العدد : ١٧٠٧٤ - السبت ٢١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٧٤ - السبت ٢١ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٠ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

المسألة السورية وتفاعلات الواقع العربي

بقلم: د. زياد بهاء الدين

السبت ٢١ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

اضطرّتني‭ ‬ظروف‭ ‬السفر‭ ‬لمتابعة‭ ‬التطورات‭ ‬المتلاحقة‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬خلال‭ ‬الأسابيع‭ ‬الماضية‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬مصر،‭ ‬والتمهل‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬عنها‭ ‬لحين‭ ‬العودة‭ ‬نظرًا‭ ‬إلى‭ ‬تلاحقها‭ ‬المتسارع‭ ‬وعدم‭ ‬دقة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأخبار‭ ‬المبكرة‭ ‬المنشورة‭ ‬عنها‭.‬

التمهل‭ ‬سببه‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬سقوط‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬سوريا‭- ‬في‭ ‬تقديري‭- ‬أخطر‭ ‬تطور‭ ‬تشهده‭ ‬الساحة‭ ‬العربية‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬طويلة،‭ ‬وأظنه‭ ‬سيكون‭ ‬أبعدها‭ ‬أثرًا،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬والمجتمع‭ ‬السوريين،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬بأسرها‭.‬

هذه‭ ‬لحظة‭ ‬فارقة،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬حكمًا‭ ‬سقط،‭ ‬وجيشًا‭ ‬انسحب،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬رئيس‭ ‬دولة‭ ‬كان‭ ‬الناس‭ ‬يخشون‭ ‬سيرته‭ ‬وبطش‭ ‬أجهزته‭ ‬صار‭ ‬مرة‭ ‬واحدة‭ ‬لاجئًا‭ ‬منبوذًا‭.. ‬بل‭ ‬لأن‭ ‬الحكم‭ ‬الذي‭ ‬سقط‭ ‬كان‭ ‬واحدًا‭ ‬من‭ ‬أشد‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬والعالمية‭ ‬استبدادًا‭ ‬بالسلطة،‭ ‬وبطشًا‭ ‬بشعبه،‭ ‬وقمعًا‭ ‬للحقوق‭ ‬والحريات،‭ ‬حتى‭ ‬بالمعايير‭ ‬المتواضعة‭ ‬للوطن‭ ‬العربي‭.‬

مع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المخاوف‭ ‬كثيرة‭ ‬ومشروعة،‭ ‬ويمكن‭ ‬إجمالها‭ ‬في‭ ‬الخمسة‭ ‬الآتية‭:‬

أولًا‭: ‬إن‭ ‬وراء‭ ‬التغير‭ ‬السريع‭ ‬والمفاجئ‭ ‬في‭ ‬المشهد‭ ‬العسكري‭ ‬ونجاح‭ ‬قوات‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام‮»‬‭ ‬في‭ ‬التقدم‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬تدخلًا‭ ‬أجنبيًا‭ ‬أكيدًا‭ ‬ومساندة‭ ‬تركية،‭ ‬والأرجح‭ ‬أنها‭ ‬مدعومة‭ ‬من‭ ‬دول‭ ‬وأجهزة‭ ‬استخباراتية‭ ‬أخرى‭ ‬اتفقت‭ ‬على‭ ‬وضع‭ ‬نهاية‭ ‬لحكم‭ ‬بشار‭ ‬الأسد،‭ ‬ومن‭ ‬دونها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬نظامه‭ ‬انهار‭ ‬وجيشه‭ ‬انسحب‭ ‬بهذه‭ ‬السرعة‭.‬

ثانيًا‭: ‬إن‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام‮»‬‭ ‬مهما‭ ‬غيرت‭ ‬اسمها‭ ‬وعدلت‭ ‬خطابها،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تجاهل‭ ‬أن‭ ‬بدايتها‭ ‬كانت‭ ‬عام‭ ‬2012‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬جبهة‭ ‬النصرة‮»‬،‭ ‬التابعة‭ ‬لتنظيم‭ ‬الدولة‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ثم‭ ‬صارت‭ ‬تابعة‭ ‬لتنظيم‭ ‬القاعدة‭ ‬من‭ ‬2013‭ ‬إلى‭ ‬2016،‭ ‬ثم‭ ‬لعامين‭ ‬تاليين‭ ‬أخذت‭ ‬مسافة‭ ‬من‭ ‬تنظيم‭ ‬القاعدة‭ ‬واتخذت‭ ‬لنفسها‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬جبهة‭ ‬فتح‭ ‬الشام‮»‬،‭ ‬وأخيرًا‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬2017‭ ‬اندمجت‭ ‬مع‭ ‬فصائل‭ ‬إسلامية‭ ‬مسلحة‭ ‬أخرى‭ ‬تحت‭ ‬اسم‭ ‬‮«‬هيئة‭ ‬تحرير‭ ‬الشام‮»‬‭. ‬لهذا‭ ‬يصعب‭ ‬قبول‭ ‬أنها‭ ‬بعد‭ ‬إسقاط‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬لن‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬الاستئثار‭ ‬بالسلطة‭ ‬وفرض‭ ‬نفسها‭ ‬وتوجهاتها‭ ‬على‭ ‬المجتمع‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فعلينا‭ ‬انتظار‭ ‬ما‭ ‬تفعله‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬لعلها‭ ‬تتخذ‭ ‬اتجاهًا‭ ‬غير‭ ‬ما‭ ‬يتوقعه‭ ‬الناس‭.‬

ثالثًا‭: ‬إن‭ ‬الانتصار‭ ‬في‭ ‬معركة‭ ‬عسكرية‭ ‬شيء،‭ ‬بينما‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬أدوات‭ ‬الحكم‭ ‬شيء‭ ‬مختلف‭ ‬تمامًا‭. ‬الجبهة‭ ‬انتصرت‭ ‬عسكريًا‭ ‬على‭ ‬الجيش‭ ‬السوري‭ ‬وتقدمت‭ ‬بسرعة‭ ‬في‭ ‬‮«‬إدلب‮»‬‭ ‬و«حلب‮»‬‭ ‬و«حمص‮»‬‭ ‬حتى‭ ‬‮«‬دمشق‮»‬‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬قليلة‭. ‬أما‭ ‬ممارسة‭ ‬الحكم‭ ‬فتحتاج‭ ‬تحكمًا‭ ‬في‭ ‬أجهزة‭ ‬بيروقراطية،‭ ‬وموارد‭ ‬مالية،‭ ‬وتدفقات‭ ‬غذائية،‭ ‬وتشغيل‭ ‬المرافق،‭ ‬وتوفير‭ ‬الأمن،‭ ‬وتعاملًا‭ ‬مع‭ ‬الجماهير،‭ ‬وقبل‭ ‬ذلك‭ ‬مواجهة‭ ‬تيارات‭ ‬وفصائل‭ ‬معارضة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬موالية‭ ‬لها‭ ‬توقعات‭ ‬وطلبات‭. ‬وهذا‭ ‬كله‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬غير‭ ‬واضح،‭ ‬ويهدد‭ ‬قبضة‭ ‬‮«‬الجبهة‮»‬‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬والحكم،‭ ‬كما‭ ‬يهدد‭ ‬البلد‭ ‬بالفوضى‭.‬

رابعًا‭: ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬خشية‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬سقوط‭ ‬حكم‭ ‬عائلة‭ ‬الأسد‭ ‬بداية‭ ‬تفكك‭ ‬الدولة‭ ‬السورية،‭ ‬سواء‭ ‬تحت‭ ‬وطأة‭ ‬الطائفية‭ ‬الداخلية‭ ‬وصراعاتها‭ ‬المؤجلة،‭ ‬أم‭ ‬بسبب‭ ‬المطامع‭ ‬التركية‭ ‬والإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬اقتطاع‭ ‬مساحات‭ ‬حدودية‭ ‬واحتلالها‭ ‬لآجالٍ‭ ‬غير‭ ‬معلومة‭.‬

أما‭ ‬خامسًا،‭ ‬فإن‭ ‬بعض‭ ‬المعلقين‭ ‬من‭ ‬التيار‭ ‬القومي‭ ‬بالذات‭ ‬أعربوا‭ ‬عن‭ ‬تخوف‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬الأسد‭ ‬إلى‭ ‬خروج‭ ‬قوة‭ ‬مناهضة‭ ‬للنفوذ‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬من‭ ‬المشهد،‭ ‬وتغيير‭ ‬في‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬لصالح‭ ‬إسرائيل،‭ ‬وبالتالي‭ ‬إضعاف‭ ‬جبهة‭ ‬المقاومة‭ ‬العربية‭.‬

قد‭ ‬نتفق‭ ‬أو‭ ‬نختلف‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المخاوف‭ ‬الخمسة،‭ (‬وأنا‭ ‬شخصيًا‭ ‬لا‭ ‬أتفق‭ ‬معها‭ ‬جميعًا‭ ‬بل‭ ‬أسردها‭)‬،‭ ‬ولكن‭ ‬يجب‭ ‬البدء‭ ‬بإدراك‭ ‬أنها‭ ‬مخاوف‭ ‬مشروعة‭ ‬ولا‭ ‬يصح‭ ‬تجاهلها‭.‬

ولكن‭ ‬رغم‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬الاستبداد‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬بديلًا‭ ‬مقبولًا‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الاعتماد‭ ‬عليه‭ ‬لتحقيق‭ ‬أي‭ ‬نتيجة‭ ‬إيجابية‭. ‬وهذا‭ ‬ينطبق‭ ‬على‭ ‬سوريا‭.‬

الوضع‭ ‬السوري‭ ‬بالغ‭ ‬الخطورة،‭ ‬وتداعياته‭ ‬سوف‭ ‬تصيبنا‭ ‬جميعًا‭. ‬ولكن‭ ‬دعونا‭ ‬لا‭ ‬نتصور‭ ‬أن‭ ‬الاستبداد‭ ‬هو‭ ‬الحل،‭ ‬ولا‭ ‬الحماية‭ ‬ولا‭ ‬الاستقرار‭ ‬ولا‭ ‬إعلاء‭ ‬شأن‭ ‬القومية‭ ‬العربية‭ ‬والانتصار‭ ‬للشعب‭ ‬الفلسطيني‭. ‬

قلوبنا‭ ‬مع‭ ‬الشعب‭ ‬السوري‭ ‬الشقيق‭ ‬أولًا‭ ‬وقبل‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬العصيبة‭ ‬والمرحلة‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وعلينا‭ ‬احترام‭ ‬اختياراته‭ ‬وأولوياته،‭ ‬ومساندته‭ ‬لكي‭ ‬يعبر‭ ‬هذه‭ ‬الظروف‭ ‬العصيبة‭. ‬وأول‭ ‬المساندة‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬أشقاءنا‭ ‬السوريين‭ ‬يتعين‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬من‭ ‬مصر‭ ‬والبلدان‭ ‬العربية‭ ‬الشقيقة‭ ‬أيضا‭.‬

فإن‭ ‬كانت‭ ‬مصر‭ ‬قد‭ ‬رحبت‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬المحنة‭ ‬وفتحت‭ ‬لهم‭ ‬أبواب‭ ‬العمل‭ ‬والحياة‭ ‬الطبيعية‭ ‬والمعيشة،‭ ‬فإن‭ ‬محنتهم‭ ‬لم‭ ‬تنقضِ،‭ ‬ووجودهم‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬محل‭ ‬ترحيب‭ ‬مستمر‭ ‬لأن‭ ‬وطنهم‭ ‬سوف‭ ‬يمر‭ ‬بتجارب‭ ‬ومراحل‭ ‬عصيبة،‭ ‬وعلينا‭ ‬مساندتهم‭ ‬الآن‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬كان‭ ‬سابقًا،‭ ‬وهذه‭ ‬تكون‭ ‬العروبة‭ ‬الحقيقية‭ ‬والتضامن‭ ‬الإنساني‭ ‬مع‭ ‬أشقائنا‭.‬

 

{ خبير‭ ‬اقتصادي‭ ‬مصري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا