انتهيت للتو من مشاهدة المسلسل السعودي «شارع الأعشى». كنت قد فوّت متابعته وسط زحام شهر رمضان، كما يحدث كل عام، وتركته لما بعد. أحب أن أحتفظ للأعمال التي تستحق بهدوء أيامي. وحين أطفأت التلفاز أخيرا، شعرت بشيء من دفء الشارع لا يزال عالقا في القلب.
«شارع الأعشى» يشبه زيارة حميمة إلى حي قديم من أحياء الرياض. حي يعج بالناس وأحلامهم المتعثرة وصراعاتهم الصغيرة، حكاياته مألوفة إلى حد أنك تشعر أنها خرجت من بيوتنا نحن.
أول ما شدّني في المسلسل وجوه النساء. لم تكن أدوارهن جانبية ولا مكملة للمشهد، بل كنّ يحملن الحكاية بثقة وعمق. امرأة كاملة، لها موقف، لها لحظات خوف وشجاعة، تردد وجرأة.
لمى عبدالوهاب بملامحها الصادقة، إلهام علي بتعبيرها الرقيق القوي، آلاء سالم بصدقها العفوي.. كلهن قدّمن أدوارًا مقنعة، حتى ليخيّل إليك أنهن يعشن فعلا هناك، في ذاك الحي، لا أمام الكاميرا.
ثم يأتي خالد صقر، بطل العمل، بدور إنساني متوازن. عينيه تحملان مزيجا من الحلم والتردد والانكسار، وأداؤه هادئ لكنه راسخ، يبقى في ذاكرتك من دون أن يطغى على أحد.
نجاح العمل لم يكن شعورًا شخصيا فحسب. ففي مهرجان الدانة للدراما 2025، الذي استضافته البحرين مؤخرا، حصد «شارع الأعشى» نصيب الأسد من الجوائز: أفضل مسلسل اجتماعي، وأفضل نص درامي لبدرية البشر وأوزليم بوسيل، وأفضل إخراج لجون سارياتن. كما تألق نجومه في جوائز التمثيل؛ فاز خالد صقر بجائزة أفضل ممثل، وإلهام علي بجائزة أفضل ممثلة، وآلاء سالم بجائزة أفضل ممثلة صاعدة، فيما حصدت لمى عبدالوهاب جائزة الجمهور كأفضل ممثلة. حتى المسلسل نفسه نال جائزة الجمهور، في تأكيد جميل لمكانته في قلوب المشاهدين والنقاد معا.
في منتصف الحكاية، جاءت ذكر حادثة اقتحام الحرم المكي أعجبني أن العمل لم يتجنب الإشارة إليها، بل وضعها في قلب الأحداث التي كانت تحيط بالشخصيات. ومع ذلك، شعرت أن تفاصيلها بدت سريعة إلى حد ما، وكأنها مفهومة ضمنا لمن عاشها. ربما كان من الأجمل لو منح النص هذه الحادثة مساحة أوضح، لتصل أبعادها حتى إلى المشاهد الذي يسمع عنها لأول مرة. لكنها تبقى خطوة جريئة في مسار الدراما السعودية، تستحق الإشادة.
ورغم ثقل تلك الأحداث في القصة، فإن المسلسل لم يفقد دفء التفاصيل الصغيرة، كاللهجة القديمة لأحياء الرياض التي بدت وكأنها شخصية إضافية في العمل. موسيقاها الرقيقة وألفاظها المنسية أضفت على الحوارات طعما خاصا.
كلمة «هلابس» علقت في ذهني على نحو طريف، حتى أنني وجدتها تتسلل إلى لساني. في المرة الأخيرة التي زارتني فيها ابنتي، رفعت رأسي وقلت لها بابتسامة: «هلابس»-بمعنى حياچ الله، فضحكت بدهشة قبل أن نضحك معا. بعض اللهجات تعيدك إلى بيتك، ولو كنت بعيدا عنه.. ولهجة «شارع الأعشى» واحدة من تلك اللهجات.
بين مشهد وآخر، كانت تتسلل عبارات حالمة بصوت ناعم، كلمات أشبه بالأبيات لكنها بسيطة وعفوية. كأنها خرجت من قلب الحي، تضيف للمشاهد لمسة حنين إلى زمن لم نعشه، ومع ذلك نشعر وكأنه زمننا. البنات الحالمات زدن هذا الإحساس جمالا؛ وجوه تخفي الحياء حينا وتكشف جرأة خافتة حينا آخر، وأحلام تتجاوز جدران البيت وأبواب الحي، لتذكرك أن الحلم جزء لا يتجزأ من الحياة، حتى في أكثر البيوت تواضعا.
ما أحببته أيضا أن المسلسل لم يلجأ إلى حبكات مفتعلة أو أحداث مبالغ فيها. الحكايات بدت واقعية وقريبة، يمكن أن تراها في بيتك أو عند جارك؛ بين ما يحلم به الإنسان وما يفرضه عليه المجتمع، بين ما يشعر به فعلا وما يجرؤ أن يقوله. وهذه هي الحكايات التي تبقى في القلب.
بعد نجاحات كهذه، صار واضحا الطريق الذي تسير فيه الدراما السعودية. لم تقلّد الآخرين أو تستعير منهم، بل صارت تروي حكايات الناس في السعودية، بلهجاتهم الدافئة وتفاصيل حياتهم البسيطة، كل ما نحتاج إليه هو أن نستمر في كتابة ما نعرفه وما نشعر به.
وأنا أكتب هذه السطور، أشعر بالامتنان لكل من شارك في صناعة هذا العمل. «شارع الأعشى» حيث أيقظ داخلي حنينا إلى بيت قديم لم أزره منذ سنوات، وأيقظ كذلك ثقتي بأن الدراما في منطقتنا باتت تعرف طريقها.
وهذا ربما هو سحر الحكايات الصادقة: تعيد إليك نفسك، وتذكّرك بأن البيوت التي نشتاق إليها تسكن في قلوبنا.. دائما.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك