التصنيع في الوطن العربي له تاريخ لا يقل إثارة عن تاريخ الأمة العربية الحافل بالانتصارات والتراجع والتفاؤل وعدم التوفيق. التصنيع هو النشاط الذي وضع الأمم الغربية وغيرها على سلم التقدم والارتقاء والتفوق العسكري على باقي الأمم، ونرى اليوم تأثير ذلك في الحرب على غزة وكيف وظف الغرب آلته وقدرته في ارتكاب أكبر جرائم الإبادة. إنها القدرة على التصنيع التي مكنت إسرائيل من أربع دول عربية، والغرب على كثير منها.
يعتبر البعض أن الاستعمار هو سبب تأخر العرب في التصنيع لكنه كان عرضا من أعراض المرض الذي بدأ قبل ذلك بقرون. أخذت الأمة العربية تخطو نحو التصنيع متأخرة. بدأ هذه المسيرة محمد على باشا في القرن الثامن عشر، لكن بعد وفاته تعرضت جهوده لمصدات ومصاعب تراجع بعدها التصنيع والقدرة على المنافسة. دول عربية أخرى تتقدم في التصنيع اليوم وخصوصا دول الخليج لكنها لا تمثل الزخم المطلوب لإحداث التغيير.
لا تخلو الدول العربية من الموارد، فمعظم ما تحتاجه الصناعة من موارد طبيعية وبشرية متوفر في دولنا العربية، كما تتوفر رؤوس الأموال الضرورية للتصنيع والمنافسة العالمية. نشطت مؤخرا دول عربية في صناعة ثقيلة مثل الحديد والصلب والألمنيوم ومواد البناء والبتروكيماويات. وكلها صناعات مهمة ومعقدة لكنها صناعات أولية، وتطويرها إلى صناعات سلعية استهلاكية يتطلب مستوى أعلى من البحث والتطوير والتعليم والانفتاح في المجتمع وتحول ثقافي فكري.
إن ما تقوم به وزارات الصناعة في دول الخليج، وإن كان ما زال في بداياته، هي جهود كبيرة تصب في صالح بناء القدرة الصناعية في الدول العربية، فمعركتنا مع هذا العدو طويلة. أملنا أن تتحول الجهود (من خلال وزارات الصناعة العربية والخليجية بصفة خاصة) إلى عمل منسق، تأخذ كل دولة جزء من البناء الصناعي المتكامل في سياق التكامل العربي. الأمة تدرك أن القوة ليست بالسلاح المستورد، وإنما في القدرات المحلية المعرفية والعلمية والفكرية والتكنولوجية المؤدية إلى التصنيع بموارد وسواعد وقدرات فكرية وطنية وفق تصور تكاملي يسعى إلى التنويع الاقتصادي في كل دولة. المطلوب وفق تقرير التصنيع 2024 (الصادر مؤخرا) اعتماد سياسات صناعية حديثة، أساسها الاهتمام أكثر ببناء الإنسان المبدع المبتكر. بناء هذا الإنسان يتطلب انفتاحا وحوارا وقبولا به كما هو وليس كما نريد له أن يكون. وإن بناء الإنسان يبدأ ببناء قواه الإدراكية والتي تعتمد بالدرجة الأولى على حريته الفكرية. ولنا أن نتعلم من تاريخنا الناصع في بداياته عندما كان تلاقح الأفكار حيا في الحضارة الإسلامية الأولى وفي إنتاجها الفكري قبل أن يحل الجمود ومشوار حرق الكتب ونبذ الفكر المختلف.
حدد الاقتصاديون مصادر النمو وتوسيع القاعدة الصناعية الإنتاجية في خمسة متغيرات، هي التوسع في الطلب الاستهلاكي، والطلب الاستثماري، والتوسع في الصادرات، وزيادة إحلال الواردات، ومن ثم التقدم التكنولوجي من خلال الابتكار والإبداع والبحث العلمي المؤدي إلى اقتصاد المعرفة.
بالنسبة إلى الدول العربية فإنها متخلفة في التقدم التكنولوجي وأدواته الابتكارية والإبداعية والبحث العلمي، وهذه الأدوات تحتاج إلى مجتمعات منفتحة على الحوار وتلاقح الأفكار وحرية البحث والنشر. هذه الأدوات ليست متوفرة بالقدر الكافي في معظم دولنا العربية، بعضها لأسباب مادية مثل ضعف الاستثمارات في القطاع الصناعي، وأخرى لأسباب ثقافية وسياسية.
تقرير التنمية الصناعية 2024 سلط الضوء على التحديات والفرص التي تواجه القطاع الصناعي. ويهدف إلى تعزيز القدرة التنافسية للدول، خاصة في العالم العربي. ويوصي (ضمن السياسات الصناعية الحديثة) باعتماد مقاربات شمولية متناغمة مع محيطها، بذهنية جديدة تضع هذه السياسات وأهدافها في الصدارة، بنظرة مستقبلية تؤمن بالتعاون في العمل والتنسيق بين البلدان العربية. وأول خطواتها، في مسيرتها نحو تطوير التصنيع، تقييم هذا القطاع وإمكاناته وقدراته، والتركيز على أهداف التنمية المستدامة رقم 7 و8 و9؛ ويقترح نهجا جديدا في التقييم. هو نهج يركز على تقييم شامل ومتعدد الأبعاد، يأخذ في الاعتبار السياقات المحلية ويشجع على التعاون بين القطاعات المختلفة، مما يعزز من فعالية الجهود المبذولة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وكذلك تحديد أولوياتنا والتحديات التي تواجهنا.
يوصي التقرير بسياسات حديثة منها تحفيز الابتكار والتكنولوجيا من خلال أولا: البحث والتطوير لتعزيز الابتكار في الصناعات. ثانيا: دعم استخدام التكنلوجيا الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء. ثالثا: أهمية سياسات الاستدامة البيئية وأهمها تطبيق ممارسات التصنيع المستدامة لتقليل التأثير البيئي، واستخدام الطاقة المتجددة في العمليات الصناعية.
رابعا: تعزيز وتحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية في القطاع الصناعي مع إنشاء بيئة مؤسسية جاذبة للمستثمرين. خامسا: الاهتمام بالتدريب من خلال تطوير برامج تدريبية لرفع مهارات القوى العاملة الصناعية، والتركيز على التعليم الفني والتقني لتلبية احتياجات السوق. والأهم، سادسا: التكامل الإقليمي وتعزيز التعاون بين الدول العربية ورفع مستوى التجارة البينية وتطوير سلاسل الإمداد وتحسين البنية التحتية وخصوصا المواصلات البرية لنقل البضائع فيما بين الدول العربية، بالإضافة إلى تخفيف القيود غير الجمركية فيما بينها.
مثل هذه السياسات يكون لها تداعيات مهمة على الدول العربية منها تحسين إنتاجية القطاع الصناعي وتعزيز تنافسيته؛ خلق فرص عمل جديدة وانعكاسها على النمو الاقتصادي؛ تدفع هذه السياسات كذلك في اتجاه الاستدامة البيئية وتحسين البنية التحتية والخدمات بشكل عام. وللحديث بقية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك