عندما نشرتُ مقالي في صحيفة «أخبار الخليج» في 28 أكتوبر 2024 حول الاجتماع رقم (29) المنعقد حاليا في أذربيجان للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية، كنتُ متشائما حول مخرجات هذا الاجتماع والقرارات التي ستتمخض عنه. ولكن الآن وبعد فوز ترامب لولاية ثانية في انتخابات الرئاسة الأمريكية فإن هذا التشاؤم تحول إلى واقع ملموس، وإلى إحباط شديد مشهود، وأصبح يقينا لدي بأن ما ينتج عن هذا الاجتماع، ولو كان إيجابيا ويصب في صالح قضية التغير المناخي وفي صالح استدامة كوكبنا، فإنه لن يرى النور على المدى القريب والبعيد، ولن يكون قابلاً للتنفيذ، وبالتحديد من الولايات المتحدة الأمريكية المسؤول الأول تاريخياً عن وقوع ظاهرة التغير المناخي وارتفاع حرارة كوكبنا، والتي يجب أن تتحمل العبء الأكبر دوليا في خفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بسخونة الأرض، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينجم عن حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، وفي السيارات والطائرات، والمصانع، وغيرها من المصادر التي لا تعد ولا تحصى.
فدخول ترامب إلى البيت الأبيض مرة ثانية في يناير 2025 سيكون العائق الأكبر أمام أية قرارات تهدف إلى خفض انبعاث غازات الدفيئة من الولايات المتحدة الأمريكية، وسيفرض ترامب سياسته الأحادية، وسيقر «النظام العالمي الجديد للتغير المناخي». فلنا مع ترامب شخصياً تجربة مرَّة في مجال تطبيق معاهدات الأمم المتحدة المتعلقة بالتغير المناخي، ولنا مع ترامب وحكومته وحزبه الجمهوري بشكلٍ عام خبرات سابقة قاسية وطويلة، قامت بإحباط قرارات وبرامج وسياسات الأمم المتحدة لإلزام دول العالم طواعية على وضع الحدود، كما انسحبت من معاهدتين دوليتين حول التغير المناخي.
أما التجربة الأولى فكانت مع الرئيس الجمهوري جورج بوش الابن. فالولايات المتحدة الأمريكية وقعتْ على بروتوكول كيوتو في ديسمبر 1997 عندما كان بيل كلينتون الديمقراطي في البيت الأبيض وآل جور نائباً للرئيس، حيث كان بروتوكول كيوتو من الاتفاقيات الفاعلة والمؤثرة لأنها أولاً تبنت مبدأ مهماً جداً هو المسؤولية المشتركة لجميع دول العالم في خفض انبعاثاتها من الملوثات المعنية بالتغير المناخي، وفي الوقت نفسه المسؤولية المختلفة لدول العالم. فهذا المبدأ كان عادلاً في التعامل مع ملف التغير المناخي، فلا يساوي بين الدول الصناعية المتقدمة التي لوثت الهواء الجوي من خلال عملياتها التنموية وتسببت في سخونة كوكبنا منذ أكثر من قرنين من الزمان مع الدول النامية التي استيقظت من نومها العميق وبدأت رويداً رويداً في برامج وعمليات التنمية، أي إن انبعاثاتها منخفضة ولم تستمر سنوات طويلة. أما السبب الثاني لفاعلية بروتوكول فهو موافقة الدول الصناعية العريقة في التنمية على خفض انبعاثاتها الكلية للملوثات بنحو 5.2% مقارنة بعام 1990، كما وافقت الولايات المتحدة على خفض انبعاثاتها بنسبة 7%.
ولكن هذه الموافقة الأمريكية على بروتوكول كيوتو لم تدم طويلاً ولم تنفذ ميدانياً، فعند تربع جورج بوش الابن على البيت الأبيض في عام 2001، أعلن مباشرة رفضه لهذا البروتوكول، وتبعه في الرفض الكونجرس الأمريكي الذي لم يصادق عليه، فانسحب بوش استناداً على قرار الكونجرس من هذا البروتوكول. وعزا بوش السبب في الخروج من البروتوكول في أنه غير عادل فلم يلزم الدول النامية والمتسارعة في النمو مثل الصين والهند على خفض انبعاثاتها، كما صرح بوش بأن لتنفيذ هذا البروتوكول سلبيات تنعكس على الاقتصاد الأمريكي وتؤدي إلى خفض الوظائف، فتنفيذه مكلف مالياً جداً لأمريكا، حسب رأي بوش.
وأما التجربة الثانية فهي مع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق دونالد ترامب، والرئيس المنتخب القادم بعد شهرين للبيت الأبيض. فالرئيس ترامب من الشخصيات التي لا تؤمن بواقعية التغير المناخي، كما إنه لا يعتقد بأن لأنشطة الإنسان دوراً فاعلاً وإسهاماً رئيساً في وقوع ظاهرة التغير المناخي وانعكاساتها من ارتفاع حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتفاقم الكوارث المناخية في معظم مدن العالم الساحلية. كذلك فإن ترامب في حملته الانتخابية الرئاسية طوال أكثر من ثلاث سنوات لم يلتفت مباشرة إلى قضية التغير المناخي، ولم يعط أي اهتمام يذكر لهذه القضية، بل تجاهلها كلياً، وكأنها غير موجودة في حياتنا، وليس لها أي تأثير على المجتمع الأمريكي.
ولذلك بعد أن وقَّع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما على تفاهمات اجتماع باريس للتغير المناخي في ديسمبر 2015، والتي من بينها أن تقوم الدول طواعية بوضع حدود لانخفاض الملوثات بنسبة معينة، فسرعان ما انسحب منها ترامب عندما نزل البيت الأبيض لأول مرة، وبالتحديد اعتمد رسمياً قرار الانسحاب في الأول من يونيو 2017.
وهذه القناعة المتجذرة في ثقافة ترامب، والذي يعتبر التغير المناخي مجرد «خدعة» حتماً ستنعكس على قراراته المستقبلية المتعلقة بأية تفاهمات أو معاهدات دولية حول التغير المناخي، ومنها ما تمخض عنه الاجتماع رقم (29) المنعقد حالياً في أذربيجان. أي إن أي قرار من الاجتماع لا يصب في المصلحة الشخصية لترامب أولاً، ثم المصلحة الحزبية الجمهورية سيكون مُعرضاً بسرعة لخطر الإجهاض من الرئيس ترامب، حتى ولو وَقَعتْ الولايات المتحدة عليه في عهد بايدن المنتهية ولايته.
فمن الواضح إذن أن سياسات ترامب المتعلقة بالبيت الأبيض تعتمد أساساً على الجانب الاقتصادي البحت المتمثل في عدم إرهاق شركات أمريكا العملاقة بأية إجراءات، أو أنظمة بيئية تضر بها، وتخفض من أرباحها السنوية، أو أن تُكلفها ما لا تطيق من خفض انبعاثاتها وتحمل الكلفة المالية لذلك. وعلاوة على ذلك فإن استراتيجيته المناخية، إن وجدت، فيجب ألا تمس الوظائف في أمريكا، وأي تأثير سلبي في هذا الجانب فيكون مصيره الرفض والانسحاب.
وفي تقديري ومن خبرتي مع ترامب عندما كان رئيساً للولايات المتحدة، إضافة إلى الخبرة الطويلة والتجارب القاسية مع الحزب الجمهوري غير الصديق للبيئة عامة، والتغير المناخي خاصة، فإنني أتوقع أن يفرض ترامب «نظاماً عالمياً جديداً خاصاً بالتغير المناخي»، وسيضع هذا النظام الجديد مصالحه الشخصية ومصالح حزبه وأمريكا عامة كأساس وأولوية عند وضع هذه السياسة المناخية والنظام الجديد، وسيكون الجانب الاقتصادي وليس الجانب البيئي هو الحَكَم في تقرير أية سياسة، وله الأولوية عند اتخاذ أي قرار مستقبلي. وأما البرامج التي سيُنفذها ستكون أولاً الاستمرار في إنتاج واستخدام جميع أنواع الوقود الأحفوري بدلاً من تشجيع مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، ضارباً بذلك عرض الحائط بجميع قرارات اجتماعات التغير المناخي السابقة التي تدعو إلى التخلص من أنواع الوقود الأحفوري، وثانياً سيعمل على فك القيود المفروضة على الشركات العملاقة ومحطات توليد الكهرباء من ناحية الأنظمة البيئية التي تدعو إلى خفض الانبعاث والتحكم في الملوثات من أجل عدم التأثير فيها من الناحية الاقتصادية أو من ناحية تسريح الموظفين.
فكل ما سبق يؤكد لي أن أي قرار سيتخذه المجتمع الدولي، ممثلاً في اجتماعات التغير المناخي الأممي لن يمر دون أن يصب أولاً في مصلحة أمريكا، ولن تتم الموافقة عليه إلا إذا توافق مع المصالح الاقتصادية لأمريكا ومصالح ترامب والحزب الجمهوري.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك