إذا ذهبتَ إلى الطبيب وأنت تشتكي من مشكلات في الجهاز التنفسي، كضيق وصعوبة في التنفس، فإن الطبيب سيسألك فوراً السؤال التقليدي الأول: هل أنت تدخن؟ ولذلك سيكون العلاج الأولي لمرضك الذي تعاني منه هو أن تتوقف فوراً عن التدخين بجميع أشكاله وأنواعه، من السجائر التقليدية المعروفة، ثم إلى الشيشة والسجائر الإلكترونية الحديثة.
ثم تأتي المرحلة الثانية من تقييم وتحليل المرض ومعرفة أسباب المعاناة، وهي التشخيص باستخدام الأشعة المناسبة للتعرف على مصدر ونوع الخلل الذي تشكو منه، وموقع وجوده في أجزاء الجهاز التنفسي العلوية والسفلية إلى أعماق الرئتين من الحويصلات الهوائية. فإذا كشفت الأشعة، لا سمح الله ولا قدَّر، عن وجود أورام في الرئة، فإن المرحلة الأولى والفورية والسريعة للعلاج هو تجنب كل ما يُكَون الأورام في الرئة خاصة، وباقي أعضاء الجسد عامة، وهو التوقف فوراً عن التدخين.
ولكن الجواب الجديد والمحير الذي ستَرُد به على الطبيب المعالج هو عندما تقول له بأنك لم تدخن قط في عمرك، ولم تجلس في حياتك مع المدخنين!!
فهنا يكون اللغز الذي حيَّر الأطباء والباحثون سنوات طويلة من الزمن، وهنا جاءت الحالة الغريبة التي لم يتمكن العلماء طوال العقود الماضية من التعرف على أسرارها، وخفاياها، وأسباب وقوعها على البشر الذين لم يقتربوا من تدخين أي نوع من السجائر كلياً!
فمنذ الخمسينيات من القرن المنصرم ارتبط التعرض لسرطان الرئة والوقوع في شباكه العصيبة بالتدخين والمدخنين، سواء أكان الشخص مدخناً، أو من الذين يخالطون ويجلسون ويسهرون ساعات طويلة مع المدخنين. ومنذ ذلك الزمن البعيد وهناك إجماع تام عند العلماء بأن التدخين، سواء الشيشة، أو السجائر الإلكترونية أو غيرهما يوقعون المدخن ومن حوله في نحو 14 نوعاً من السرطان، ومن أكثرها شيوعاً وانتشاراً سرطان الرئة والحنجرة، إضافة إلى العلل الكثيرة التي تصيب الجهاز التنفسي.
واليوم نقف أمام سبب جديد لم يخطر على بال أحد، ولم يفكر فيه العلماء بأن يكون سبباً من أسباب التعرض لمرض عضال وقاتل هو سرطان الرئة، وهو تلوث الهواء، والتعرض لملوثات الهواء الجوي لسنوات طويلة من الزمن، حتى ولو كانت بمستويات منخفضة تقل عن مواصفات جودة الهواء، سواء في البيئة الداخلية كالمنزل والمكتب، حيث توجد مصادر لتلوث الهواء مثل حرق البخور والعود والفرن المنزلي وغيرهما، أو البيئة الخارجية.
والدراسات التي تثبت وجود علاقة سببية بين تلوث الهواء وسرطان الرئة وأمراض كثيرة أخرى بدأت تنكشف وتزيد كل سنة، لتؤكد جميعها وبدون أي شك بأن تلوث الهواء يسبب سرطان الرئة، وأمراض القلب، والسكري من النوع الثاني وغيرها.
وآخر هذه الدراسات نُشرت في مجلة «الطبيعة» (Nature)، وقامت بها «المعاهد القومية للسرطان» في الولايات المتحدة الأمريكية في 2 يوليو 2025، تحت عنوان: «رئة شيرلوك: تَتَبُع العمليات الطفرية لسرطان الرئة لدى غير المدخنين كلياً».
فهذه الدراسة تمثل جزءاً من بحثٍ شامل يغطي كل دول العالم، ويهدف إلى التعرف بعمق على حالات الإصابة بسرطان الرئة من غير المدخنين، والذين يمثلون قرابة 25% من إجمالي حالات الإصابة بسرطان الرئة حول العالم التي تبلغ 2 مليون سنوياً. فقد قامت الدراسة الحالية بإجراء تسلسل الجينوم الكامل لعينة من مرضى سرطان الرئة الذين يبلغ عددهم 871 من غير المدخنين من 28 دولة في العالم، حيث قامت بتحليل جيني للأورام وأنسجة الرئة. وقد توصلت الدراسة إلى استنتاج عام هو أن تلوث الهواء، وبالتحديد من الدخان، أو الجسيمات الدقيقة المنبعثة من السيارات ومحطات توليد الكهرباء وغيرهما، يسبب تغييرات سرطانية أكثر وأشد من التدخين القسري، أو التدخين السلبي بالنسبة للمصابين بأورام سرطان الرئة. وبعبارة أخرى فإن هناك علاقة مباشرة بين التعرض للهواء الملوث بالدخان والإصابة بسرطان الرئة.
والبعد الصحي الثاني لتلوث الهواء فهو متعلق بأهم عضو في جسم الإنسان، والذي قال عنه الرسول عليه الصلاة والسلام: «ألا وإن في الجسم مُضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب».
وآخر دراسة حول تداعيات تلوث الهواء على أنسجة وخلايا القلب نُشرت في مجلة «علم الأشعة» (Radiology) في الأول من يوليو 2025 تحت عنوان: «العلاقة بين التعرض طويل الأمد لتلوث الهواء المحيط والتليف القلبي الذي تم تقييمه باستخدام جهاز الرنين المغناطيسي القلبي». وقد تكونت عينة الدراسة من 694 مصاباً بسرطان الرئة من الذين لم يدخنوا قط في حياتهم، حيث قام الباحثون باستخدام جهاز الرنين المغنطيسي القلبي (MRI) لإجراء دراسة كمية لحجم التليف في القلب ( Diffuse myocardial fibrosis) في هؤلاء المرضى.
وقد توصلت الدراسة إلى استنتاج مهم جداً وهو أن هناك علاقة بين التعرض للهواء الملوث لسنوات طوال من الزمن وتليف أنسجة القلب، وخاصة تلوث الهواء من الدخان، أو الذي نُطلق عليه بالجسيمات الدقيقة، وبالتحديد التي قطرها أقل من 2.5 مايكرومتر، والتي لها القدرة على دخول الدورة الدموية عن طريق الرئتين، ثم الوصول إلى خلايا وأنسجة القلب وإحداث تلف وتليف لها. كما خلصت الدراسة إلى أن هذا التليف يتفاقم ويزيد مع ارتفاع تركيز الجسيمات الدقيقة في الهواء.
واليوم تجمع الدراسات العلمية، والمنظمات الأممية الصحية، وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء بشكلٍ عام يعتبر مادة مسرطنة للإنسان، وتوقع البشر في أمراض كثيرة مزمنة ومستعصية، كالسرطان، ومن أهمها سرطان الرئة، وأمراض القلب المختلفة، وغيرهما من الأسقام والعلل الكثيرة. وقد قدَّرت منظمة الصحة العالمية الكلفة المالية للتأثيرات الصحية العقيمة لتلوث الهواء بنحو 8.1 تريليونات دولار سنوياً على المستوى الدولي.
فالأدلة دامغة وقوية وتؤكد بأن لتلوث الهواء تداعيات متعددة تنعكس على جوانب كثيرة، منها الجانب البيئي وفساد جودة الهواء، وتدهور صحة الناس، وتحميل ميزانية الدولة عبئاً ثقيلاً إضافياً، كما أنه يعتبر أحد عوامل إخفاق الدول وفشلها في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ألا تكفي هذه الأدلة والتداعيات المتعلقة بتلوث الهواء لحث الدول على تصعيد قضية تلوث الهواء في سلم أولويات برامج الحكومات، حماية للمواطنين، ووقاية لصحتهم من الأمراض التي يسببها تلوث الهواء؟
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك