في إطار تبنيها نظام عقوبات عالميا لمعاقبة منافسيها العالميين وإضعافهم، سعت الدول الغربية الرئيسية – الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة – إلى استهداف عائدات تصدير النفط لبعض الدول في السوق الدولية. وتُعد روسيا، وإيران، وفنزويلا حاليًا المستهدفين الرئيسيين من هذه الإجراءات، التي تتراوح بين «فرض سقوف سعرية»، و«حظر عالمي»، و«التهديد بفرض عقوبات اقتصادية على المشترين». ومع ذلك، فقد رأى «غريغوري برو»، من «مجموعة أوراسيا»، أن هذه السياسات «أخفقت في تحقيق مآربها»، وأن هذه العقوبات نفسها «لم تعد ناجعة».
وفي هذا السياق، ذكرت مجلة «فورين بوليسي»، أن «عصر العقوبات النفطية يوشك على الانتهاء»، مشيرة إلى أن موافقة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب»، على تنفيذ غارات جوية ضد منشآت نووية إيرانية في 22 يونيو، تنطوي على «اعتراف ضمني»، بأن الضغوط الاقتصادية وحدها لم تعد كافية لدفع «طهران»، إلى تقديم تنازلات سياسية. وهو ما يعكس نمطًا متكررًا شهدته الإجراءات العقابية الغربية ضد كل من موسكو وكاراكاس أيضًا.
ويشكل استهداف «الولايات المتحدة» وحلفائها عائدات تصدير النفط في بعض الدول جزءًا من منظومة عقوبات دولية أوسع نطاقًا، تمتد لتشمل المعاملات المالية، والأنشطة التجارية، والتنقل، والتعاون السياسي. ووفقًا لما أشار إليه «المعهد الملكي للخدمات المتحدة»، فإن الهدف من هذه العقوبات يتمثل في تغيير سلوك المسؤولين داخل تلك الدول، عبر رفع كلفة قراراتهم ومخاطرها، سواء بشكل مباشر، من خلال تقليص قدرتهم على السفر أو الوصول إلى التمويل، أو بشكل غير مباشر، عبر تعزيز الضغوط الشعبية نتيجة تفاقم الأزمات الاقتصادية الداخلية.
ومع ذلك، أقرّ «المعهد»، بأن مثل هذه السياسات غالبًا ما تُمنى بالفشل، إذ إن «النخب الحاكمة لا تُعير عادةً اهتمامًا برفاه شعوبها، بقدر ما تهتم بالحفاظ على سلطتها». وفيما يخص سوق الطاقة العالمية تحديدًا، أوضح «برو»، أن «العقوبات لا تغيّر سلوك الدول المستهدفة بقدر ما تُعيد تشكيل الأسواق، وتُعيد رسم خريطة العلاقات الاقتصادية، حيث يُعاد توجيه النفط إلى مسارات تتحدد وفق اعتبارات جيوسياسية، لا وفق منطق تجاري».
ونتيجة لذلك، لم تتوافر أدلة كافية تؤكد نجاح العقوبات المفروضة على صادرات النفط في تحقيق أهدافها. وفي حالة العقوبات الغربية على صادرات النفط والغاز الروسية، التي فُرضت عقب اندلاع الحرب على أوكرانيا في فبراير 2022، ورغم قيام «مجموعة الدول السبع الكبرى»، بفرض سقف سعري قدره 60 دولارًا لبرميل النفط الروسي في ديسمبر 2022، مع اتجاهها لخفض هذا السقف إلى 47 دولارًا فقط، واصلت «موسكو»، تصدير أكثر من 9 ملايين برميل من النفط يوميًا، بحسب «وكالة الطاقة الدولية»، إلى الصين (47%)، والهند (38%)، فيما لا يزال «الاتحاد الأوروبي»، يشكل 6% من صادراتها من النفط الخام، و51% من مبيعات الغاز الطبيعي المسال. وحتى يوليو 2025، لم تُحدث هذه العقوبات أي أثر ملموس على موقفها من الحرب، إذ تجاهل وزير خارجيتها «سيرجي لافروف»، تهديدات «ترامب»، بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على روسيا وشركائها التجاريين، معتبرًا أن بلاده «مرت بمثل هذه التهديدات سابقًا».
وبالمثل، أثار «كريستوفر ساباتيني»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، تساؤلات حول جدوى العقوبات التي فرضها «ترامب» على صادرات النفط الفنزويلية، مشيرًا إلى أنها لم تُحدث أي تغيير يُذكر في كاراكاس، إذ بقي حجم الصادرات مستقرًا رغم الضغوط السياسية والاقتصادية التي مارستها الولايات المتحدة.
وفيما يتعلق بحالة «إيران»، وبالرغم من انخفاض صادراتها النفطية في أعقاب فرض «إدارة ترامب الأولى»، ما يُسمى بحملة «الضغط الأقصى» من العقوبات بعد عام 2018 – حيث سجلت «إدارة معلومات الطاقة الأمريكية»، تراجع صادراتها الخارجية إلى «أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من 40 عامًا في عام 2020» – إلا أنه وفي أعقاب جائحة كورونا، زادت مشتريات «الصين»، من النفط الخام الإيراني لدرجة أنه بحلول أواخر 2024، شكلت حوالي 15% من إجمالي واردات «بكين»، من النفط الخام. ورأت «أغاث ديماريس»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن أحد العوامل التي أسهمت في ذلك هو «السياسة غير الرسمية»، التي انتهجتها «واشنطن»، وحلفاؤها الأوروبيون، والتي تمثلت في غض الطرف عن شحنات النفط الإيرانية، في محاولة لدفع الأخيرة نحو إبرام اتفاق نووي جديد.
وبشكل واضح زادت صادرات النفط الإيرانية، رغم استمرار خضوعها للعقوبات الاقتصادية الأمريكية. وفي الوقت الذي شنت فيه إسرائيل غاراتها الجوية على إيران في 13 يونيو2025، تلتها الولايات المتحدة بهجمات مماثلة في 22 من الشهر نفسه، كانت تجارة النفط الإيراني تشهد نموًا ملحوظًا. وأكدت شركة «فورتيكسا»، أن صادراتها من الخام بلغت مستوى قياسيًا، متجاوزة 1.8 مليون برميل يوميًا خلال الفترة من 1 إلى 20 يونيو.
من جانبه، لخّص «دانييل جيربر»، من شركة «بيترو-لوجيستكس»، الوضع بقوله: «إن صادرات النفط الخام الإيرانية في النصف الأول من يونيو 2025 بلغت أعلى مستوياتها منذ عدة سنوات»، حيث «سارعت طهران بتصدير الشحنات»، عقب الموجة الأولى من الهجمات الإسرائيلية، تحسّبًا لأي ضربات إضافية قد تستهدف بنيتها التحتية الحيوية. ورغم أن إسرائيل وجّهت ضرباتها إلى مصافي النفط ومنشآت معالجة الغاز، فإنها لم تشنّ هجمات مباشرة على حقول النفط أو مرافق التصدير. وفي أعقاب إعلان الرئيس الأمريكي، وقف إطلاق النار بين إيران من جانب، وإسرائيل والولايات المتحدة من جانب آخر؛ أشار «جيربر»، إلى أنه رغم وجود «تباطؤ» في عمليات النقل، إلا أن «تحميل النفط الخام استمر دون انقطاع».
ويرجع السبب الرئيسي في فشل نظام العقوبات الأمريكية والغربية ضد صادرات النفط الخام من (روسيا، وإيران، وفنزويلا)، إلى عامل مشترك، هو الصين. فيما أبدى «برو»، إعجابه بقدرة السوق الإيرانية على إعادة تشكيل ذاتها «بما يتماشى مع الواقع الجديد الذي فرضته العقوبات»، بدلًا من أن تختفي كما كانت تتوقع الولايات المتحدة.
وعلاوة على ذلك، فقد تجسّد هذا التحول في صعود ما يُعرف باسم مصافي «إبريق الشاي»، المنتشرة في مختلف أنحاء «الصين»، التي وصفتها «إيريكا داونز»، من «جامعة كولومبيا»، بأنها «مصافٍ مستقلة، تعمل بهوامش ربح ضئيلة للغاية، وتتميّز بانتهازيتها في شراء النفط الخام»، مدفوعة بخصومات مغرية على النفط الخاضع للعقوبات. وأوضح «كلايد راسل»، من شبكة «رويترز»، أن «بكين»، اعتادت على شراء كميات فائضة من النفط الخام عندما تعتقد أن الأسعار منخفضة، ثم تقليص وارداتها عندما ترتفع الأسعار.
ومع تداول صادرات النفط الإيراني المقرر تسليمها في أغسطس 2025، بأسعار تقل عن خام برنت المتداول في بورصة «إنتركونتيننتال» (ICE)، لم يكن مفاجئًا أن تُسجّل «بكين»، «أعلى وارداتها منذ نحو عامين»، بفائض بلغ 1.42 مليون برميل يوميًا في يونيو، وهو الشهر الرابع على التوالي الذي يتجاوز فيه الفائض المليون برميل يوميًا. وبصفتها أكبر مستورد للنفط الخام عالميًا، بمتوسط واردات يتجاوز 11 مليون برميل يوميًا في عام 2024، أشارت «داونز»، إلى أن «أكثر من خُمس وارداتها النفطية في ذلك العام كانت خاضعة للعقوبات الأمريكية والغربية».
من جانبه، أكد «ساباتيني»، أن الصين «المتعطشة للطاقة»، ستظل دائمًا «مستعدة لفتح أسواقها أمام النفط الخام غير المشروع»، حتى مع تهديد «ترامب»، بفرض رسوم جمركية ثانوية على مشتري النفط الخام من روسيا، الصين، وفنزويلا. وردًا على تهديده بفرض عقوبات ثانوية -والتي يُفترض تطبيقها على أي دولة تتعامل تجاريًا مع خصوم الولايات المتحدة، ولكنها عمليًا تستهدف الصين وحدها- تساءل «برو»، عن الكيفية التي ستتمكن بها «واشنطن»، من تنفيذ مثل هذا الإجراء، مشيرا إلى أن تنفيذ هذه العقوبات سيتطلب من «الإدارة الأمريكية»، تهديد الشركات الأوروبية التي تتعامل مع نظيراتها الصينية، بالإضافة إلى فرض قيود على شركات الطاقة الأمريكية نفسها، التي تصدّر الغاز الطبيعي، والنفط الخام، ومشتقات مثل الإيثان إلى بكين، وهو احتمال يراه «برو»، غير واقعي.
وعلى الرغم من أن أحدث التقييمات لبرامج العقوبات النفطية الغربية ضد كل من روسيا، وإيران، وفنزويلا؛ تُظهر إخفاقًا في تحقيق أهدافها؛ فقد دافع كل من «دانييل بليتكا»، و«بريت شايفر»، من معهد «أمريكان إنتربرايز» عن هذه السياسة، حيث حذرا من أن تجاهل القادة الأوروبيين لفكرة فرض عقوبات جديدة على إيران خوفًا من تأثيرها على أسعار الطاقة أو تقاربها مع بكين سيكون «خطأً جسيمًا»، مؤكدين أن «الوقت قد حان» للغرب «لاستخدام كافة أدواته المتاحة لإجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات، والتخلي عن برنامجها النووي بطريقة يمكن التحقق منها». وبالمثل، دعا كل من «مارك دوبويتز»، و«سعيد نجاد»، من «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات»، إلى «تشديد الخناق» على صادرات الطاقة الإيرانية من خلال ما وصفاه بـ«حملة اقتصادية أمريكية شاملة»، تواكبها «ضغوط عسكرية».
وفي المقابل، دعا «برو»، صنّاع القرار في واشنطن إلى «إعادة تقييم شاملة لجدوى العقوبات النفطية»، واقترح «التخلي عن هذا المسار بالكامل»، مؤكدًا أن محاولاتها لعزل خصومها الجيوسياسيين عبر العقوبات لم تفشل فقط في تغيير سلوك هذه الدول؛ بل أسهمت في جعلها «أكثر اعتمادًا على الطلب الصيني»، وبالتالي منحت بكين «فرصة السيطرة على مصادر طاقة ثابتة». وقد أيد هذا الطرح أيضًا «ساباتيني»، الذي شدد على ضرورة «إجراء تقييم صريح لمدى فاعلية العقوبات وكيفية تطبيقها»، معتبرًا أن السياسات الحالية لا تُحقق الأهداف المرجوة منها.
ومع ذلك، يبدو أن موقف هؤلاء الداعين إلى تشديد العقوبات، لا سيما فيما يتعلق بإيران، سيظل يمثل الاتجاه السائد لدى إدارة ترامب، رغم غياب النتائج الملموسة لهذه السياسة حتى الآن، وتعاظم الأضرار الاقتصادية والسياسية الناجمة عنها.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك