مع تعدد القضايا والتفاعلات الدولية عام 2024، فإن مجملها هو محاولات من جانب بعض القوى الدولية لتأسيس نظام دولي متعدد الأطراف، قد نتفق أو نختلف حول نتائج تلك المحاولات لكنها أضحت واقعاً. صحيح أن النظام العالمي الأحادي القطبية بقيادة الولايات المتحدة والدول الغربية الذي تكرس مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وانتهاء «حقبة الحرب الباردة» لا يزال هو الذي يشكل المنظومة الدولية ولكن ثمة محاولات من جانب القوى الأخرى، وبعيداً عن تفاصيل تلك المحاولات فلاشك أن الحرب الأوكرانية التي سوف تدخل عامها الثالث كانت كاشفة لتلك المحاولات سواء من حيث أنماط الشراكات والتقارب بين دول ربما كانت توصف بالخصوم، فضلاً عن التحركات نحو تفعيل أطر تراها بعض الدول مناوئة للدول الغربية ومنها «مجموعة البريكس» التي تواجه العديد من التحديات ولم تصبح بديلاً للنفوذ الغربي، ولكنها في نهاية المطاف واقعاً مؤسسياً ربما يشهد تطورات مستقبلية.
ومع التسليم بأن الولايات المتحدة هي من يملك التأثير في منظومة العلاقات الدولية وحلفائها داخل حلف شمال الأطلسي «الناتو»، فإنه تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات مهمة أولها: أنه ليس بالضرورة أن تتمثل مساعي القوى المناوئة في ممارسة أدوار عسكرية، حيث إن النفوذ الاقتصادي ربما يكون ذا تأثير كبير ومن ذلك على سبيل المثال أن الصين قد حلت كشريك تجاري أول لدول الخليج العربي منذ عام 2020 بديلاً عن الاتحاد الأوروبي، وثانيها: لا تتمثل المعضلة في تحدي بعض القوى للنفوذ الأمريكي العالمي، ولكن في تقارب بعض الدول التي تراه الولايات المتحدة شراكات آخذة في التطور ومن ذلك الشراكة بين روسيا وكوريا الشمالية التي اتخذت الكثير من الأبعاد العملية المهمة، فضلاً عن التقارب الصيني – الروسي، وأخيراً الاتفاق بين الهند والصين لإنهاء المواجهات في مناطق الحدود، وثالثها: بدء بعض الدول بالفعل ممارسة أدوار أمنية عالمية ومن ذلك مشاركة الهند والصين بأساطيل بحرية لحماية الملاحة البحرية في باب المندب في عزوف عن الانضمام لتحالف حارس الازدهار بقيادة الولايات المتحدة والذي تأسس لهذا الغرض في ديسمبر 2023.
ومع التسليم بأن ذلك هو المشهد الدولي عموماً لكنه يخفي وراءه أيضاً تصدعات أخرى ليس فقط في حالة الانقسام بين المعسكر الغربي والقوى التي يطلق عليها «الصاعدة» في النظام الدولي بقدراتها الاقتصادية والتكنولوجية، ولكن في المشهد الأمريكي- الأوروبي ذاته، وخاصة الحرب في أوكرانيا التي تعهد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإنهائها بعد وصوله مجدداً إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة ولا تزال تثار التساؤلات حول الكيفية التي تنتهي بها تلك الحرب وحجم التنازلات المطلوبة من كل طرف، ولكن الأهم أيضاً هو تأثير ذلك في منظومة الأمن الأوروبي التي تعكس أمرين الأول: هو ما أوضحته تلك الحرب من حالة الانكشاف الأمني للدول الأوروبية وعدم قدرتها على مواجهة التهديدات الأمنية بمفردها من دون الدعم الأمريكي وهو ما يثير مجدداً جدلية الأمن: استمرار الاعتماد على حلف الناتو أم تأسيس هوية أوروبية للأمن؟ والثاني: توقعات إثارة الرئيس ترامب مجدداً لقضية التزام أعضاء الناتو بتخصيص نسبة 2% من الناتج القومي الإجمالي لنفقات الدفاع في حلف الناتو، من ناحية ثانية فإنه لا يجب المبالغة في الشراكات الدولية المناوئة للغرب، وخاصة أنه ما يفرق تلك الدول أكثر مما يجمعها وربما وجدت بعضها الفرصة الدولية سانحة، ولكن يجب ألا نغفل أنه لا مصلحة للصين ابتداءً بتهديد المنظومة الرأسمالية حيث تستضيف استثمارات هائلة للصين في دولها، وعلى الرغم من توتر الأوضاع في بحر الصين الجنوبي على سبيل المثال، فإن ذلك لم يبلغ حافة الهاوية ولا يزال يصنف ضمن «الصراع المنضبط»، فضلاً عن ملامح التقارب الاستراتيجي بين الهند والولايات المتحدة وهي علاقات توصف بأنها متوازنة، بالإضافة إلى بطء تنفيذ خطط مجموعة دول «البريكس» لمناوءة النظام الرأسمالي الغربي، وخاصة على صعيد الاتفاق على عملة بديلة للدولار وغيرها من طموحات تلك المجموعة، وأخيراً استمرار الولايات المتحدة في بناء وتأسيس الشراكات والتحالفات في مثلث يمتد من آسيا مع اليابان وكوريا الجنوبية ويمر بدول الخليج العربي وينتهي في إفريقيا من خلال الجولة الأخيرة للرئيس بايدن في عدد من دول القارة السمراء.
ومع أهمية ما سبق، ففي تقديري أن مضمون النظام العالمي وتأثيره ليس بالضرورة أن يكون في نمط التحالفات والشراكات – رغم أهميتها – ولكن في مدى التأثير في مسارات ذلك النظام من خلال قضايا محددة، صحيح أن البعد النووي لا يزال محدداً مهماً ولكن الأجيال المتسارعة من الذكاء الاصطناعي ونجاح الدول في توظيفها عسكرياً يعد هاجساً وتحدياً للدول الغربية ذاتها، ومن ذلك سعي الولايات المتحدة لإيجاد آلية دولية لتقنين استخدام تلك التقنية ومن ذلك المؤتمر الدولي الذي عقد بالولايات المتحدة في مارس 2024 مع أربع دول أخرى وهي البحرين وكندا والبرتغال والنمسا واستهدف تأسيس تحالف بقيادة الولايات المتحدة وعضوية تلك الدول ضمن جهد دولي يستمر مدة عام لاستكشاف أطر استخدام الذكاء الاصطناعي في الصناعات العسكرية.
بالإضافة إلى التهديدات السيبرانية التي تعاني منها الولايات المتحدة ومن ذلك الهجوم الذي استهدف آلاف من وكالات السيارات وتوقفت عن العمل ساعات في 20 يونيو 2024 بعد هجوم سيبراني على مزود البرمجيات شركة «سي دي كي جلوبال»، المتخصصة في تجارة التجزئة للسيارات، وكذلك الهجوم الذي استهدف أجهزة التنصت الأمريكية في أكتوبر من العام ذاته، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، فضلاً عن سعي القوى المناوئة للولايات المتحدة لتوظيف قوتها الناعمة في تعزيز شراكاتها مع دول تربطها بالولايات المتحدة شراكات استراتيجية تقليدية.
ومجمل ما سبق أننا لا نزال أمام نظام دولي أحادي القطبية – ولو بشكل نسبي – ولكن مع استمرار احتدام الصراعات الدولية على هذا النحو، فإن مسألة الأولوية ستكون حاضرة وبقوة أمام السياسات الأمريكية والقوى الكبرى عموماً، وليس بالضرورة أن يكون هناك صدام عنيف فيما بينها ولكن في تصوري أن الفراغات التي تنتج عن تغيير سياسات بالضرورة سوف تمثل فرصاً للقوى المناوئة حتى لو على الصعيد الاقتصادي، ومن ناحية ثانية فإن التكتلات الاقتصادية بغض النظر عن درجة تطورها أو تأثيرها في الوقت الراهن ولكنها تعكس تغير مفهوم المصالح، وأخيراً فإن القوى الصغرى والمتوسطة ربما تجد في تلك التكتلات فرصاً مهمة للتعاون في قضايا أكدت أزمة كورونا والحرب في أوكرانيا حتمية التعاون متعدد الأطراف بشأنها ومنها الأمن الغذائي والتغير المناخي.
نحن أمام عالم يتشكل من حيث اللاعبين والقضايا وحتماً ستكون هناك انعكاسات شرق أوسطية وعربية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك