لم تُضع إسرائيل لحظة واحدة، بسلوكها الانتهازي المعروف، بعد انفجار الأحداث في سورية لتستغلها في ثلاثة اتجاهات. أولاً، احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي السورية، بما في ذلك حوالي 180 كم2 في منطقة الجولان، وقمة جبل الشيخ، ومناطق أخرى قريبة من دمشق، حتى وصلت دباباتها، بحسب تقارير الإعلام الإسرائيلي، إلى مسافة 24كم من العاصمة السورية.
ثانياً، تدمير كامل وممنهج لجميع القدرات العسكرية السورية، بما في ذلك سلاح الجو، والسلاح البرّي، والصواريخ، والبحرية. وبما في ذلك شنّ ما يزيد على 400 غارة جوية دمرت، من دون أي مقاومة، معظم مقدرات الدفاع السورية. وبذلك غيرت إسرائيل خلال 48 ساعة التوازن الاستراتيجي في المنطقة لصالحها، ونفذت احتلالاً واسعاً جديداً للأراضي السورية، وأعلنت نيّتها إبقاء هذا الاحتلال، مؤكّدة ما قلناه مراراً وتكراراً أن الأطماع الإسرائيلية لا تقتصر على أراضي فلسطين، بل تمتد إلى كل الدول العربية المجاورة وغير المجاورة.
ثالثاً، التدخل القبيح في الشؤون الداخلية السورية بتحريض أطياف المجتمع السوري بعضها على بعض، وادّعاء الحرص الإسرائيلي على مصالح الأكراد والدروز في محاولة لشقّ طريق تجزئة سورية وتقسيمها إلى دويلاتٍ بما يخدم المصالح الإسرائيلية.
يتمثل الجانب الثاني للاستباحة الإسرائيلية في تصعيد حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزّة، فبالإضافة إلى عمليات قصف المدنيين الوحشية، التي تودي يوميا بحياة حوالي مائة شهيد، تواصلت عملية نسف جميع أحياء الشمال ومناطقها وتدميرها، وخصوصاً جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون. وتُخضع إسرائيل جميع سكان القطاع لتجويع جماعي خطير يشكل جزءاً من عملية الإبادة الجماعية، وتستخدم الحرب البيولوجية بتسهيل انتشار الأمراض، والحرب الكيماوية الناتجة عن آلاف الأطنان من قذائفها. ويجري ذلك كله على مرأى ومسمع العالم الذي لا يفعل شيئاً لإيقاف هذه المجازر والعذاب الذي يعانيه الفلسطينيون.
المذهل، والغريب، أن ردود الأفعال العربية والإسلامية على استباحة إسرائيل سورية وسيادتها وأراضيها، واستباحتها حياة الفلسطينيين في غزّة، اقتصر على إصدار بيانات خجولة، من دون أي رد فعل استراتيجي على خطر فرض الهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية الإسرائيلية على المحيط العربي بكامله. يبدو المحيط والإرادة العربية غائبين في وضع تبدو فيه المنطقة ساحة صراع بين ثلاث قوى إقليمية، تركيا وإيران وإسرائيل، ليغدو المحيط العربي مفعولاً به، بدل أن يكون فاعلاً في الدفاع عن مصالح أوطانه وشعوبه.
أما الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، فلم تنطق ببنت شفة احتجاجاً على الاستباحة الإسرائيلية لسورية، وتصعيد الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، مؤكدة ازدواجية المعايير في سياساتها وفي تعاملها مع القانون الدولي وانحيازها المطلق إلى إسرائيل.
ولا يوجد في التاريخ الحديث أمثلة على العدوانية الإسرائيلية التي اجتاحت منذ إنشائها أراضي فلسطين، ومصر، والأردن ولبنان وسورية، واعتدت بالقصف الجوي على تونس، والعراق، واليمن والسودان، إلا ما شهدته أوروبا على يد الفاشية التوسّعية خلال الحرب العالمية الثانية.
ومن الواضح أن نجاح إسرائيل في تمرير عدوانها على سورية يفتح شهيتها للتطاول على دول أخرى، وليس مصادفةً أن الصحافة العبرية تمتلئ منذ أيام بالتحريض على الأردن، واتهامه بالسماح بتهريب السلاح، وعلى مصر واتهامها بتعزيز قدراتها العسكرية في أرضها (سيناء) في مخالفة لاتفاق كامب ديفيد.
وإذا كان هناك من يظن أنه يستطيع حماية نفسه بتجاهل المخاطر الاستراتيجية التي يمثلها السلوك العدواني الإسرائيلي، فإنه يرتكب خطأ فاحشاً، ويتجاهل عِبر التاريخ في المنطقة والعالم، ويسلك سلوك تشمبرلين الذي ظنّ أن الحديث عن السلام يخدّر نيات المعتدين، حتى وجد عاصمته نفسها تقصف بالطائرات.
أثبت ما جرى في سورية مرّة أخرى أن هشاشة البنيان السياسي الداخلي لأي بلد يجعله عرضة لتدخلات الآخرين وتطاولاتهم وأطماعهم، ويقود، في نهاية المطاف، إلى دمار الأوطان. لكن الاستباحة الإسرائيلية الوقحة، التي تضيع تفاصيلها، في وسائل الإعلام العربية والدولية، في خضم الانفعال بالتطورات السورية، لا يمكن تجاهلها، فهي تؤكّد للمرّة الألف، أن إسرائيل تستهدف الجميع، وعندما قال نتنياهو في خطابه تعليقاً على أحداث سورية، إن إسرائيل أصبحت الدولة المركزية في المنطقة، فإنه كان يعني أن مشروعه للشرق الأوسط الجديد هو تقسيم دولها بـ«سايكس بيكو جديد» أخطر وأسوأ، وجعل إسرائيل الدولة الإمبريالية المهيمنة في المنطقة.
وهل هناك حاجة إلى التذكير، مرّة أخرى، بالمثل المعروف «أكلت يوم أكل الثور الأبيض»؟
وفي الواقع، لم يفاجئنا إعلان رئيس الحكومة الفاشية الإسرائيلية، نتنياهو، ووزير ماليته، بتسلئيل سموتريتش، نيتهم في دولة الاحتلال «فرض السيادة الإسرائيلية» على الضفة الغربية بكاملها، أي ضمّها وتهويدها، حال تسلم دونالد ترامب مهامّه رئيساً للولايات المتحدة، فكل المسار الإسرائيلي منذ وُقع اتفاق أوسلو عام 1993 كان يسير في هذا الاتجاه. وتضمّنت خطة صفقة القرن التي طرحها ترامب في ولايته الأولى ضمّ المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية، بما فيها مناطق واسعة مما تسمى منطقة ج. كما لم تفاجئنا تحضيرات نتنياهو العسكرية لإبقاء احتلال قطاع غزّة، فمنذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية في أكتوبر من العام الماضي، حذرنا من أن نتنياهو ينوي إطالة أمد الحرب حتى انتخاب ترامب مجدداً، وأنه سيدفع بخطط تصفية القضية والحقوق الفلسطينية بالإبادة، والاستيطان، والتطبيع والضم والتهويد.
وعلى كل حال، كان مجمل سلوك الحركة الصهيونية منذ احتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس وقطاع غزّة، يسير في اتجاه واحد، منع قيام دولة فلسطينية مستقلة، وضمٍّ وتهويدٍ تدريجي، بدأ بالقدس، ثم امتدّ إلى سائر أنحاء الضفة الغربية. ولم يكن اتفاق أوسلو، والحديث الغربي عن حل الدولتين، من دون ممارسة أي ضغط على إسرائيل لتنفيذه، سوى مماطلة في الزمن لإعطاء إسرائيل الوقت الكافي لتنفيذ توسّعها الاستيطاني، ولنسف أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية مستقلة. ولم تتورّع إسرائيل عن تمرير القوانين، الواحد تلو الآخر، بإجماع أحزابها، في الحكم والمعارضة، نحو الضم والتهويد، بما في ذلك الأوامر والأحكام العسكرية، وقانون القومية، وأخيراً قانون منع قيام دولة فلسطينية.
ولم تكن إسرائيل، كما يدّعي بعضهم، بحاجة إلى السابع من أكتوبر (2023) كي تقوم بذلك كله، إذ نفذته على مدار 57 عاما، بل منذ 76 عاماً عندما ارتكبت النكبة الأولى ضد الشعب الفلسطيني. والآن مع قدوم إدارة ترامب، بعناصرها الإنجليكانية الصهيونية المتطرّفة، والتي يفوق تطرّف تصريحات بعض أركانها، مثل السفير الأمريكي المرشح في إسرائيل، مايك هاكابي، ووزير الخارجية المقترح، ماركو روبيو، تصريحات نتنياهو وسموتريتش اللذيْن يعتقدان أن الظرف صار مهيأ لتنفيذ حلم الحركة الصهيونية بتهويد كل فلسطين.
تصريحات هاكابي الذي قال إنه لا وجود للفلسطينيين، وإنهم كيانٌ مخترع «لسلب أرض إسرائيل»، والذي قال إنه لا وجود للضفة الغربية، بل هي يهودا والسامرة، وإن المستعمرات غير الشرعية هي مدن وبلدات إسرائيلية، تعني شيئاً واحدًا، أنه لا وجود للقانون الدولي، ولا وجود للقانون الإنساني الدولي، ولا قيمة لقرارات الأمم المتحدة، ومحكمة العدل الدولية. وبالتالي، يعيش العالم بحسب شريعة الغاب، ومن يملك القوة يستطيع أن يفعل ما يشاء.
والسؤال الأهم: كيف سيردّ الفلسطينيون، والعرب، والمسلمون وكل مدعّي الحرص على القانون الدولي وحقوق الإنسان والديمقراطية على إعلان الضم الإسرائيلي والتوسع الاقليمي؟.. بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني ليس أمامه إلا خيار واحد، هو مقاومة المخطّط الإجرامي ورفض الاستسلام له، بتوحيد صفوفه في قيادة وطنية موحدة على برنامج كفاحي نضالي، يجنّد طاقات كل مكوّنات الشعب الفلسطيني أينما وجدت، فالمسألة أصبحت أن يكون أو لا يكون، مقاومة التصفية أو الفناء. ولم يعد أمام المؤسسة الرسمية أي ذريعة لمواصلة التمسّك بوهمي الحل الوسط وحلّ الدولتين، و«الوساطة الأمريكية»، فلابد من تجاوز هذه الأوهام.
على الصعيدين، العربي والإسلامي، لم يعد هناك مبرّر للتقاعس عن الانضواء في دعوة عالمية إلى فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل، ومعاملتها كما عومل نظام الأبارتهايد والتمييز العنصري في جنوب إفريقيا. ولم يعد باستطاعة أي دولة تجاهل الحقائق، أو الهروب من الخيار الحتمي، إما الوقوف إلى جانب الفاشية التي ترتكب أبشع جرائم الحرب، أو التصدّي لها ومناصرة حق الشعب الفلسطيني في الحرية والبقاء في وطنه وتقرير المصير والتصدي للتوسع الإقليمي الصهيوني، ولا يوجد حل وسط بين هذين الخيارين.
وفي الوقت ذاته، يواجه الفلسطينيون اليوم التحدّي والخطر الأكبر في تاريخهم كشعب، ولكنهم يعيشون، في الوقت نفسه، الوضوح الأكبر في حياتهم للظروف والمهام والتحدّيات التي تواجههم، بل لعلهم يحظون اليوم بالفرصة التاريخية الأكبر لخلاصهم.
{ الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك