العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٧ - الثلاثاء ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

هواجس اليوم التالي للزلزال السوري

بقلم: د. حسن نافعة {

الاثنين ٢٣ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

سقط‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬ولجأ‭ ‬رئيسه‭ ‬بشار‭ ‬الأسد‭ ‬إلى‭ ‬موسكو،‭ ‬وحدث‭ ‬ذلك‭ ‬كلّه‭ ‬بسرعة‭ ‬مذهلة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بمقدور‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬يتوقّعها‭ ‬ولو‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬خيالاته‭ ‬جموحاً‭. ‬لم‭ ‬يكد‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬يستفيقون‭ ‬من‭ ‬ذهولهم‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬صيحات‭ ‬التكبير‭ ‬تعلو‭ ‬وزخات‭ ‬الرصاص‭ ‬تطلق‭ ‬في‭ ‬الهواء‭ ‬تعبيراً‭ ‬عن‭ ‬الفرح‭ ‬والابتهاج‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬أناس‭ ‬يظنون‭ ‬أنهم‭ ‬تخلّصوا‭ ‬من‭ ‬نظام‭ ‬مستبدّ‭ ‬طاغٍ‭ ‬وعنيف،‭ ‬وذلك‭ ‬بالتوازي‭ ‬مع‭ ‬سماع‭ ‬أصوات‭ ‬تنتحب‭ ‬ودموع‭ ‬تذرف‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬أناس‭ ‬يطنون‭ ‬أنهم‭ ‬فقدوا‭ ‬نظاماً‭ ‬عروبياً‭ ‬أصيلاً‭ ‬ومقاوماً‭ ‬صلباً‭ ‬لمشروع‭ ‬الهيمنة‭ ‬الصهيوأمريكي‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭.‬

ولأنّ‭ ‬صيحات‭ ‬العويل‭ ‬هنا‭ ‬وصخب‭ ‬الفرح‭ ‬هناك‭ ‬لن‭ ‬يعيدا‭ ‬عقارب‭ ‬الساعة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭ ‬ولن‭ ‬يغيّرا‭ ‬من‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع‭ ‬شيئاً،‭ ‬فربما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الأجدى‭ ‬للجميع‭ ‬الآن‭ ‬ألا‭ ‬يتوقّفوا‭ ‬طويلاً‭ ‬عند‭ ‬سؤال‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا‭ ‬انهار‭ ‬نظام‭ ‬عربي‭ ‬يزيد‭ ‬عمره‭ ‬على‭ ‬نصف‭ ‬قرن‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬السرعة‭ ‬والسهولة،‭ ‬وأن‭ ‬يهتموا‭ ‬أكثر‭ ‬بمحاولة‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬ماذا‭ ‬سيحدث‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬والتعمّق‭ ‬في‭ ‬بحث‭ ‬تأثير‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬على‭ ‬أوضاع‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وموازين‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

تواجه‭ ‬سوريا‭ ‬الآن‭ ‬تحدياتٍ‭ ‬جساماً،‭ ‬يتعلّق‭ ‬أهمّها‭ ‬بطبيعة‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬المرشّح‭ ‬للاستقرار‭ ‬ولقيادة‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬العربي‭ ‬البالغ‭ ‬الأهمية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭. ‬فالقوى‭ ‬التي‭ ‬حملت‭ ‬السلاح‭ ‬ضد‭ ‬نظام‭ ‬الأسد،‭ ‬وتمكّنت‭ ‬من‭ ‬إسقاطه‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتنوّعة‭ ‬وتكاد‭ ‬تكون‭ ‬كراهيتها‭ ‬له‭ ‬هي‭ ‬القاسم‭ ‬المشترك‭ ‬الأعظم‭ ‬بينها‭.‬

أما‭ ‬وأنّ‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬قد‭ ‬سقط‭ ‬الآن‭ ‬وأصبح‭ ‬ذكرى‭ ‬من‭ ‬الماضي،‭ ‬فمن‭ ‬المتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬التناقضات‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬والسياسية‭ ‬والطائفية‭ ‬الكامنة‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬تدريجياً،‭ ‬وربما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬جداً‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتوافق‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬صيغة‭ ‬موحّدة‭ ‬لإدارة‭ ‬الدولة‭ ‬وشؤون‭ ‬الحكم‭ ‬تتسع‭ ‬للجميع،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬تبني‭ ‬رؤية‭ ‬مشتركة‭ ‬تساعدها‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬بفاعلية‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬القضايا‭ ‬والتحديات‭ ‬التي‭ ‬ستواجه‭ ‬‮«‬سوريا‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬على‭ ‬الصعيدين‭ ‬الداخلي‭ ‬والخارجي‭.‬

إذا‭ ‬احتكمنا‭ ‬للسوابق‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬شهدها‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬خلال‭ ‬العقدين‭ ‬السابقين‭ ‬فسوف‭ ‬نلاحظ‭ ‬أن‭ ‬قوى‭ ‬المعارضة‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬إسقاط‭ ‬وهدم‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬مستبدة‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬عديدة،‭ ‬خصوصاً‭ ‬إبان‭ ‬موجات‭ ‬متعاقبة‭ ‬من‭ ‬ثورات‭ ‬‮«‬الربيع‭ ‬العربي‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬بديلة‭ ‬أكثر‭ ‬ديمقراطية‭ ‬وقابلية‭ ‬للاستمرار‭.‬

ذلك‭ ‬ان‭ ‬جميع‭ ‬تلك‭ ‬الدول‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬أرقى‭ ‬وأكثر‭ ‬ديمقراطية‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬تمّ‭ ‬هدمه،‭ ‬بما‭ ‬ذلك‭ ‬تونس‭ ‬التي‭ ‬اعتقدنا‭ ‬لبعض‭ ‬الوقت‭ ‬أنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تشكّل‭ ‬استثناء‭ ‬لمتلازمة‭ ‬النحس‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬مجتمعاتنا‭ ‬العربية،‭ ‬واستقرّت‭ ‬فيها‭ ‬بالتالي‭ ‬إما‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬أكثر‭ ‬استبداداً،‭ ‬وإما‭ ‬أنظمة‭ ‬حكم‭ ‬هشّة‭ ‬وضعيفة‭ ‬تحاول‭ ‬إدارة‭ ‬مجتمعات‭ ‬منقسمة‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وتسودها‭ ‬الفوضى‭ ‬والاضطرابات‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬أحياناً‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الحروب‭ ‬الأهلية‭.‬

ولأنّ‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬بنظام‭ ‬بشار‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬معظمها‭ ‬مليشيات‭ ‬مسلّحة‭ ‬تدعمها‭ ‬أطراف‭ ‬خارجية،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يصعب‭ ‬النظر‭ ‬إليها‭ ‬باعتبارها‭ ‬قوى‭ ‬أو‭ ‬تيارات‭ ‬سياسية‭ ‬أصيلة‭ ‬أو‭ ‬وطنية،‭ ‬فليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أن‭ ‬تلجأ‭ ‬إلى‭ ‬القوة‭ ‬المسلحة‭ ‬لحسم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يثور‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬خلافات‭ ‬سياسية‭ ‬أو‭ ‬يحتدم‭ ‬بينها‭ ‬من‭ ‬تناقضات‭ ‬أيديولوجية،‭ ‬وربما‭ ‬أيضاً‭ ‬لحسم‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يثور‭ ‬من‭ ‬خلافات‭ ‬بين‭ ‬الأطراف‭ ‬الخارجية‭ ‬التي‭ ‬تدعمها‭ ‬بسبب‭ ‬صراعها‭ ‬على‭ ‬النفوذ‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يمهّد‭ ‬الطريق‭ ‬لاندلاع‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬ربما‭ ‬تفضي‭ ‬إلى‭ ‬تقسيم‭ ‬سوريا‭ ‬إلى‭ ‬كانتونات‭ ‬طائفية‭.‬

ولأن‭ ‬المجتمع‭ ‬السوري‭ ‬شديد‭ ‬التنوّع‭ ‬إثنيا‭ ‬وطائفياً،‭ ‬فقد‭ ‬يؤدي‭ ‬حرص‭ ‬المليشيات‭ ‬المتصارعة‭ ‬على‭ ‬إحداث‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬في‭ ‬القوة‭ ‬بين‭ ‬الطوائف‭ ‬الرئيسية‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬نظام‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬أشبه‭ ‬بالنظام‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬سيقود‭ ‬حتماً‭ ‬إلى‭ ‬كارثة‭ ‬كبرى‭ ‬تساعد‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬حلمه‭ ‬في‭ ‬تفتيت‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬كانتونات‭ ‬ترسم‭ ‬الحدود‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬طائفية،‭ ‬ويمهّد‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬الكيان‭ ‬للهيمنة‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬برمّتها‭ ‬في‭ ‬الأمد‭ ‬المنظور‭.‬

على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تواجه‭ ‬‮«‬سوريا‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬تحديات‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬علاقاتها‭ ‬الخارجية،‭ ‬خصوصاً‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬ومع‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬والكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة،‭ ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬ستكتشف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات‭ ‬تكتنفها‭ ‬تعقيدات‭ ‬هائلة‭ ‬وتنطوي‭ ‬على‭ ‬تناقضات‭ ‬كثيرة‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬قابلة‭ ‬للحلّ‭. ‬ولأنّ‭ ‬سوريا‭ ‬ظلّت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬عشر‭ ‬عاماً‭ ‬مسرحاً‭ ‬لصراع‭ ‬مفتوح‭ ‬تشارك‭ ‬فيه‭ ‬قوى‭ ‬إقليمية‭ ‬ودولية‭ ‬كثيرة،‭ ‬إما‭ ‬بوصفها‭ ‬أطرافاً‭ ‬داعمة‭ ‬ومساندة‭ ‬للنظام‭ ‬الذي‭ ‬سقط،‭ ‬مثل‭ ‬روسيا‭ ‬وإيران‭ ‬وحزب‭ ‬الله،‭ ‬وإما‭ ‬بوصفها‭ ‬أطرافاً‭ ‬داعمة‭ ‬ومساندة‭ ‬للفصائل‭ ‬المعارضة‭ ‬للنظام،‭ ‬مدفوعة‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬بأطماع‭ ‬تجاه‭ ‬سوريا‭ ‬نفسها‭ ‬أو‭ ‬بمطالب‭ ‬تريد‭ ‬فرضها‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الحاكم،‭ ‬مثل‭ ‬تركيا‭ ‬والكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭.‬

تعيش‭ ‬تركيا‭ ‬حالياً‭ ‬لحظة‭ ‬نشوة‭ ‬عارمة‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬بشار،‭ ‬ولذا‭ ‬تعتقد‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬يتيح‭ ‬لها‭ ‬ممارسة‭ ‬تأثير‭ ‬هائل‭ ‬على‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬في‭ ‬مقبل‭ ‬الأيام،‭ ‬خصوصاً‭ ‬وأنّ‭ ‬الفصيل‭ ‬الذي‭ ‬ساندته‭ ‬ودعمته‭ ‬بالمال‭ ‬والسلاح،‭ ‬وهو‭ ‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام،‭ ‬يتبوأ‭ ‬موقع‭ ‬القيادة‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الانتقالية‭ ‬التي‭ ‬ستتولّى‭ ‬وضع‭ ‬أسس‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬سيقود‭ ‬‮«‬سوريا‭ ‬الجديدة‮»‬‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬المقبلة‭. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬أيّ‭ ‬نظام‭ ‬وطني‭ ‬قابل‭ ‬للاستقرار‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬يصطدم‭ ‬حتماً‭ ‬مع‭ ‬تركيا،‭ ‬أيًّا‭ ‬كان‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬السائد‭ ‬فيها،‭ ‬على‭ ‬خلفيّة‭ ‬مسألتين‭ ‬مترابطتين‭ ‬على‭ ‬جانب‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الأهمية،‭ ‬الأولى‭: ‬أطماع‭ ‬تركيا‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬والثانية‭: ‬الموقف‭ ‬من‭ ‬المسألة‭ ‬الكردية‭.‬

ففيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالمسألة‭ ‬الأولى،‭ ‬يُلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬سبق‭ ‬لتركيا‭ ‬أن‭ ‬احتلت‭ ‬لواء‭ ‬الاسكندرونة‭ ‬وضمّته‭ ‬إليها‭ ‬عام‭ ‬1939،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مطامعها‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬لم‭ ‬ولن‭ ‬تتوقّف‭ ‬عند‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬خصوصاً‭ ‬وأنّ‭ ‬عدداً‭ ‬من‭ ‬المسؤولين‭ ‬الكبار‭ ‬في‭ ‬تركيا‭ ‬صرّح‭ ‬مؤخّراً‭ ‬بأنّ‭ ‬حلب‭ ‬مدينة‭ ‬تركية‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الوطن‭ ‬الأم‭. ‬وفيما‭ ‬يتعلّق‭ ‬بالمسألة‭ ‬الثانية،‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬تركيا‭ ‬تعتبر‭ ‬قوات‭ ‬سوريا‭ ‬الديمقراطية‭ (‬قسد‭)‬،‭ ‬وغالبية‭ ‬مقاتليها‭ ‬من‭ ‬الكرد‭ ‬السوريين،‭ ‬حركة‭ ‬إرهابية‭ ‬تشكّل‭ ‬امتداداً‭ ‬لحزب‭ ‬العمال‭ ‬التركي‭ ‬الذي‭ ‬يطالب‭ ‬بانفصال‭ ‬الأكراد‭ ‬وإقامة‭ ‬دولة‭ ‬كردية‭ ‬موحّدة،‭ ‬فيدرالية‭ ‬أو‭ ‬كونفدرالية،‭ ‬تشمل‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬يعيش‭ ‬فيها‭ ‬الاكراد‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬من‭ ‬تركيا‭ ‬وإيران‭ ‬وسوريا‭.‬

لذا‭ ‬يتوقّع‭ ‬أن‭ ‬تماطل‭ ‬تركيا‭ ‬في‭ ‬الانسحاب‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬التي‭ ‬تحتلها‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬سوريا،‭ ‬بدعوى‭ ‬أن‭ ‬وجودها‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬يعدّ‭ ‬ضرورة‭ ‬أمنية‭ ‬لمحاربة‭ ‬‮«‬الإرهابيين‭ ‬الاكراد‮»‬‭. ‬وسوف‭ ‬يصعب‭ ‬جدا‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬نظام‭ ‬سوري‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬وطنياً‭ ‬أن‭ ‬يسلم‭ ‬بأطماع‭ ‬تركيا‭ ‬التاريخية‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬أو‭ ‬يعطي‭ ‬لتركيا‭ ‬الحقّ‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬مستقبل‭ ‬الاكراد‭ ‬السوريين،‭ ‬لأنّ‭ ‬هذا‭ ‬شأن‭ ‬داخلي‭ ‬سوري‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬لتركيا‭ ‬أن‭ ‬تتدخّل‭ ‬فيه‭.‬

بقي‭ ‬أن‭ ‬نلقي‭ ‬نظرة‭ ‬سريعة‭ ‬على‭ ‬أطماع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬التي‭ ‬يرى‭ ‬كاتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬أنها‭ ‬ستكون‭ ‬المحك‭ ‬والاختبار‭ ‬الحقيقي‭ ‬لمدى‭ ‬وطنية‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬الجديد،‭ ‬بل‭ ‬الكاشفة‭ ‬لحقيقة‭ ‬انتماءاته‭ ‬الدينية‭ ‬والحضارية‭. ‬فأطماع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬موثّقة‭ ‬ولا‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬إيضاح‭ ‬أو‭ ‬تأكيد‭. ‬فلم‭ ‬يكتفِ‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬باحتلال‭ ‬مرتفعات‭ ‬الجولان‭ ‬السورية‭ ‬لكنه‭ ‬قام‭ ‬بضمّها‭ ‬أيضاً‭ ‬ومازال‭ ‬يؤكّد‭ ‬صباح‭ ‬مساء‭ ‬أنها‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءاً‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وستظل‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬الأبد‭ ‬ولن‭ ‬ينسحب‭ ‬منها‭ ‬مطلقاً‭.‬

وقد‭ ‬انتهز‭ ‬الكيان‭ ‬حالة‭ ‬الفوضى‭ ‬التي‭ ‬تمرّ‭ ‬بها‭ ‬سوريا‭ ‬حالياً‭ ‬ليعلن‭ ‬أنه‭ ‬بات‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬حقيقية‭ ‬وشاملة‭ ‬معها،‭ ‬ليبرّر‭ ‬بذلك‭ ‬استيلاءه‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬جبل‭ ‬الشيخ‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬الناحية‭ ‬السورية‭ ‬من‭ ‬مرتفعات‭ ‬الجولان،‭ ‬وإقدامه‭ ‬على‭ ‬احتلال‭ ‬المنطقة‭ ‬منزوعة‭ ‬السلاح‭ ‬وإعلان‭ ‬إنهاء‭ ‬اتفاقية‭ ‬فضّ‭ ‬الاشتباك‭ ‬الموقّعة‭ ‬عام‭ ‬1974‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬واحد،‭ ‬رغم‭ ‬أنها‭ ‬أبرمت‭ ‬بوساطة‭ ‬أميركية‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر،‭ ‬واحتلّت‭ ‬كذلك‭ ‬مدينة‭ ‬القنيطرة‭ ‬وعدداً‭ ‬من‭ ‬القرى‭ ‬السورية‭ ‬المتاخمة‭ ‬للحدود‭ ‬مع‭ ‬فلسطين‭ ‬وأصبح‭ ‬‮«‬جيشها‮»‬‭ ‬بالتالي‭ ‬على‭ ‬مسافة‭ ‬تقل‭ ‬عن‭ ‬40‭ ‬كيلومتراً‭ ‬من‭ ‬دمشق‭.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬يصعب‭ ‬التنبّؤ‭ ‬بما‭ ‬سيكون‭ ‬عليه‭ ‬موقف‭ ‬النظام‭ ‬السوري‭ ‬الجديد‭ ‬من‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬ومن‭ ‬المكاتب‭ ‬التي‭ ‬تمثّل‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الفصائل‭ ‬الفلسطينية‭ ‬في‭ ‬دمشق‭.‬

ان‭ ‬تداعيات‭ ‬الزلزال‭ ‬الذي‭ ‬ضرب‭ ‬سوريا‭ ‬لم‭ ‬تظهر‭ ‬جميعها‭ ‬بعد،‭ ‬ولن‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي،‭ ‬الذي‭ ‬يلفظ‭ ‬أنفاسه‭ ‬الأخيرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال،‭ ‬وإنما‭ ‬ستمتدّ‭ ‬لتشمل‭ ‬توازنات‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬أيضاً‭.‬

ليس‭ ‬من‭ ‬المهم‭ ‬أبداً‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬اسم‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬السورية‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬لكن‭ ‬الأهم‭ ‬أن‭ ‬تظلّ‭ ‬سوريا‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬دائماً،‭ ‬قلب‭ ‬العروبة‭ ‬النابض‭ ‬وقلعة‭ ‬المقاومة‭ ‬الصامدة‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬جبروت‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭.‬

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا