بعد أن أقعد المرض أبي وصعُبت حركته كنت بين الفينة والأخرى أتوجه به إلى شوارع المنامة وأحيائها القديمة، ليشتم رائحتها ويتنفس هواءها ويستعيد ولو جزءا من ذكرياته التي عاصرها في هذه المدينة العتيقة. وعلى الرغم من ضعف ذاكرة أبي في السنوات الأخيرة من عمره فإنه كان يتأمل جدران مبانيها وشوارعها والدمع من عينيه يحكي ذكريات طفولته وشبابه وفي صدره حرقة خفية على تلك الأيام الجميلة، كيف لا وقد عاش في هذه المدينة العريقة طوال حياته، حيث قدم إليها وهو طفل لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره في 1959م، عاش مع أبيه الذي كان يُقيم ويعمل فيها منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي، عمل فيها ما يزيد على ستين عاماً حتى أُحيل إلى التقاعد في عام 2008م ولم يمض به الوقت طويلاً حيث أعياه المرض في 2016م وتوفاه الله عام 2022م، عاصر خلال حياته ثلاث حقب من تاريخ البحرين، حقبة الأمير الراحل الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، طيب الله ثراه، ثم حقبة الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، طيب الله ثراه، ثم العهد الميمون لصاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه. عاصر مراحل تطورها وعايش الازمات التي عصفت بها في السنوات السابقة، والمنامة بالنسبة لأبي ليست مجرد مدينة بل هي حياة وكل ما فيها يحمل عبق التاريخ والتراث الذي لا يزال حاضراً في كل زاوية من زواياها، لذلك كان أبي يسرح بفكره بعيداً كلما تجول في شوارعها وفي أزقتها الضيقة، حيث يشعر وكأنه يعيش أيام صباه وشبابه ويسترجع الذكريات التي كانت تحمل في تفاصيلها من صعوبة الحياة وبساطة العيش وتعب البحث عن لقمة العيش الكريم، كان يرى فيها ارتباطا وثيقا بأيام حياته الأربعة والسبعين عاماً التي انقضت في هذه المدينة، إنها جملة من الذكريات الحيّة التي تحفظ أصوات الناس في الأسواق وأبواب البيوت العتيقة التي تروي قصص الأجداد. توجهت برفقة عائلتي إلى فعاليات ريترو المنامة الأكثر من رائعة، والتي أخذتني في رحلة جميلة عبر الزمن إلى أيام الطفولة وتذكرت طفولة والدي وتمنيت لو أنه مازال حياً لينفس هواء المنامة ويشتم عبق أسواقها من جديد، ريترو المنامة مبادرة تستحق الإشادة ونتمنى أن تتوسع، حيث إن المنامة تحتوي على مقومات كثيرة لمثل هذه الفعاليات التراثية التي أثبتت نجاحها في مهرجان ليالي المحرق ثم ريترو المنامة، وأتمنى ان تستمر هذه الفعاليات طيلة الموسم.
المنامة ليست مجرد مدينة، بل هي كنز من الذكريات التي نسجتها العقود الماضية في حياة الكثيرين من أبناء البحرين وممن قدم اليها وعاش وترعرع وشاخ في أسواقها وشوارعها وبين جدران مبانيها، وقد قيل عن المنامة بأنها «مدينة التسامح» حيث تعكس روح التعايش بين مختلف الثقافات والديانات وهي «ملتقى الحضارات وقلب البحرين النابض» فهي مدينة تجمع بين العراقة والحداثة.
المنامة لها تاريخ غني وعريق يعود إلى آلاف السنين، حيث كانت مركزاً تجارياً مهما في الخليج العربي كما ارتبطت المنامة بحضارة دلمون، التي كانت تُعد واحدة من أهم الحضارات القديمة في المنطقة وكانت في العصور الوسطى محطة رئيسية على طرق التجارة البحرية بين الهند، وإفريقيا، وبلاد فارس وبلاد الرافدين فهي نقطة وصل بين الشرق والغرب، وإحدى المدن المهمة في تجارة أجود أنواع اللؤلؤ، وكانت المنامة سبّاقة في العديد من المجالات مقارنة بالمدن الخليجية الأخرى، وذلك بفضل موقعها الاستراتيجي وانفتاحها على العالم، كانت من أوائل المدن الخليجية التي أنشأت مدارس نظامية ومستشفيات حديثة، ما جعلها مركزاً للعلم والرعاية الصحية، وأصبحت المنامة واحدة من أهم العواصم المالية، ففيها تم تأسيس البنوك والمراكز المالية منذ سبعينيات القرن الماضي ولعل ثقافة الانفتاح الفكري والاجتماعي وسماحة نظام الحكم ومرونة التشريعات والقوانين هي التي أسهمت في جعلها وجهة جذابة للمقيمين والزوار من أنحاء العالم.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك