على الرغم من أن العالم يشهد تحولًا رقميًا سريعًا في مختلف القطاعات الاقتصادية، من التصنيع إلى الرعاية الصحية إلى التعليم، نتيجة التقدم الهائل في استخدام الذكاء الاصطناعي؛ مما أثار تفاؤلًا كبيرًا حول إمكانيات تحسين الكفاءة والإنتاجية في مرحلة تاريخية أشار إليها بعض المراقبين الغربيين بـ«الثورة الصناعية الرابعة»؛ إلا أنه يظل هناك قلق متزايد بشأن القدرات الضخمة، التي تمتلكها هذه التقنيات، والمخاطر المرتبطة بها إذا تم استغلالها بطرق غير مسؤولة.
وكما أوضحت شبكة «بي بي سي»، يسمح الذكاء الاصطناعي «للحواسيب بالتعلم، وحل المشكلات تقريبًا، مثل الإنسان». ويتم ذلك عبر تمكين أنظمة الحواسيب بتحليل كم هائل من المعلومات، وتحديد الأنماط، ثم تنفيذ المهام المطلوبة التي تتراوح من تجميع التقارير إلى حل المشكلات، وإنشاء صور ومقاطع فيديو ليست حقيقية، ولكنها تحاكي المحادثات والأصوات البشرية. ويُعرف الأخير باسم «الذكاء الاصطناعي التوليدي» الذي يستخدم المحتوى الموجود لإنشاء صور وأصوات، ونصوص ومحاكاة جديدة تمامًا، وأضحى منتشرًا بشكل كبير منذ إطلاق منصة «شات جي بي تي» في نوفمبر 2022.
وعلى الرغم من وجود أبرز رواد تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة، مثل (شركة ابل، واي بي ام، ومايكروسوفت، وإنفيديا، وأمازون، وغيرها العديد)؛ إلا أن «نيك ستودر»، من شركة «أوليفر وايمان جروب»؛ قد رأى أن منطقة الخليج من «المناطق القليلة» بالعالم، التي «أظهرت حماسًا أكبر للتكنولوجيا». وسجل «فينسنت كارشيدي»، و«محمد سليمان»، من «معهد الشرق الأوسط»، كيف تسعى «السعودية»، و«الإمارات» على وجه الخصوص بنشاط إلى «تطوير أنظمة بيئية للذكاء الاصطناعي». وفي حالة البحرين، أشارت «فاريا نصر الدين»، و«كارا ستروكمان»، من مركز «ويلسون»، إلى أن «المملكة أكدت نفسها مركزا رائدا للتكنولوجيا المالية»، بالوجود كـ «بوابة» لبقية منطقة الخليج؛ ما «جعل ابتكاراتها التكنولوجية، وتنظيمها مؤثرين بشكل خاص».
وليس هناك خلاف على ما يجلبه الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي من فوائد اقتصادية، بما في ذلك بالشرق الأوسط، وعالميًا. ووفقًا لتحليل شركة «برايس ووتر هاوس كوبرز»، «يُمكن لتقنياته أن تسهم بحوالي 15.7 تريليون دولار في الاقتصاد العالمي بحلول 2030 (وهو أكبر من إجمالي الناتج المحلي للصين والهند مجتمعين)، وفي الشرق الأوسط من المتوقع أن تضيف 320 مليار دولار إلى الاقتصاد الإقليمي بحلول نهاية العقد الحالي».
وباعتبارها من أوائل المستثمرين في الذكاء الاصطناعي، تبدو دول الخليج المستفيد الأبرز من هذا النمو الاقتصادي. وبحلول عام 2030، يُتوقع أن تسهم تقنياته المتقدمة بنسبة 12.4% من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية، بينما ستسهم بنسبة 14% من الناتج المحلي الإجمالي للإمارات. ورأى «كلون كيتشن»، من «معهد أمريكان إنتربرايز»، أن تخصيص الرياض لـ40 مليار دولار للاستثمارات في الذكاء الاصطناعي «يجسد دفع المنطقة لتصبح رائدة في المجال»، معترفًا بأن مثل هذه الجهود نحو التنويع الاقتصادي هي «جزء من استراتيجية أوسع للحد من الاعتماد على النفط».
وفيما يتعلق بالبحرين، أثارت «إيرينا تسوكرمان»، من شركة «سكارب رايزنج»، كيف يمكن الصعود إلى منصات التجارة الإلكترونية «المعتمدة على الذكاء الاصطناعي»؛ من «توسيع قطاع التجزئة بشكل كبير»، عبر «تسهيل الوصول إلى الأسواق العالمية للشركات المحلية»، وبالتالي تعزيز الإنتاج المحلي، و«تقليل الاعتماد على عائدات النفط».
ومع ذلك، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي يجلب أيضًا العديد من التحديات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية. وعلى الصعيد الاقتصادي، ورغم التوقعات بالنمو الناتج عن هذه التكنولوجيا؛ تسود حالة من عدم اليقين بشأن تأثيرها المستقبلي في سوق العمل. وعلى سبيل المثال، في الإمارات، يستخدم 74% من العمال، «الذكاء الاصطناعي التوليدي»، في أداء بعض المهام مرة واحدة على الأقل أسبوعيًا، وهي نسبة تتجاوز بكثير المتوسط العالمي البالغ 55%. ومع ذلك، يعرب 82% من الإماراتيين عن مخاوفهم بشأن تأثير أدوات الذكاء الاصطناعي في مستقبل وظائفهم. وبيّن «ستودر»، أن الفجوات في التدريب، و«حواجز الشركات غير الكافية»، بشأن استخدام تقنياته؛ تشكل مخاطر للشركات بالخليج؛ من فقدان البيانات والمعلومات المضللة، إلى الاحتفاظ بالكفاءات.
من جانبه، وصف «كيتشن»، الذكاء الاصطناعي، بأنه «سلاح ذو حدين»، ورأى أن «التبني السريع لتقنياته في الخليج، «متشابك بشكل متزايد مع التوترات الجيوسياسية العالمية»، وخاصة بين الولايات المتحدة والصين. وأوضح «كارشيدي»، و«سليمان»، سعي الدولتين إلى «التفوق في مجالاته وأدواته؛ ليس فقط على بعضها؛ لكن أيضًا على بقية العالم، حيث تستغل «واشنطن»، قبضتها المهيمنة على البعد التقني لقوة الذكاء الاصطناعي»، بينما تضاعف «بكين»، جهودها «لتجنيد نخبة من العلماء المدربين بالخارج». وعن تأثير هذه الديناميكية بشكل مباشر على دول الخليج -بما في ذلك البحرين – وثق الباحثان كيف فرضت الدولتان، ضوابط تصدير عقابية، وتدابير تنظيمية ضد بعضهما على «نطاق غير مسبوق»، ولعل أبرزها قرار «إدارة ترامب»، الأولى في مايو 2019، بحظر تزود شركات الاتصالات الأمريكية بمعدات أجنبية الصنع، لأسباب تتعلق بالأمن القومي.
وفيما يخص تطبيقاته في البحرين، فقد تم استخدامها في عدة مجالات، من بينها الأمن الوطني. ومنذ عام 2019، تم التعاون مع شركة «إس آر تي مارين سيستمز» البريطانية؛ لتعزيز المراقبة البحرية من خلال دمج الرادارات، وأنظمة الدوائر التلفزيونية المغلقة، وزاد هذا التكامل من قدرة الضباط على متابعة أعمال المراقبة والتنبيه، وأسهم في إنشاء ما وصفه الرئيس التنفيذي للشركة، «سيمون تاكر»، بـ«حلقة من الفولاذ»، حول البحرين لحمايتها من التهديدات المعادية. وفي القطاع الزراعي، تم استخدامه لمراقبة أكثر من 250 ألف شجرة نخيل، فيما ساعد هذا النظام الباحثين في تقدير الإنتاج المتوقع لكل شجرة، واكتشاف نقاط الضعف البيئية، باستخدام التصوير عبر الأقمار الصناعية.
أما في مجال التخطيط الحضري، فقد استفاد «مكتب المساحة والتسجيل العقاري» في البحرين من البيانات المأخوذة من شبكة الأقمار الصناعية «سكاي سات» الحالية، التابعة لشركة «بلانيت لابز»، والمتخصصة في تصوير، وإنتاج صور عالية الدقة للمملكة. وتُستخدم هذه البيانات للتحقق من صحة تصاريح البناء، مما يعزز من عملية التخطيط للمدن الذكية. وأشاد الرئيس التنفيذي للشركة، «ويل مارشال»، بتقدم البحرين في هذا المجال، وتحديدا نظام الكشف عن التغييرات، ومخالفات البناء باستخدام الذكاء الاصطناعي، موضحا كيف يمكن للحكومات استخدام الأنظمة الذكية، وأتمتة المشروعات؛ لتوفير الوقت والموارد؛ وبالتالي تعزيز مبادرات التخطيط الحضري، حيث يقدم هذا النظام حلولًا تقنية جاهزة، ونهجًا متطورًا للإدارة الحضرية الحديثة.
وبحسب «نصر الدين»، و«ستروكمان»، فإن البحرين، كجزء من استراتيجيتها الشاملة للذكاء الاصطناعي، تستفيد من الشراكات بين القطاعين العام والخاص؛ لتعزيز تقنياته في مجالات متعددة، مثل الصناعات المالية، والتكنولوجية، والاتصالات، والطاقة، حيث كانت من أوائل الدول في العالم، التي وضعت إرشادات لشراء أدواته لمؤسساتها، وفقا لما أكده «المنتدى الاقتصادي العالمي»، و«مركز الثورة الصناعية الرابعة بالإمارات»، فضلا عن إنشاء الحكومة «إطارًا قانونيًا»، لحماية الخصوصية الفردية، مع تأكيد الاستدامة البيئية والشمول، بالإضافة إلى استخدام التكنولوجيا لأغراض السلام والأمن، مثل مكافحة الجوع والفقر والأمراض.
وفي مجال الأمن السيبراني، تم تبني عدة قوانين من قبل البحرين، مثل قانون الجرائم الإلكترونية لعام 2014، وقانون الاتصالات والمعاملات الإلكترونية، وقانون حماية البيانات الشخصية لعام 2018. وكلها تكمل أحكام القانون المدني لعام 2001. كما يتضمن «مشروع قانون الذكاء الاصطناعي»، الذي وافق عليه مجلس الشورى في أبريل 2024 – ويحتوى على 38 مادة– إنشاء هيئة تنظيمية جديدة، وإجراءات لتعويض الأضرار الناجمة عن الذكاء الاصطناعي، مع فرض عقوبات مالية على المخالفات القانونية.
وبالنسبة إلى القطاع المصرفي الوطني، أشار «مركز ويلسون»، إلى أن نظام «إي والت بنفت باي»، يسهم بشكل كبير في تسهيل المدفوعات، عبر المحفظة الرقمية الوطنية، والحسابات المصرفية الشخصية. ويدعم هذا النظام كل من المساعد الرقمي «فاطمة» من بنك «أيه بي سي» في البحرين، والمساعد الرقمي «بيتك أسيستنت» التابع لبنك «أيه اس بي» للتمويل. فيما أصدر «بنك البحرين المركزي»، توجيهات تنظيمية تخص التمويل الرقمي، تشجع المؤسسات المالية على تبني أدوات الاستشارة الرقمية المدعومة بالذكاء الاصطناعي.
وفي خطوة أخرى، أنشأ «بنك البحرين المركزي» في عام 2020، «أول منصة رقمية شاملة للتكنولوجيا المالية في المنطقة»، خاصة به، تحت اسم FinHub973. وأوضحت «نصر الدين»، و«ستروكمان»، أن هذه المنصة توفر «فرصًا للشركات الناشئة، والشركات التقنية الراسخة»؛ للتعاون مع المؤسسات المالية في قضايا الذكاء الاصطناعي. وتتيح هذه البيئة «اختبار الحلول في بيئة رقابية»، مما يسمح للشركات بتطبيق الاختبارات الفنية والتنظيمية على ابتكاراتها قبل التوسع بشكل آمن.
بالإضافة إلى ذلك، استضاف «مجلس التنمية الاقتصادية»، بالبحرين في أكتوبر الماضي، أعمال النسخة الثانية لمنتدى مستقبل التكنولوجيا المالية 2024، بالتعاون مع مؤسسة «إيكونوميست إمباكت»، بمشاركة خبراء تقنيين وماليين من مؤسسات مرموقة، مثل مورجان ستانلي، فيزا، بنك أيه بي سي، ويلز فارجو، وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، وحضرها 1700 فرد، حيث تم مناقشة استخدامات الذكاء الاصطناعي التوليدي في القطاع المالي، بالإضافة إلى التعاون لمواجهة التهديدات الإلكترونية، مثل القرصنة.
وفي إطار سعيها إلى تعزيز دور الذكاء الاصطناعي على الصعيدين الإقليمي والدولي، تولت البحرين موقعًا رياديًا في هذا المجال. ففي مارس 2024، اجتمع مندوبون من 60 دولة، وتم اختيارها مدة عام – إلى جانب «الولايات المتحدة، وكندا، والبرتغال، والنمسا» – لقيادة مجموعات العمل الخاصة، بتنظيم استخدام أطر السلامة لتقنيات الذكاء الاصطناعي في الأنظمة العسكرية والأمنية؛ تمهيدا لعرض اقتراحات تلك الدول قبل «مؤتمر الذكاء الاصطناعي العالمي الثاني» في عام 2025. وفي أغسطس، استضافت «النسخة الرابعة من المنتدى العربي للذكاء الاصطناعي»؛ مما يعكس اهتمامها الكبير بتعزيز هذه التكنولوجيا في المنطقة.
واستعدادًا للدور المتزايد للذكاء الاصطناعي في أماكن العمل، اتخذت «المملكة»، خطوات ملحوظة لتحسين قدرات القوى العاملة على استخدام هذه التكنولوجيا، من خلال التعليم، والمؤهلات المهنية، حيث تعاون صندوق العمل «تمكين»، مع «مايكروسوفت»، و«بوليتكنك البحرين»، لإطلاق «أكاديمية الذكاء الاصطناعي»، التي تقدم شهادات مهنية للخريجين، في حين تعاونت «جامعة البحرين»، و«تمكين»، مع «أمازون ويب سيرفيسز» (AWS)؛ لتأسيس «مركز الابتكار السحابي»، الذي تضمنت مشروعاته تطبيق الذكاء الاصطناعي في مجالات مختلفة، مثل (تحسين تخصيص الموارد في المطارات، ومراقبة أمراض النباتات، ودعم مهام وزارة الأشغال وشؤون البلديات، والتخطيط العمراني، باستخدام روبوت محادثة مخصص). وفي «منتدى الاستثمار في الخليج»، نوفمبر 2024، أعلن «تمكين»، تعاونا جديدا مع «أمازون ويب سيرفيسز»، وهو برنامج وطني لتأهيل القدرات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي.
ووفقا لـ«ستودر»، فإن الذكاء الاصطناعي، إذا تم استخدامه بحكمة، يمكن أن يكون أداة قوية لتحسين الأداء في مختلف القطاعات. ولإطلاق إمكانياته بالكامل، يجب على الحكومات والشركات، توفير التدريب والبروتوكولات اللازمة، لضمان استعداد القوى العاملة لمستقبل يعتمد بشكل أكبر على هذه التكنولوجيا.
ومن الواضح أن هذه العملية جارية بالفعل في البحرين، التي تتخذ خطوات متقدمة في دمج الذكاء الاصطناعي في مسائل الخدمات المصرفية، والتكنولوجيا المالية، والأمن القومي، والزراعة، وتخطيط المدن، من بين أمور أخرى. ومع وضع أساس تنظيمي قوي، أشارت «نصر الدين»، و«ستروكمان»، إلى أنها «لا تلعب دورًا رائدًا» في تنظيم الذكاء الاصطناعي فحسب؛ بل إنها «تحدد قواعد اللعبة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا»، بطريقة لن تؤدي، إلا إلى ترسيخ مكانتها، باعتبارها «مركزًا للتكنولوجيا المالية في المنطقة» وبالتالي المساعدة في تسهيل المزيد من الابتكار، والنمو الاقتصادي في السنوات القادمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك