في 20 ديسمبر من كل عام، يجتمع العالم للاحتفاء باليوم العالمي للتضامن الإنساني، مناسبة أطلقتها الأمم المتحدة لتسليط الضوء على أهمية التعاون بين الشعوب. هذا اليوم ليس تاريخا عابرا على الروزنامة، بل فرصة للتفكير بعمق في كيفية مواجهة التحديات التي توحد الإنسانية، مثل الفقر والكوارث والأزمات الصحية. التضامن هنا ليس رفاهية، بل هو أساس تبنى عليه قيم العدالة والمساواة، ودافع لإعادة بناء عالم أكثر تماسكا. إنه دعوة إلى أن نكون جميعا جسرا يعبر من خلاله الأمل نحو الاستقرار والتنمية.
على مستوى العالم، يثبت التضامن الإنساني دائما قدرته على جمع الشعوب في أحلك الظروف. ففي أوقات الكوارث الطبيعية، مثل الزلازل أو الأعاصير، تتحد القلوب عبر الحدود لدعم المتضررين، سواء بالمساعدات العاجلة أو المشاركة في جهود الإغاثة. ومن أحد الأمثلة المؤثرة، قبل نحو عامين، قصة الطفل ريان، الذي سقط في نفق ضيق في المغرب. تلك اللحظات كانت شاهدة على وحدة المشاعر الإنسانية، إذ تابع الملايين حول العالم محاولات إنقاذه، بقلوب ممتلئة بالأمل، متجاوزين الحدود الجغرافية والثقافية. كان هذا الحدث إشارة إلى أن الإنسانية قادرة على أن تكون لغة العالم المشتركة. وبالمثل، وخلال جائحة كوفيد-19، رأينا كيف تبادلت الدول الخبرات والموارد، ليظهر التضامن مرة أخرى أنه حجر الأساس لبناء عالم أكثر عدالة.
وفي سياق التضامن الإنساني، تبقى القضية الفلسطينية مثالا خالدا على وحدة الشعوب حول مبادئ العدالة والحق. الملايين يقفون حول العالم من مختلف التوجهات والثقافات إلى جانب الشعب الفلسطيني، عبر الحملات الإنسانية، مؤكدين أن التضامن ليس مجرد رد فعل تجاه الكوارث الطبيعية، بل هو موقف أخلاقي يتجاوز الحدود الجغرافية. هذا الالتفاف العالمي حول القضية، يثبت أن القضايا العادلة قادرة على جمع الإنسانية تحت راية واحدة، لتصبح رمزًا للصمود والتكاتف الإنساني.
في يونيو الماضي، اندلع حريق كبير في سوق المنامة القديم، مسببا خسائر مادية وبشرية، في مواجهة هذه المأساة، تحركت فرق الدفاع المدني بسرعة للسيطرة على الحريق وإنقاذ الأرواح. ورغم صعوبة الموقف، برزت قيم التضامن والتكاتف بشكل واضح، حيث تعاونت الجهات الرسمية مع المجتمع والأفراد للحد من آثار الحادث ومساندة المتضررين. هذا الحادث كان شاهدا على قوة الترابط في البحرين، وكيف أن روح التعاون يمكنها أن تجعل حتى أصعب المحن أقل وطأة، وتعيد الأمل إلى المجتمع في أوقات الأزمات.
ولا يقتصر التضامن في البحرين على أوقات الأزمات؛ بل هو أسلوب حياة يعكس ثقافة متجذرة من العطاء. تظهر هذه القيم في سخاء وكرم الأسر الميسورة، التي لا تتردد في دعم المؤسسات الاجتماعية والصحية أو تمويل تعليم الطلبة في الخارج من أبناء الأسر ذات الدخل المحدود، بفضل هذا العطاء، تنفتح أمام الأجيال القادمة فرص أكبر لبناء مستقبل واعد مليء بالأمل والإنجاز. عطاء لا يقف عند حدود المساعدة الآنية، بل يمتد ليصبح استثمارا حقيقيا في الإنسان، يعزز التماسك الاجتماعي والتكافل بين أفراد المجتمع.
ورغم الجهود الكبيرة المبذولة، لا يخلو العمل الإنساني من تحديات. واحدة من أبرز العقبات هي الوصول إلى الأسر المتعففة التي تختار الاحتفاظ بحاجتها لنفسها، وهو ما يجعل مهمة دعمها بطريقة تحفظ كرامتها تحديا كبيرا.
إلى جانب ذلك، تواجه المبادرات الخيرية تحديات أخرى مثل تأمين مصادر تمويل مستدامة، وضمان التنسيق بين الجهات المختلفة لتجنب تكرار الجهود وضمان توزيع المساعدات بشكل عادل. كما أن الإجراءات الإدارية والبيروقراطية قد تبطئ أحيانا من الاستجابة، مما يتطلب مزيدا من التعاون بين الجهات الرسمية والجمعيات الأهلية، لتجاوز هذه العقبات وتحقيق أثر ملموس على الفئات المستحقة.
اللحظات التي يقدم فيها الإنسان العون غالبا ما تترك أثرا لا ينسى. تخيل عاملا عاد إلى منزله بعد يوم شاق ليجد شخصا يقدم له وجبة ساخنة أو كوب شاي دافئا. ليس في الهدية نفسها ما يغير الحياة، بل في الشعور الذي تولده: «هناك من يهتم، هناك من يلاحظني». أتذكر حديثا دار بيني وبين أحدهم، حين قال لي إن أكثر لحظة أثرت فيه كانت عندما وقف شخص غريب ليقدم له كلمة طيبة في وقت شعر فيه بالثقل واليأس. هذه الأفعال الصغيرة قد تبدو عادية للبعض، لكنها تحمل قوة تغيير حقيقية، أحيانا أكثر مما نتخيل.
أما المتطوعون، فهم من يعيشون التجارب الإنسانية الأعمق، التي تذكرهم دائما بجوهر التضامن. رؤية امتنان الآخرين وفرحتهم تجعلهم يدركون أن جهودهم، مهما كانت بسيطة، تحمل أثرا يتجاوز الكلمات.
تلك اللحظات تمنح المتطوع شعورًا داخليا لا يعوض. حيث يترسخ لديه ارتباط حقيقي بقيم العطاء والمشاركة. سواء كانوا أفرادا أو جمعيات خيرية، يدرك المتطوعون أن كل جهد، مهما بدا صغيرا، يسهم في تغيير حياة شخص ما وربما يعيد رسم الأمل في قلبه.
من الجميل أن العطاء لا يتطلب دائما أفعالا ضخمة. أحيانا، ابتسامة صادقة، أو مساعدة بسيطة كالسماح لمار بالعبور، أو الالتزام بالنظام، قد تكون بذورًا لتغيير أكبر.
ومن بين المواقف التي تعكس هذا المفهوم، أثناء تسوقي في أحد المتاجر، لفت انتباهي صندوق قرب بوابة الخروج مكتوب عليه: «تبرع بشيء مما اشتريته» هذه فكرة بسيطة لكنها تحمل غاية سامية؛ التبرع ليس بما لا نحتاج إليه فقط، بل بما اخترناه خصيصا، وشريناه للتو.
هذا النوع من التبرع يعبر عن جوهر المشاركة الصادقة، حيث نشارك جزءا مما اختير بعناية لنمنحه لمن يحتاجه وكأننا نقول: «ما يسعدني، قد يسعدك». هذه الأفكار الصغيرة هي التي تحدث الفرق، وهي التي تجعل المجتمع أكثر دفئا وإنسانية.
ختاما، التضامن هو الرابط الذي يعيد صياغة العلاقات بين البشر، ويمنح الحياة طابعا أكثر إشراقا وعمقا. إنه دعوة لنكون حاضرين في حياة الآخرين، بلفتة صغيرة أو خطوة عملية تحدث فرقا حقيقيا. اليوم فرصة لأن نؤكد قيم التكاتف، ليس فقط عبر أفعال كبيرة، بل من خلال تفاصيل يومية تعكس اهتمامنا بمن حولنا.
ما نقدمه، مهما كان بسيطا، يملك القدرة على زرع شعور بالإنسانية الحقيقية، ويقربنا من بناء مجتمع أكثر قوة وترابطًا، ويجعلنا إلى الله أقرب.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك