معلوم أن الإعلام هو أحد أهم أدوات تشكيل الرأي العام وإدارة الصراعات. وفي أعقاب «طوفان الأقصى» وطوال عام ونصف عام حتى الآن؛ شهدنا – على امتداد العالم- ما يمكن تلخيصه بعبارة: «الطوفان الإعلامي الجماهيري» أو «طوفان الوعي الجديد» الرافض للرواية الإسرائيلية والمؤيد للسردية الفلسطينية.. وفي هذا مكسب هائل للقضية المركزية العربية: قضية فلسطين. فكيف نحافظ على هذا الزخم المبهر سواء في محتوى و/أو مستوى الإعلام أو الوعي الجديدين؟
في معرض الإجابة عن هذا السؤال المزدوج، لا بد لنا من العودة إلى البروفيسور نعوم تشومسكي، المفكر واللغوي الشهير-شفاه الله وعافاه- الذي أظهر لنا كيف يُمكن أن يكون الإعلام سلاحاً مزدوج الاستخدام. فوفقاً لنظرية تشومسكي في «الفلاتر الخمسة للإعلام»؛ تتلاعب وسائل الإعلام العالمية بتصوراتنا بطرق منهجية لتحقيق أهداف محددة، غالبًا ما تكون لصالح النخب على حساب الحقيقة.
واستنادًا إلى نظريته حول «صناعة الطاعة»؛ فإن الإعلام العالمي والمحلي يلعب دورًا كبيرًا في تحويل الانتباه عن القضية المركزية، حيث تعمل وسائل الإعلام عبر هذه الخمسة فلاتر لتُنتج سرديات تخدم السلطة، وهي: الملكية، والإعلانات، والنخب الإعلامية، وانتقاد الأصوات المعارضة، والعدو المشترك. وغالبا ما يتم استهداف الأصوات التي تفضح الحقيقة، مثل جوليان أسانج وغيره، وبالذات الشخصيات والهيئات الدولية التي تتحدث عن ممارسات إسرائيل العدوانية المفزعة سواء في فلسطين أو لبنان.
وفي العادة، يتم خلق عدو وهمي مشترك، مثل الإرهاب، أو «س» من البلدان لتحويل الأنظار عن الفاعل أو العدو الحقيقي وهلم جرّا. وحين ينجح التجهيل ويسود الجهل، تتحقق هزيمتنا!
ومع تصاعد الأحداث في سوريا، وتضارب السرديات الإعلامية المحيطة بها؛ تبرز الحاجة إلى قراءة دقيقة تعيد تركيز البوصلة نحو الحدث الأساس؛ ألا وهي جرائم الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة والضفة الغربية.
ورغم أن المشهد السوري ملتهب بالأحداث والتحليلات (وهو قطعاً مشهد مهم جداً في تطوراته للقضية الفلسطينية بل والعربية وسيترك بصماته عليهما)؛ فإن صرف الانتباه عن فلسطين (بحدث محلي يقع هنا أو هناك) هو انتصار لإستراتيجية الاحتلال، التي تعتمد على تحويل الأنظار عن مشروعها الاستعماري/ الاستيطاني والتوسعي والتهجيري الذي يزداد زخما!
إسرائيل، التي أنشبت أنيابها في سوريا عبر قصف ممنهج لمقوماتها واحتلال لأراضيها واستغلال لانشغالها بالصراعات الداخلية؛ تسعى إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يخدم طموحاتها الاستعمارية/ الاستيطانية.
وهنا، أيضاً يتم سياسيا وإعلاميا إغفال هذه المقارفات والانتهاكات الإسرائيلية في سوريا وكذلك في فلسطين حيث الجذر الحقيقي للمأساة. وإسرائيل في مضيها قدمًا على درب استكمال احتلال الأراضي الفلسطينية وإخضاع شعبها، وإعمال الإبادة في القطاع، ومساعي التهجير القسري أو الناعم في الضفة، والاستيلاء الدائم على الأراضي، وجرائم أخرى في مسلسل حربها المتواصلة، يجب أن تبقى في بؤرة الأضواء الإعلامية المركزة.
غير أن الإعلام العالمي- كما شرح تشومسكي بخصوص خطاب/عملية «صناعة الطاعة»- يتابع تحوير الحقائق وإشغال الجماهير بقضايا أخرى، مهمة حينا وهامشية أحيانا.
والحال كذلك، على العرب والمسلمين، شعوبًا وإعلامًا، إدراك أن العدو الحقيقي هو إسرائيل، مع التركيز على جرائم الدولة الصهيونية في فلسطين، وخاصة في القطاع والضفة، وبالذات بعد أن جرى تغييب المجازر في القطاع (والتي تحصد يومياً عشرات الأرواح) عن شاشات التلفزة ونشرات الأخبار العالمية، مثلما هي اختفت في تصريحات المسؤولين في العالم الغربي!
ذلك أنه إذا نحن لم نتابع هذا الواجب الأخلاقي والديني والوطني والقومي، فإننا سنفقد البوصلة الهادية: (كل الأنظار إلى فلسطين) التي لطالما تحدث عنها بوعي لافت الصديق العزيز عبدالمنعم النهار.
ولو نحن فقدنا هذه البوصلة فإننا سنقع عندئذ في شباك «جنرال التجهيل» أحد أبرز الجنرالات القادرين –دون غيرهم- على هزيمتنا استراتيجيا.. لا قدر الله! وفي هذا السياق، يتوجب علينا، بمساعدة شرفاء العالم الذين اكتشفوا مؤخراً كذب الرواية الإسرائيلية وصحة السردية الفلسطينية، الإبقاء دوما على قضية القضايا -قضية فلسطين- على الشاشات، وعلى الرادارات، باعتبارها البوصلة المركزية التي حددت وتحددّ اتجاهات السلام (وطبعا اتجاهات الحرب) منذ ما يزيد على قرن كامل من الزمن!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك