خطفتْ محكمة العدل الدولية في مدينة لاهاي بهولندا وجذبت أنظار العالم واهتماماتهم في السنة الماضية، وقامت وسائل الإعلام بتسليط أضوائها على وقائع اجتماعات وقرارات أعلى وأكبر هيئة قضائية دولية تابعة للأمم المتحدة، وخاصة بعد طوفان الأقصى عندما تم تحويل عدة قضايا من بعض الدول والمنظمات إلى المحكمة، وبالتحديد تلك المتعلقة بارتكاب الكيان الصهيوني جرائم حرب، وجرائم الإبادة الجماعية للبشر والشجر والحجر في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023.
فمثل هذه القضايا الأمنية والسياسية والحقوقية للإنسان تقع مباشرة ضمن اختصاص هذه المحكمة التي أُسست لتتولى مهمة الفصل طبقاً للقانون الدولي في النزاعات القانونية التي تنشأ بين الدول وتقديم آراء استشارية بشأن المسائل القانونية التي تحيلها إياها أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة.
فمن الأحكام التاريخية الجريئة والفريدة من نوعها التي اتخذتها المحكمة في 24 مايو 2024 هي أنه يتعين على إسرائيل الوقف الفوري لهجومها العسكري على مدينة رفح، وتجنب العمليات التي قد تفرض على الفلسطينيين في غزة ظروفاً يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي كلياً أو جزئياً، إضافة إلى القرار في 19 يوليو 2024 وهو عدم قانونية استمرار وجود دولة إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة وهي غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
ولكن اليوم نشهد وقوف محكمة العدل الدولية في الثاني من ديسمبر 2024، ولأول مرة في تاريخ المحكمة، لإصدار حكم قانوني بالنسبة لقضية تبدو لأول وهلة أنها غير أمنية، وغير سياسية، ولا تمثل نزاعاً عسكرياً بين الدول، وربما يظن المراقب لعمل المحكمة أنها لا تصب في أهداف إنشائها، ولا علاقة لها باختصاصاتها المعروفة.
فهذه القضية المرفوعة الآن أمام قضاة المحكمة، ظاهرها أنها بيئية بحتة ولها علاقة مباشرة بأحد عناصر البيئة، ولكن بداخلها وتفاصيلها تكمن قضايا كثيرة معقدة ومتشابكة، ولها أبعاد أمنية، وحقوقية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وصحية، وهي مشكلة العصر، وأعقد قضية تواجهها البشرية جمعاء، ألا وهي ظاهرة التغير المناخي والتداعيات الدولية الناجمة عنها من سخونة الأرض وارتفاع حرارة كوكبنا، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حموضة المياه، إضافة إلى الكوارث المناخية العقيمة والمدمرة التي زادت في تكرار وقوعها واتسعت حدودها الجغرافية، وارتفعت شدتها قوتها وقدرتها التدميرية، وبخاصة على الجزر الساحلية المنخفضة الواقعة على سواحل المحيطات.
وقد جاء طلب التداول في هذه القضية للمحكمة، وتقديم الرأي الاستشاري القانوني من اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي عقد في 29 مارس 2023، حيث وافق أعضاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة بالإجماع على هذا الطلب تحت عنوان: «التزامات الدول المتعلقة بالتغير المناخي». وتَضَمن الطلب الإجابة عن سؤالين هما أولاً: ما دور والتزامات وواجبات الدول بحسب القانون الدولي في حماية الأنظمة المناخية من انبعاثات الأنشطة البشرية من غازات الاحتباس الحراري مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، وثانياً: ما العواقب القانونية لهذه الالتزامات والأضرار الناجمة عنها للنظم المناخية ذات العلاقة بالدول، وبالتحديد على الدول الجزرية النامية، والناس، والأجيال المستقبلية.
والسؤال الذي يثار الآن: ما علاقة التغير المناخي باختصاصات محكمة العدل الدولية؟ ولماذا يُطلب من هذه المحكمة تقديم الرأي والمشورة حول هذه القضية؟
للإجابة عن هذا السؤال يجب علينا الرجوع إلى أصل نشوء قضية التغير المناخي وتاريخ هذه القضية. فظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض انكشفت مع الثورة الصناعية الأولى في الدول الصناعية المتقدمة منذ قرابة قرنين من الزمان، حيث تم استخدام وحرق الوقود الأحفوري، وخاصة الفحم أولاً ثم النفط ومشتقاته في مصانع توليد الطاقة، وتشغيل المصانع، وفي وسائل المواصلات وغيرها. وعند احتراق هذا النوع من الوقود تنبعث ملوثات كثيرة، منها غاز ثاني أكسيد الكربون الذي تَسَبَبَ مع الزمن في وقوع ظاهرة الاحتباس الحراري، وبالتالي ظهور تداعياتها مثل سخونة الأرض ومياه المحيطات، وارتفاع حرارة وحموضة مياه البحار. وهذه التداعيات تسببت في وقوع الكوارث المناخية والفيضانات والأمطار الغزيرة غير الطبيعية، ما أدى إلى تدمير المرافق الساحلية. ومن أكثر الدول تضرراً من هذه التداعيات هي الدول الجزرية الصغيرة الفقيرة والنامية، التي لا دور لها كليا في وقوع التغير المناخي وتداعياتها؛ أي أن الدول التي تتضرر الآن لم يكن لها أي يدٍ في انكشاف هذه الظاهرة، وإنما نجمت كليا من الدول الصناعية المتقدمة الغنية والثرية.
فهذه الظاهرة كشفت عن عدم وجود «عدالة دولية» على مستوى الدول والشعوب بين المتسبب لهذه الظاهرة وبين المتُضرر، حيث إن الدول المتسببة تتهرب من تحمل مسؤولياتها التاريخية، وتحاول أن تتجنب الوفاء والالتزام بواجباتها تجاه هذه الدول الضعيفة التي ليست لديها الإمكانات المالية والتقنية لمواجهة الكوارث المناخية المتزايدة نوعاً وكماً. ونظراً إلى تعنت الدول الغنية في تقديم الدعم المالي المناسب للدول النامية الفقيرة منذ أكثر من 30 عاماً، كان لا بد من رفع هذه القضية إلى محكمة العدل الدولية لتحقيق العدالة البيئية، والحقوقية، والاجتماعية، والاقتصادية، وبيان الرأي القانوني الدولي لضرورة قيام الدول المتقدمة لواجباتها وتحمل مسؤولياتها التاريخية.
والنقطة الثانية فهي أن الإنسان في كل جيل يجب أن يتْرُك مكونات البيئة بصحة جيدة لكي ينتفع بها البشر في الأجيال اللاحقة، أي المطلوب هو تحقيق «العدالة البيئية» بين الأجيال المتلاحقة، فلكل جيل الحق في التمتع ببيئة سليمة وصحية ومنتجة. وأما الوضع الحالي فيشير إلى أن هذا الجيل سيُورث الأجيال القادمة مشكلات وقضايا ذات أبعاد كثيرة تؤثر على أنشطتها التنموية، وقد تعرقل كل برامجها، وتوقعها في أزمات متلاحقة لا يستطيع الخلاص منها.
ولذلك برز دور محكمة العدل الدولية في تنظيم جلسات الاستماع في الفترة من 2 ديسمبر إلى 13 ديسمبر 2024، وشارك فيها مائة دولة وأكثر من 12 منظمة دولية، ثم إصدار الحكم بعد جلسات الاستماع في عام 2025 حول هذه القضية الدولية المشتركة، من حيث محاسبة الدول الصناعية المتقدمة والغنية على تحمل مسؤولياتها تجاه الدول الفقيرة التي تتحمل منذ عقود تبعات برامج وأنشطة الدول الغنية المستمرة لأكثر من 200 عام، أي تحقيق العدالة بين دول العالم، ثم تحقيق العدالة والمساواة بين الأجيال وعدم تحميل الأجيال المستقبلية أخطاء وزلات هذا الجيل الحالي.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك