لا يزال الديمقراطيون يتجرعون مرارة الخيبة ويعانون من صدمة الخسارة أمام دونالد ترامب للمرة الثانية في الانتخابات الرئاسية الثلاثة الماضية. لا يزال هناك قدر كبير من توجيه أصابع الاتهام والبحث عن الذات، حيث يكتب الصحفيون والناشطون عما يمكن أن نسميه «تشريح الجثث» لفهم أسباب الهزيمة والدروس المستفادة التي يمكن تعلمها للمضي قدمًا إلى الأمام.
سأكون أكثر دعمًا وأقل تشكيكا بشأن مزايا بعض هذه الأمور لولا أن هناك سببين اثنين وجب التوقف عندهما. في المقام الأول، سوف تركز أغلب عمليات «التشريح» هذه بشكل ضيق للغاية على هذه الانتخابات الأخيرة، وكأن المشاكل التي واجهها الديمقراطيون قد ظهرت للتو هذا العام.
ثانياً، إذا كان الماضي بمثابة مقدمة لما يمكن أن يحدث وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات، فمن المرجح أن يقرأ هذه «الدراسات» عدد قليل من الناس، ثم يتم وضعها على الرفوف ويكون مآلها النسيان.
وفي الواقع فإن أي تحليل جاد يسعى إلى فهم ما حدث في الخامس من نوفمبر 2024 لابد أن يبدأ بالاعتراف بأن بذور هزيمة الديمقراطيين هذا العام قد زُرعت في الحقيقة قبل عقود من الزمن وهي الآن تؤتي ثمارها وأي ثمار.
قبل بضعة أسابيع، كتبت بدوري موجها أصابع الاتهام، لكنني الآن أريد أن أنظر بشكل أعمق إلى القوى التي أصبحت تشكل معالم مشهدنا السياسي. فيما يلي بعض هذه العوامل:
لقد تركت التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية العميقة في الحياة الأمريكية ملايين الناخبين في حالة من عدم الاستقرار وعدم الأمان والغضب. لقد وجدوا أنفسهم من دون مرساة، فراحوا يبحثون عن اليقين.
وفي لحظات أخرى مماثلة من التاريخ، تحولت الشعوب التي اهتزت بسبب مثل هذه الاضطرابات إلى أشكال من الأصولية ــ العثور على اليقين في ماض أسطوري مجيد ــ أو اللجوء إلى «القادة الأقوياء» الذين شعروا أنهم يفهمون محنتهم.
بالإضافة إلى هذه التغيرات المجتمعية المتلاحقة، تركت الأحداث الدرامية والتحولات المتسارعة ندوباً عميقة في نفسية الأمريكيين. لقد تركت الهجمات الإرهابية التي حدثت في 11 سبتمبر 2001 والحروب الفاشلة في العراق وأفغانستان الأمريكيين في حالة يشعرون فيها بالضعف ورؤية مكانة بلادهم في العالم تتضاءل.
أضف إلى ذلك الانهيار الاقتصادي التي هز حياة الناس في الفترة 2008-2009 والذي حطم الثقة في الحلم الأمريكي، وحوادث إطلاق النار الجماعية المروعة المتكررة للغاية، والتأثيرات المؤلمة لفيروس كورونا، ويصبح لديك مجتمع على حافة الهاوية في انتظار «السقوط النهائي».
وفي هذا السياق، تشكل استجابة القيادة السياسية للناخبين غير المستقرين أهمية بالغة. ومن جانبهم، حقق الجمهوريون بعض النجاح في استغلال الخوف وتوسيع نطاقه والعزف على وتر الهواجس التي تقض مضجع الأمريكيين.
منذ فترة رئاسة ريتشارد نيكسون وحتى اليوم، كان هناك خيط ثابت في قواعد اللعبة الجمهورية ألا وهو العمل على استغلال مخاوف الناخبين وانعدام شعورهم بالأمان. على سبيل المثال، كانت الأهداف المبكرة هي المستفيدين من الرعاية الاجتماعية أو المجرمين «السود».
وقام الرئيس المنتخب دونالد ترامب بتوسيع القائمة لتشمل المهاجرين، وخاصة المكسيكيين والمسلمين، و«الدولة العميقة»، وأي مجموعة تتحداه تقريبًا. لقد استخدم ترامب مبدأ «الخوف منهم» كسلاح فعال لتعزيز حملته ضد المعارضين.
ومن ناحية أخرى، بدا الديمقراطيون منفصلين ومنقطعين عن التحديات التي يواجهها معظم الناخبين. وبدلاً من التحدث مباشرة عن آلام هؤلاء الناخبين، تحدث الديمقراطيون عن البرامج التي أطلقوها، والتقدم الذي أحرزوه في خلق فرص العمل، وإنقاذ البيئة، وحماية خيارات الرعاية الصحية للمرأة والحاجة إلى نهج متوازن للهجرة.
ورغم أن كل هذا صحيح، فإن هذه الخطابات حول السياسة بدت «مهتزة»، مما جعل الديمقراطيين يبدون بعيدين عن الواقع، أو رافضين، أو حتى متعالين.
وفي الحقيقة فإن ما أراده الناخبون هو أن يعرفوا أن المرشحين يفهمون مشاعر عدم الأمان والغضب لديهم. إن الديمقراطيين الذين كانوا فعالين في القيام بذلك هم فعلا أولئك الذين يمكن للناخبين التواصل معهم.
لقد تمكن باراك أوباما من تحويل الناخبين من الخوف إلى الأمل. وكان جو بايدن، وحتى بيرني ساندرز (وإن لم يكن في السباق الرئاسي)، ناجحين لأنهم أظهروا للناخبين أنهم أيضا غاضبون من التفاوت في الدخل وفقدان الوظائف ووعدوا بالنضال من أجل ذلك.
خلاصة القول هي أن الناخبين يحتاجون إلى معرفة أن أولئك الذين سيقودونهم يفهمون موقفهم ويحسون بما ينتابهم من مشاعر وهواجس ومخاوف.
خلال السنوات الخمس والسبعين الأولى من القرن الماضي، عمل الديمقراطيون وفقاً لفلسفة بسيطة. وباعتبارهم الحزب الذي دعم العدالة الاقتصادية للعمال، فقد اعتقدوا أن الحكومة لديها دور تلعبه، كما كانت تقول والدتي، «لمد يد العون لأولئك الذين لا يستطيعون رفع أنفسهم». ومن ناحية أخرى، كان الجمهوريون هم الحزب الذي يحمي الأغنياء، وكان شعارهم «ضرائب أقل، حكومة أقل».
لقد تغير كل هذا، وكما تفاخر أحد أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوري مؤخراً قائلاً: «لقد أصبحنا حزب الطبقة العاملة، في حين أصبح الديمقراطيون حزب النخب». إنهم ليسوا كذلك، ولكن هذا هو التصور الذي نجحوا في خلقه.
كيف حدث ذلك؟ اسأل أحد الديمقراطيين اليوم عما يمثله الحزب، ولن تحصل على إجابة والدتي. وبدلاً من ذلك، ستحصل على محاضرة حول مجموعة من القضايا الاجتماعية التي لا يوجد بها رابط يربطها أو يجعلها ذات صلة بالناخبين من الطبقة العاملة.
ومن ناحية أخرى، عندما سئل الجمهوريون عما يؤيدونه، لن يقولوا ضرائب أقل. وبدلاً من ذلك، سوف يقومون بسحب قائمة ترامب الخاصة بـ «البعبع» والقضايا الثقافية للديمقراطيين التي يكرهونها.
أو إنهم سيقولون ببساطة: «اجعلوا أمريكا عظيمة مرة أخرى» -وهي عبارة شاملة تستحضر العودة إلى «مجد» الماضي بكل ما تنطوي عليه، أو مكافحة العلل الاجتماعية الناجمة عن التغير الثقافي الذي يدعو إليه الديمقراطيون، أو ببساطة الدفاع عن ترامب ضد خصومه. وكما قال أحد الإعلانات التليفزيونية الجمهورية الأكثر نجاحاً: «كامالا من أجلهم هم» بينما «الرئيس ترامب من أجلك».
لقد مر وقت كانت فيه الأحزاب السياسية هي التي تقود السياسة وكانت بمثابة منظمات حقيقية، من المستوى المحلي إلى مستوى الدولة إلى المستوى الوطني. كان الناس ينتمون إلى الحزب. لم يعد هذا هو الحال مع الأسف.
اليوم، أصبحت الأحزاب بمثابة أدوات لجمع التبرعات، وجمع الثروات لدفع تكاليف المستشارين، الذين يديرون الحملات وفي كثير من الأحيان الأحزاب أيضًا. وفي حين يسهم العديد من الناخبين بمبالغ صغيرة، يسهم المانحون الرئيسيون بمبالغ مكونة من سبعة وثمانية أرقام.
هناك مشكلة حقيقية مع المستشارين الديمقراطيين. إنهم نفس المجموعة من الشخصيات التي كانت تدير السياسة وتدمرها لعقود من الزمن ــ متبعين نفس قواعد اللعبة ويفتقرون إلى أي تقدير للتغيرات التي تطرأ على الناخبين.
إن المستشارين الديمقراطيين يمثلون مشكلة حقيقية لأنهم يفتقرون إلى الخيال ويتجنبون المخاطرة، ويربطون المرشحين بالتحذيرات بشأن ما يمكنهم قوله وما لا ينبغي عليهم قوله.
ومع ذلك، حرر الرئيس ترامب نفسه من طبقة المستشارين الجمهوريين، وقام بتهميشهم وتصرف بدلا من ذلك بناء على حدسه. لقد قرأ الناخبون هذا على أنه حقيقي.
إن ما حدث في هذه الانتخابات الرئيسية الأخيرة تمثل في موضوعات وسلوكيات ظلت تختمر لعقود من الزمن. وما لم يلقِ الديمقراطيون نظرة فاحصة طويلة على كيف ولماذا فقدوا الاتصال بالناخبين من الطبقة العاملة وسمحوا للمستشارين بالسيطرة على رئاسة الحزب ومرشحيه وتواصلهم، فإن هزيمة الخامس من نوفمبر 2024 قد تتكرر.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك