العدد : ١٧٠٨٨ - السبت ٠٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٨٨ - السبت ٠٤ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٤ رجب ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ريترو المنامة.. وعبق الماضي

بقلم: عبدالهادي الخلاقي

الأربعاء ٠١ يناير ٢٠٢٥ - 02:00

بعد‭ ‬أن‭ ‬أقعد‭ ‬المرض‭ ‬أبي‭ ‬وصعُبت‭ ‬حركته‭ ‬كنت‭ ‬بين‭ ‬الفينة‭ ‬والأخرى‭ ‬أتوجه‭ ‬به‭ ‬إلى‭ ‬شوارع‭ ‬المنامة‭ ‬وأحيائها‭ ‬القديمة،‭ ‬ليشتم‭ ‬رائحتها‭ ‬ويتنفس‭ ‬هواءها‭ ‬ويستعيد‭ ‬ولو‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬ذكرياته‭ ‬التي‭ ‬عاصرها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العتيقة‭. ‬وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬ذاكرة‭ ‬أبي‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬فإنه‭ ‬كان‭ ‬يتأمل‭ ‬جدران‭ ‬مبانيها‭ ‬وشوارعها‭ ‬والدمع‭ ‬من‭ ‬عينيه‭ ‬يحكي‭ ‬ذكريات‭ ‬طفولته‭ ‬وشبابه‭ ‬وفي‭ ‬صدره‭ ‬حرقة‭ ‬خفية‭ ‬على‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬الجميلة،‭ ‬كيف‭ ‬لا‭ ‬وقد‭ ‬عاش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬العريقة‭ ‬طوال‭ ‬حياته،‭ ‬حيث‭ ‬قدم‭ ‬إليها‭ ‬وهو‭ ‬طفل‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬من‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬1959م،‭ ‬عاش‭ ‬مع‭ ‬أبيه‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يُقيم‭ ‬ويعمل‭ ‬فيها‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬عشرينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬عمل‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬ستين‭ ‬عاماً‭ ‬حتى‭ ‬أُحيل‭ ‬إلى‭ ‬التقاعد‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2008م‭ ‬ولم‭ ‬يمض‭ ‬به‭ ‬الوقت‭ ‬طويلاً‭ ‬حيث‭ ‬أعياه‭ ‬المرض‭ ‬في‭ ‬2016م‭ ‬وتوفاه‭ ‬الله‭ ‬عام‭ ‬2022م،‭ ‬عاصر‭ ‬خلال‭ ‬حياته‭ ‬ثلاث‭ ‬حقب‭ ‬من‭ ‬تاريخ‭ ‬البحرين،‭ ‬حقبة‭ ‬الأمير‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬علي‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه،‭ ‬ثم‭ ‬حقبة‭ ‬الأمير‭ ‬الراحل‭ ‬الشيخ‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬بن‭ ‬حمد‭ ‬آل‭ ‬خليفة،‭ ‬طيب‭ ‬الله‭ ‬ثراه،‭ ‬ثم‭ ‬العهد‭ ‬الميمون‭ ‬لصاحب‭ ‬الجلالة‭ ‬الملك‭ ‬حمد‭ ‬بن‭ ‬عيسى‭ ‬بن‭ ‬سلمان‭ ‬آل‭ ‬خليفة‭ ‬ملك‭ ‬البلاد‭ ‬المعظم،‭ ‬حفظه‭ ‬الله‭ ‬ورعاه‭. ‬عاصر‭ ‬مراحل‭ ‬تطورها‭ ‬وعايش‭ ‬الازمات‭ ‬التي‭ ‬عصفت‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬السابقة،‭ ‬والمنامة‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأبي‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مدينة‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬حياة‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬فيها‭ ‬يحمل‭ ‬عبق‭ ‬التاريخ‭ ‬والتراث‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬حاضراً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬زاوية‭ ‬من‭ ‬زواياها،‭ ‬لذلك‭ ‬كان‭ ‬أبي‭ ‬يسرح‭ ‬بفكره‭ ‬بعيداً‭ ‬كلما‭ ‬تجول‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬وفي‭ ‬أزقتها‭ ‬الضيقة،‭ ‬حيث‭ ‬يشعر‭ ‬وكأنه‭ ‬يعيش‭ ‬أيام‭ ‬صباه‭ ‬وشبابه‭ ‬ويسترجع‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬تفاصيلها‭ ‬من‭ ‬صعوبة‭ ‬الحياة‭ ‬وبساطة‭ ‬العيش‭ ‬وتعب‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬الكريم،‭ ‬كان‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬ارتباطا‭ ‬وثيقا‭ ‬بأيام‭ ‬حياته‭ ‬الأربعة‭ ‬والسبعين‭ ‬عاماً‭ ‬التي‭ ‬انقضت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة،‭ ‬إنها‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬الحيّة‭ ‬التي‭ ‬تحفظ‭ ‬أصوات‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬الأسواق‭ ‬وأبواب‭ ‬البيوت‭ ‬العتيقة‭ ‬التي‭ ‬تروي‭ ‬قصص‭ ‬الأجداد‭. ‬توجهت‭ ‬برفقة‭ ‬عائلتي‭ ‬إلى‭ ‬فعاليات‭ ‬ريترو‭ ‬المنامة‭ ‬الأكثر‭ ‬من‭ ‬رائعة،‭ ‬والتي‭ ‬أخذتني‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬جميلة‭ ‬عبر‭ ‬الزمن‭ ‬إلى‭ ‬أيام‭ ‬الطفولة‭ ‬وتذكرت‭ ‬طفولة‭ ‬والدي‭ ‬وتمنيت‭ ‬لو‭ ‬أنه‭ ‬مازال‭ ‬حياً‭ ‬لينفس‭ ‬هواء‭ ‬المنامة‭ ‬ويشتم‭ ‬عبق‭ ‬أسواقها‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ريترو‭ ‬المنامة‭ ‬مبادرة‭ ‬تستحق‭ ‬الإشادة‭ ‬ونتمنى‭ ‬أن‭ ‬تتوسع،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬المنامة‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬مقومات‭ ‬كثيرة‭ ‬لمثل‭ ‬هذه‭ ‬الفعاليات‭ ‬التراثية‭ ‬التي‭ ‬أثبتت‭ ‬نجاحها‭ ‬في‭ ‬مهرجان‭ ‬ليالي‭ ‬المحرق‭ ‬ثم‭ ‬ريترو‭ ‬المنامة،‭ ‬وأتمنى‭ ‬ان‭ ‬تستمر‭ ‬هذه‭ ‬الفعاليات‭ ‬طيلة‭ ‬الموسم‭.‬

المنامة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬مدينة،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬كنز‭ ‬من‭ ‬الذكريات‭ ‬التي‭ ‬نسجتها‭ ‬العقود‭ ‬الماضية‭ ‬في‭ ‬حياة‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬أبناء‭ ‬البحرين‭ ‬وممن‭ ‬قدم‭ ‬اليها‭ ‬وعاش‭ ‬وترعرع‭ ‬وشاخ‭ ‬في‭ ‬أسواقها‭ ‬وشوارعها‭ ‬وبين‭ ‬جدران‭ ‬مبانيها،‭ ‬وقد‭ ‬قيل‭ ‬عن‭ ‬المنامة‭ ‬بأنها‭ ‬‮«‬مدينة‭ ‬التسامح‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬تعكس‭ ‬روح‭ ‬التعايش‭ ‬بين‭ ‬مختلف‭ ‬الثقافات‭ ‬والديانات‭ ‬وهي‭ ‬‮«‬ملتقى‭ ‬الحضارات‭ ‬وقلب‭ ‬البحرين‭ ‬النابض‮»‬‭ ‬فهي‭ ‬مدينة‭ ‬تجمع‭ ‬بين‭ ‬العراقة‭ ‬والحداثة‭.‬

المنامة‭ ‬لها‭ ‬تاريخ‭ ‬غني‭ ‬وعريق‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬آلاف‭ ‬السنين،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬مركزاً‭ ‬تجارياً‭ ‬مهما‭ ‬في‭ ‬الخليج‭ ‬العربي‭ ‬كما‭ ‬ارتبطت‭ ‬المنامة‭ ‬بحضارة‭ ‬دلمون،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تُعد‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬الحضارات‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬الوسطى‭ ‬محطة‭ ‬رئيسية‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬التجارة‭ ‬البحرية‭ ‬بين‭ ‬الهند،‭ ‬وإفريقيا،‭ ‬وبلاد‭ ‬فارس‭ ‬وبلاد‭ ‬الرافدين‭ ‬فهي‭ ‬نقطة‭ ‬وصل‭ ‬بين‭ ‬الشرق‭ ‬والغرب،‭ ‬وإحدى‭ ‬المدن‭ ‬المهمة‭ ‬في‭ ‬تجارة‭ ‬أجود‭ ‬أنواع‭ ‬اللؤلؤ،‭ ‬وكانت‭ ‬المنامة‭ ‬سبّاقة‭ ‬في‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬مقارنة‭ ‬بالمدن‭ ‬الخليجية‭ ‬الأخرى،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬موقعها‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬وانفتاحها‭ ‬على‭ ‬العالم،‭ ‬كانت‭ ‬من‭ ‬أوائل‭ ‬المدن‭ ‬الخليجية‭ ‬التي‭ ‬أنشأت‭ ‬مدارس‭ ‬نظامية‭ ‬ومستشفيات‭ ‬حديثة،‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬مركزاً‭ ‬للعلم‭ ‬والرعاية‭ ‬الصحية،‭ ‬وأصبحت‭ ‬المنامة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أهم‭ ‬العواصم‭ ‬المالية،‭ ‬ففيها‭ ‬تم‭ ‬تأسيس‭ ‬البنوك‭ ‬والمراكز‭ ‬المالية‭ ‬منذ‭ ‬سبعينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬ولعل‭ ‬ثقافة‭ ‬الانفتاح‭ ‬الفكري‭ ‬والاجتماعي‭ ‬وسماحة‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬ومرونة‭ ‬التشريعات‭ ‬والقوانين‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أسهمت‭ ‬في‭ ‬جعلها‭ ‬وجهة‭ ‬جذابة‭ ‬للمقيمين‭ ‬والزوار‭ ‬من‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا