من التاريخ نتعلم. تعلمنا في الجامعات ومن وقائع التاريخ وسجلاته، أن انحسار القوى الاستعمارية التقليدية وصعود كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لاحتلال مواقع القيادة الدولية، كلاهما الانحسار والصعود، استلزما ليكتملا فترة طويلة تخللها عنف الحروب الدولية وقسوة إجراءات تدمير بنى ومؤسسات وإقامة هياكل جديدة.
حدث هذا كله وأكثر منه خلال فترة بدأت في نهاية القرن التاسع عشر بحملات توسع استعماري غربي أخذ شكل السباق في إفريقيا والشرق الأوسط. تصاعدت وتيرة السباق حتى صارت حربًا عالمية انتهت إلى تحولات اعتمدت نوعًا آخر من العنف.
قرأنا أن الفاشية في نسختيها الإيطالية والألمانية حاولت تعويض الفشل وخسائر الحرب بتحشيد القوى والتخطيط لتوسع إقليمي، انفرطت إمبراطوريات أوروبا الشهيرة، وفى مقدمتها إمبراطورية عثمانية اشتهرت بسمعة رجل أوروبا المريض، ساعد على انهيارها السرعة التي تميز بها صعود تيار يحمل هوية القومية العربية وهويات أخرى عديدة في المناطق التي وقعت تحت هيمنة السلطة العثمانية.
تعلمنا من تفاصيل ما وقع بين الحربين أن بعض التطورات التي حدثت في الشرق الأوسط ما كانت لتقع دون تخطيط وترتيب من جانب القوتين الأوروبيتين الأهم في ذلك الحين، بمعنى آخر ما كان يمكن أن تنشأ وقتها دول عربية على الشكل الذي قامت به فعلًا لولا إرادة المملكة المتحدة وفرنسا ومباركة أمريكا القطب الدولي الناشئ بتردد.
وما كان يمكن أن تقوم جامعة الدول العربية كإطار غير فاعل تجتمع في ظله الدول العربية حديثة النشأة والاستقلال لولا انفراط رجل أوروبا المريض، وبالتالي ما كان لينشأ نظام إقليمي عربي، ليؤكد بشكل من الأشكال هويته القومية المختلفة في الجوهر وفى الحلم عن جوهر وأحلام بقية شعوب الشرق الأوسط.
نعرف أيضًا أن الولايات المتحدة سارعت منذ وقت طويل سابق على نشوب الحرب العالمية الثانية إلى اتخاذ إجراءات تضمن بها استمرار تدفق نفط دول الخليج. حدث هذا عندما كانت الولايات المتحدة تعتمد على نفط هذه الدول إلى حد كبير، وفى الوقت نفسه عملت الولايات المتحدة على أن يكون الاعتماد متبادلًا بينها وبين هذه الدول، تعتمد هي على نفط سهل بسعر مقبول وتعتمد دول المنطقة على الحماية عند اللزوم.
في سياق العلاقات الدولية او الإقليمية. أذكر جيدًا درس الاندماج القومي حين كان الأستاذ الأمريكي في الجامعة ينصحنا بأن نحسب عدد الرسائل البريدية والهاتفية المتبادلة بين شعبين إن شئنا التعرف على درجة الاندماج بينهما. اليوم ينصحون بحساب عدد رحلات الطيران اليومية أو الأسبوعية بينهما.
كان منطقيًا ومفهومًا أنه عندما انفرطت الإمبراطورية العثمانية راحت الكيانات العربية تحتمى بعقيدة القومية والهياكل المنبثقة عنها.
باستخدام نفس القاعدة قد يبدو للبعض منطقيًا ومفهومًا قبول كيانات عربية راهنة أي عروض حماية جادة ضد تهديد حقيقي أو متوهم في حال تأكدت هذه الكيانات من حال انحسار الحس القومي ومن خلو الساحة العربية من جهاز أمن جماعي أو نظام تكامل دفاعي إقليمي أو قومي، ومن الواضح أنها بالفعل ربما تتجه إلى ذلك.
لفترة غير قصيرة حام الشك، وأحيانًا اليقين، حول نية الصهيونية التوسع في المساحات التي استولت عليها بالقوة أو بالكذب أو بالتواطؤ مع دول غربية أو باسم الدين والأسطورة أو باسم حق الصهيونية أن تسود في الشرق الأوسط وتتحكم باعتبارها العقيدة الأوفر تسليحًا وتنظيمًا وثراء ليس فقط في الشرق الأوسط، بل ربما في العالم.
كثيرون، ليس فقط في الشرق الأوسط لكن أيضًا في خارجه تساءلوا باستغراب شديد عن صمت إعلام الغرب إزاء فظائع الإبادة الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان، هو نفس الغرب حامل لواء حقوق الإنسان في الحرب الروسية الأوكرانية ولواء الديمقراطية والحضارة في كل الأنحاء.
هناك في شوارع غزة وخان يونس ورفح تعلن إسرائيل كل يوم السقوط المدوي لحضارة الغرب في رسالة واضحة ومتوحشة بأن مصير كل شوارع العرب صار في يد طيار إسرائيلي أو آخر إن حاولت هذه الشوارع التمرد على سلطة الصهيونية، المقرر لها أن تهيمن في شرق أوسط أعلن نتنياهو أنه سيكون مختلفًا.
كثيرون أعرفهم تكررت تساؤلاتهم خلال الأسابيع القليلة الماضية عن ترتيب سوريا في قائمة الدول العربية المرشحة للغزو الإسرائيلي، وعندما بدأ القتال في حلب وإدلب وراح يتمدد نحو حماة وصولا إلى العاصمة دمشق راحوا يسألون عن هويات المتقاتلين وعقائدهم ثم عن أدوار الأطراف الخارجية، مثل تركيا وإيران وروسيا والولايات المتحدة. كانوا في انتظار من يدلهم على دور إسرائيل قبل أن يخرج إليهم نتنياهو، بصفته اللاعب الأوفر نشاطًا والأقدر تسليحًا، ليعلن أنه يراقب بتمعن، يعني أن دوره قادم.
كنا نعرف أن سوريا ليست طرفًا عاديًا من أطراف أي نظام إقليمي يقوم في الشرق الأوسط. موقعها سبب وعقائدها أسباب أخرى لا تقل وجاهة وعنادًا.
إن نسيت فلن أنسى كلمات مشهودة نطق بها الرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي الذي وقع اتفاق دولة الوحدة بين مصر وسوريا مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر عام 1958، وهو يرفع علم سوريا لأول مرة بعد الاستقلال.
لقد قيل إنه قال حينذاك إنه يعلي علم سوريا المستقلة ليهبطه في يوم قريب، يوم يرفع علم الوحدة العربية. ولن أنسى ما أسر به في أذني صديق مشترك وعزيز عن دموع عاش يذرفها جمال عبدالناصر إما في عشق سوريا أو تأسفًا على ضياعها وخوفًا على مصيرها.
لا لغز في الأمر بوضعه الأحدث. تبقى الأسباب ذاتها لم ينقص منها سبب، بل ازدادت سببًا كان كامنًا في انتظار الانتهاء من مهام في أماكن أخرى.
إنها الأسطورة الصهيونية التي اجتمع لتحقيقها عناصر وتوجهات كانت مؤجلة وصارت بالظروف الجديدة جاهزة لخدمة الأسطورة. نجحت حتى الآن، وإن بصعوبة، من خلال حملات عسكرية وسياسية واتفاقات قانونية شملت فلسطين الصغيرة ولبنان وجارٍ تمددها في كل اتجاهات فلسطين ونحو كل حدود الإقليم.. إقليم الشرق الأوسط، وبانتظار التحرك العربي لمواجهة التحديات الإقليمية المستجدة.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك