهما على الأرض السورية واللبنانية. التدخل الأجنبي من خارج الإقليم جاء من الولايات المتحدة عندما قامت بنشر قواتها البحرية في البحار المحيطة بالإقليم العربي؛ وعندما أرسلت قوات مباشرة لمساندة حرب المدن التي خاضتها إسرائيل في أنفاق غزة، وعندما أرسلت إلى إسرائيل دفاعًا جويًا حديثًا تمثل في النظام الدفاعي الصاروخي «ثاد» لمقاومة الصواريخ البالستية الإيرانية.
تجربة «النظام الإقليمي العربي» مع الحرب لا تزال جارية، وتحديد مستقبل النظام سوف يكون قصة عام 2025. حرب غزة الخامسة أخذت مسارًا منذ بدايتها يتجاوز إطلاق صواريخ غزة وإنما انتقلت إلى إسرائيل؛ وتجاوزت ذلك إلى الإقليم الشرق أوسطي الذي جرى انقسامه إلى معسكرين: أولهما محور «المقاومة والممانعة»؛ وثانيهما محور الأمن والتنمية ويشمل دولًا عربية تسعى إلى الإصلاح الشامل وتأمين الدولة الوطنية وتجديد الخطاب الديني وتسعى بقوة إلى تحقيق الاستقرار الإقليمي والسلام في المنطقة.
إن جهود هذه الدول هي العمل من أجل وقف إطلاق النار في غزة مع إتاحة الفرصة لإقامة سلام عربي وفلسطيني عادل يعطي الفرصة لحل الدولتين. ما بين المعسكرين توجد دول عربية منشغلة بنتائج «الربيع العربي» مثل ليبيا والسودان واليمن وسوريا؛ ودول اكتفت بمناصرة الفلسطينيين في المحافل الدولية.
إن مستقبل النظام العربي سوف يتوقف على التفاعل ما بين المعسكرين وما انتهت إليه الجولات السابقة من الحرب من خوار أصاب الجانب الأول، ومراجعة من قبل الدولة القائدة «إيران» تجعلها ساعية إلى الحفاظ على نفسها مع الاقتراب أكثر من السلاح النووي. الجانب الثاني سوف يتقرر مصيره هو الآخر حيث يسعى إلى المحافظة على قوة الاندفاع الجارية لديه في عملية الإصلاح بينما يسعى إلى إقامة الجسور مع دول الجوار الإقليمي. الفرصة تبدو إيجابية لأن النظام الإقليمي العربي نجح خلال الفترة الماضية في تحقيق انطلاقة من التهدئة والتواصل مع كل من إيران وتركيا استنادًا إلى إعلان قمة العلا لمجلس التعاون الخليجي الذي صدر في 4 يناير 2021.
إن العقدة الكبرى للنظام الإقليمي العربي سوف تظل مع إسرائيل التي أصابتها نشوة كبيرة نتيجة حروبها ضد حماس وحزب الله وكتائب الحشد الشعبي والحوثيين، وما نجم عنها من قدرة على اقتحام قواعد الجيش السوري وتدميرها تدميرًا شاملًا لكل أشكال قدراتها العسكرية. ما سوف يأتي سيتوقف على قدرة الدول العربية الإصلاحية على إدارة الصراعات الإقليمية دون توترات فيما بينها؛ أما إدارة الصراع مع إسرائيل فإنها سوف يكون فيها الكثير من الإبداع الاستراتيجي الذي يقنع الفلسطينيين بالحاجة إلى بناء دولة لا تنفصل فيها السلطة عن السلاح، وإقناع إسرائيل بأنها أمام اختيار تاريخي بين تسوية عادلة قائمة على حل الدولتين أو أن المرجح سوف يكون العودة إلى حروب أخرى.
{ كاتب ومفكر مصري.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك