العدد : ١٧٢٩٧ - الجمعة ٠١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ صفر ١٤٤٧هـ

العدد : ١٧٢٩٧ - الجمعة ٠١ أغسطس ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٧ صفر ١٤٤٧هـ

قضايا و آراء

«شارع الأعشى».. حكاية الدراما السعودية

بقلم: نبيلة رجب

الأربعاء ٣٠ يوليو ٢٠٢٥ - 02:00

انتهيت‭ ‬للتو‭ ‬من‭ ‬مشاهدة‭ ‬المسلسل‭ ‬السعودي‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الأعشى‮»‬‭. ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬فوّت‭ ‬متابعته‭ ‬وسط‭ ‬زحام‭ ‬شهر‭ ‬رمضان،‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬وتركته‭ ‬لما‭ ‬بعد‭. ‬أحب‭ ‬أن‭ ‬أحتفظ‭ ‬للأعمال‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬بهدوء‭ ‬أيامي‭. ‬وحين‭ ‬أطفأت‭ ‬التلفاز‭ ‬أخيرا،‭ ‬شعرت‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬دفء‭ ‬الشارع‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬عالقا‭ ‬في‭ ‬القلب‭.‬

‮«‬شارع‭ ‬الأعشى‮»‬‭ ‬يشبه‭ ‬زيارة‭ ‬حميمة‭ ‬إلى‭ ‬حي‭ ‬قديم‭ ‬من‭ ‬أحياء‭ ‬الرياض‭. ‬حي‭ ‬يعج‭ ‬بالناس‭ ‬وأحلامهم‭ ‬المتعثرة‭ ‬وصراعاتهم‭ ‬الصغيرة،‭ ‬حكاياته‭ ‬مألوفة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أنك‭ ‬تشعر‭ ‬أنها‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬بيوتنا‭ ‬نحن‭.‬

أول‭ ‬ما‭ ‬شدّني‭ ‬في‭ ‬المسلسل‭ ‬وجوه‭ ‬النساء‭. ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬أدوارهن‭ ‬جانبية‭ ‬ولا‭ ‬مكملة‭ ‬للمشهد،‭ ‬بل‭ ‬كنّ‭ ‬يحملن‭ ‬الحكاية‭ ‬بثقة‭ ‬وعمق‭. ‬امرأة‭ ‬كاملة،‭ ‬لها‭ ‬موقف،‭ ‬لها‭ ‬لحظات‭ ‬خوف‭ ‬وشجاعة،‭ ‬تردد‭ ‬وجرأة‭.‬

لمى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬بملامحها‭ ‬الصادقة،‭ ‬إلهام‭ ‬علي‭ ‬بتعبيرها‭ ‬الرقيق‭ ‬القوي،‭ ‬آلاء‭ ‬سالم‭ ‬بصدقها‭ ‬العفوي‭.. ‬كلهن‭ ‬قدّمن‭ ‬أدوارًا‭ ‬مقنعة،‭ ‬حتى‭ ‬ليخيّل‭ ‬إليك‭ ‬أنهن‭ ‬يعشن‭ ‬فعلا‭ ‬هناك،‭ ‬في‭ ‬ذاك‭ ‬الحي،‭ ‬لا‭ ‬أمام‭ ‬الكاميرا‭.‬

ثم‭ ‬يأتي‭ ‬خالد‭ ‬صقر،‭ ‬بطل‭ ‬العمل،‭ ‬بدور‭ ‬إنساني‭ ‬متوازن‭. ‬عينيه‭ ‬تحملان‭ ‬مزيجا‭ ‬من‭ ‬الحلم‭ ‬والتردد‭ ‬والانكسار،‭ ‬وأداؤه‭ ‬هادئ‭ ‬لكنه‭ ‬راسخ،‭ ‬يبقى‭ ‬في‭ ‬ذاكرتك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يطغى‭ ‬على‭ ‬أحد‭.‬

نجاح‭ ‬العمل‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬شعورًا‭ ‬شخصيا‭ ‬فحسب‭. ‬ففي‭ ‬مهرجان‭ ‬الدانة‭ ‬للدراما‭ ‬2025،‭ ‬الذي‭ ‬استضافته‭ ‬البحرين‭ ‬مؤخرا،‭ ‬حصد‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الأعشى‮»‬‭ ‬نصيب‭ ‬الأسد‭ ‬من‭ ‬الجوائز‭: ‬أفضل‭ ‬مسلسل‭ ‬اجتماعي،‭ ‬وأفضل‭ ‬نص‭ ‬درامي‭ ‬لبدرية‭ ‬البشر‭ ‬وأوزليم‭ ‬بوسيل،‭ ‬وأفضل‭ ‬إخراج‭ ‬لجون‭ ‬سارياتن‭. ‬كما‭ ‬تألق‭ ‬نجومه‭ ‬في‭ ‬جوائز‭ ‬التمثيل؛‭ ‬فاز‭ ‬خالد‭ ‬صقر‭ ‬بجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬ممثل،‭ ‬وإلهام‭ ‬علي‭ ‬بجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬ممثلة،‭ ‬وآلاء‭ ‬سالم‭ ‬بجائزة‭ ‬أفضل‭ ‬ممثلة‭ ‬صاعدة،‭ ‬فيما‭ ‬حصدت‭ ‬لمى‭ ‬عبدالوهاب‭ ‬جائزة‭ ‬الجمهور‭ ‬كأفضل‭ ‬ممثلة‭. ‬حتى‭ ‬المسلسل‭ ‬نفسه‭ ‬نال‭ ‬جائزة‭ ‬الجمهور،‭ ‬في‭ ‬تأكيد‭ ‬جميل‭ ‬لمكانته‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬المشاهدين‭ ‬والنقاد‭ ‬معا‭.‬

في‭ ‬منتصف‭ ‬الحكاية،‭ ‬جاءت‭ ‬ذكر‭ ‬حادثة‭ ‬اقتحام‭ ‬الحرم‭ ‬المكي‭ ‬أعجبني‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬لم‭ ‬يتجنب‭ ‬الإشارة‭ ‬إليها،‭ ‬بل‭ ‬وضعها‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الأحداث‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحيط‭ ‬بالشخصيات‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬شعرت‭ ‬أن‭ ‬تفاصيلها‭ ‬بدت‭ ‬سريعة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬وكأنها‭ ‬مفهومة‭ ‬ضمنا‭ ‬لمن‭ ‬عاشها‭. ‬ربما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الأجمل‭ ‬لو‭ ‬منح‭ ‬النص‭ ‬هذه‭ ‬الحادثة‭ ‬مساحة‭ ‬أوضح،‭ ‬لتصل‭ ‬أبعادها‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬المشاهد‭ ‬الذي‭ ‬يسمع‭ ‬عنها‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭. ‬لكنها‭ ‬تبقى‭ ‬خطوة‭ ‬جريئة‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬الدراما‭ ‬السعودية،‭ ‬تستحق‭ ‬الإشادة‭.‬

ورغم‭ ‬ثقل‭ ‬تلك‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬القصة،‭ ‬فإن‭ ‬المسلسل‭ ‬لم‭ ‬يفقد‭ ‬دفء‭ ‬التفاصيل‭ ‬الصغيرة،‭ ‬كاللهجة‭ ‬القديمة‭ ‬لأحياء‭ ‬الرياض‭ ‬التي‭ ‬بدت‭ ‬وكأنها‭ ‬شخصية‭ ‬إضافية‭ ‬في‭ ‬العمل‭. ‬موسيقاها‭ ‬الرقيقة‭ ‬وألفاظها‭ ‬المنسية‭ ‬أضفت‭ ‬على‭ ‬الحوارات‭ ‬طعما‭ ‬خاصا‭.‬

كلمة‭ ‬‮«‬هلابس‮»‬‭ ‬علقت‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬طريف،‭ ‬حتى‭ ‬أنني‭ ‬وجدتها‭ ‬تتسلل‭ ‬إلى‭ ‬لساني‭. ‬في‭ ‬المرة‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬زارتني‭ ‬فيها‭ ‬ابنتي،‭ ‬رفعت‭ ‬رأسي‭ ‬وقلت‭ ‬لها‭ ‬بابتسامة‭: ‬‮«‬هلابس‮»‬‭-‬بمعنى‭ ‬حياچ‭ ‬الله،‭ ‬فضحكت‭ ‬بدهشة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬نضحك‭ ‬معا‭. ‬بعض‭ ‬اللهجات‭ ‬تعيدك‭ ‬إلى‭ ‬بيتك،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬بعيدا‭ ‬عنه‭.. ‬ولهجة‭ ‬‮«‬شارع‭ ‬الأعشى‮»‬‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬اللهجات‭.‬

بين‭ ‬مشهد‭ ‬وآخر،‭ ‬كانت‭ ‬تتسلل‭ ‬عبارات‭ ‬حالمة‭ ‬بصوت‭ ‬ناعم،‭ ‬كلمات‭ ‬أشبه‭ ‬بالأبيات‭ ‬لكنها‭ ‬بسيطة‭ ‬وعفوية‭. ‬كأنها‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬قلب‭ ‬الحي،‭ ‬تضيف‭ ‬للمشاهد‭ ‬لمسة‭ ‬حنين‭ ‬إلى‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬نعشه،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬نشعر‭ ‬وكأنه‭ ‬زمننا‭. ‬البنات‭ ‬الحالمات‭ ‬زدن‭ ‬هذا‭ ‬الإحساس‭ ‬جمالا؛‭ ‬وجوه‭ ‬تخفي‭ ‬الحياء‭ ‬حينا‭ ‬وتكشف‭ ‬جرأة‭ ‬خافتة‭ ‬حينا‭ ‬آخر،‭ ‬وأحلام‭ ‬تتجاوز‭ ‬جدران‭ ‬البيت‭ ‬وأبواب‭ ‬الحي،‭ ‬لتذكرك‭ ‬أن‭ ‬الحلم‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬يتجزأ‭ ‬من‭ ‬الحياة،‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬أكثر‭ ‬البيوت‭ ‬تواضعا‭.‬

ما‭ ‬أحببته‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬المسلسل‭ ‬لم‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬حبكات‭ ‬مفتعلة‭ ‬أو‭ ‬أحداث‭ ‬مبالغ‭ ‬فيها‭. ‬الحكايات‭ ‬بدت‭ ‬واقعية‭ ‬وقريبة،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تراها‭ ‬في‭ ‬بيتك‭ ‬أو‭ ‬عند‭ ‬جارك؛‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يحلم‭ ‬به‭ ‬الإنسان‭ ‬وما‭ ‬يفرضه‭ ‬عليه‭ ‬المجتمع،‭ ‬بين‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬فعلا‭ ‬وما‭ ‬يجرؤ‭ ‬أن‭ ‬يقوله‭. ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬الحكايات‭ ‬التي‭ ‬تبقى‭ ‬في‭ ‬القلب‭.‬

بعد‭ ‬نجاحات‭ ‬كهذه،‭ ‬صار‭ ‬واضحا‭ ‬الطريق‭ ‬الذي‭ ‬تسير‭ ‬فيه‭ ‬الدراما‭ ‬السعودية‭. ‬لم‭ ‬تقلّد‭ ‬الآخرين‭ ‬أو‭ ‬تستعير‭ ‬منهم،‭ ‬بل‭ ‬صارت‭ ‬تروي‭ ‬حكايات‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬السعودية،‭ ‬بلهجاتهم‭ ‬الدافئة‭ ‬وتفاصيل‭ ‬حياتهم‭ ‬البسيطة،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نحتاج‭ ‬إليه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬نستمر‭ ‬في‭ ‬كتابة‭ ‬ما‭ ‬نعرفه‭ ‬وما‭ ‬نشعر‭ ‬به‭.‬

وأنا‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬أشعر‭ ‬بالامتنان‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬صناعة‭ ‬هذا‭ ‬العمل‭. ‬‮«‬شارع‭ ‬الأعشى‮»‬‭ ‬حيث‭ ‬أيقظ‭ ‬داخلي‭ ‬حنينا‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬قديم‭ ‬لم‭ ‬أزره‭ ‬منذ‭ ‬سنوات،‭ ‬وأيقظ‭ ‬كذلك‭ ‬ثقتي‭ ‬بأن‭ ‬الدراما‭ ‬في‭ ‬منطقتنا‭ ‬باتت‭ ‬تعرف‭ ‬طريقها‭.‬

وهذا‭ ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬سحر‭ ‬الحكايات‭ ‬الصادقة‭: ‬تعيد‭ ‬إليك‭ ‬نفسك،‭ ‬وتذكّرك‭ ‬بأن‭ ‬البيوت‭ ‬التي‭ ‬نشتاق‭ ‬إليها‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬قلوبنا‭.. ‬دائما‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا