باختصار فإن صناعة المبادرة تعني: مجموعة من الإجراءات أو الأنشطة التي يقوم بها فرد أو مجموعة من الأفراد بهدف التصدي لحل مشكلة ما أو تطوير وضع ما من أجل حياة أفضل، وذلك من خلال استخدام أساليب علمية منهجية متنوعة تساعد في بلورة الصورة التي ستكون عليها المبادرة، بما في ذلك تخصيص الموارد المالية والفنية، والخبرات ونحو ذلك.
يقول ستيفن كوفي في كتابه (العادات السبعة للناس الأكثر فعالية): «إنها تعني أننا كبشر مسؤولون عن حياتنا، تعني أن سلوكنا هو نتاج قراراتنا وليس ظروفنا، فنحن نستطيع أن نضع المشاعر في مرتبة أدنى من القيم، إننا نمتلك حس المبادرة والمسؤولية التي تمكننا من تحقيق ما نريد». وعندما يتحدث كوفي عند العادة الأولى (كن مبادرًا) فإنه يضع خريطة إذ يضع (المبادرة) أو ما يطلق عليه أيضًا (حرية الاختيار) بين المحفز والاستجابة، وعندما يكون موقع الإنسان بين المثير والاستجابة فإن حرية الاختيار تصنع مبادرة –بطريقة أو بأخرى– وذلك من خلال الإرادة المستقلة، والضمير، والخيال، والإدراك الذاتي.
وهذا يعني ببساطة أنه عندما يجد الإنسان نفسه بين بعض الضغوطات وربما الحاجة أو الظروف الخارجية المحيطة فإنه في كثير من الأحيان يكون مضطرًا إلى أن يسلك بعض الطرق التي لم يمكن ليسير فيها من قبل، وربما تكون هذه الطرق سلبية أو إيجابية، فإن كانت سلبية فإنها تورد المرء موارد الهلاك، وإن كانت إيجابية فإنها تعد (مبادرة)، يمكن أن تسهم في تطوير ذاته أو أسرته أو مجتمعه.
ذات يوم كنت في دورة تدريبية حول موضع (تطوير المبادرات من خلال تحقيق أهداف التنمية المستدامة) في دولة من الدول الشقيقة، وأثناء تحدثنا عن المبادرات وكيفية تكوينها وتطويرها وتنميتها حتى تصل إلى مرحلة التنفيذ، روت لي إحدى المتدربات قصة مبادرة شاهدتها في الدولة التي تعيش فيها، وهي كالتالي:
سيدة أمية في قرية شبه منعزلة، هذه السيدة وجدت أن الأمية منتشرة في القرية التي تعيش فيها، فأصبحت تحت تأثير محفز ومثير، فكرت في كيفية الخروج من هذا المأزق، وهذه المشكلة، على الرغم من أنه ليس لديها المال الكافي لتتبرع وتبني مدارس أو تجلب مدرسين وما إلى ذلك.
قامت السيدة في التفكير في قدراتها ومهارات الشخصية وإمكانياتها، فوجدت أنها لا تمتلك إلا القدرة على الطبخ، ففكرت كثيرًا في إمكانية الاستفادة من هذه المهارة، فقالت في نفسها: «هل يمكن أن أصنع وجبات غذائية وأبيعها ومن ريعها أحاول أن أتبنى بعض الأطفال ليخرجوا من تحت عباءة الجهل والأمية؟».
وبالفعل، بدأت مشروعها وحدها وكان الأمر مستهجنًا في بادئ الأمر وخاصة في منطقة منعزلة، إذ إن كل نساء القرية يطبخون ويتناولون أكلهم التي من صنع أيديهن، إلا أن فكرة المشروع بدأت تنتشر، ومع الأيام استحسن عدد من الفتيات وخاصة اللاتي من فئة الشباب الفكرة، وبدأت تسهم في تنمية المشروع أو بالأحرى المبادرة، وبدأ ريع المشروع يتزايد ويتضاعف، وأعداد الفتيات اللاتي يقمن بالطبخ يزيد، وكان ريع المشروع أو المبادرة – كله – يذهب إلى مشروع التعليم والتدريس وبناء مدرسة، وكان أهالي القرية يجلبون المواد الخام للطبخ، وبعد سنوات تضاعف عدد المتعلمين والمعلمين في القرية نتيجة هذا المشروع الذي بدأ بمبادرة صغيرة وفي ذات يوم في سنة 2017 نالت تلك السيدة صاحبة المبادرة جائزة الدولة للعمل التطوعي. انتهى.
فالمبادرة عادة ما تكون عملا ينبع من طبيعة الإنسان، وعندما تخضع تلك الطبيعة لبعض المؤثرات الخارجية فإن ذلك الإنسان – سواء كان برغبته أو مضطرًا – سيلجأ إلى زيادة تلك القوة التي في نفسه لتتحول تلك الأمور إلى صناعة مبادرة ذات فائدة تنعكس عليه وعلى مجتمعه.
وقد يتساءل بعضنا عن رغبته في عمل مبادرة، ولكن كيف يمكنه ذلك، بمعنى ما الخطوات التي يمكن اتباعها في عمل مبادرة؟ ويمكن أن نقول إنه يمكن اتباع الخطوات التالية:
1- مرحلة التفكير وتصميم ودراسة المبادرة؛ وهذه المرحلة لا بد وأن نجالس ونعايش المجتمع، وندرس المشاكل التي يعاني منها المجتمع، سواء الأفراد أو المجتمع كله كوحدة متكاملة، فلنفترض أننا أمام قضايا تحتاج إلى التفكير فيها، نأخذ تلك القضايا ونكتبها على ورقة، كل قضية على ورقة مستقلة. وبعد ذلك نأتي على كل مشكلة أو قضية ونخضعها لأدوات التفكير الإبداعي والابتكاري، مرة ومرات، حتى نجد أنفسنا قد وضعها مسودة أو الخطوط العريضة لحل – لنقل – 3 مشكلات فقط، أما البقية فلم نتمكن من دراستها أو وضع الحلول لها.
2- إعادة الدراسة؛ نعيد دراسة المشاكل الثلاث التي تم التمكن من وضع الحلول الناجعة لها، نعيد دراستها مرة ومرات، وخاصة إن كنا فريق العمل، حتى نصل إلى مرحلة الارتياح.
3- دراسة المشاكل والحلول؛ نأتي إلى مرحلة دراسة تلك المشاكل ووضع الحلول والمبادرات التي تسهم في حلها وإدارتها، بكل الطرق التي وجدناها. ونضع لكل مشكلة ملفا متكاملا وتفصيليا.
4- البحث عن الموارد؛ بعد أن تم الاستقرار والاتفاق على المبادرات لحل كل مشكلة أو موضوع، نأتي إلى مرحلة البحث عن تمويل للمشروع، ودراسة الإمكانيات المادية والبشرية التي يمكن أن تتوفر لتنفيذ المشروع، ليس الدراسة فقط وإنما استملاك كل تلك الموارد بقدر الإمكان.
5- مرحلة التنفيذ؛ وبعد أن نستكمل كل تلك الموارد وتلك المشاريع، نبدأ في مرحلة التنفيذ، وهذه المرحلة طويلة وتحتاج إلى صبر كبير، إذ إنه من الممكن أن تواجهنا الكثير من المصاعب والمشكلات، وربما تصل في بعض الأحيان إلى الإحباط والحزن، لذلك من الضروري على أصحاب المبادرة أن يتحلوا بفضيلة الصبر والتعاون حتى يمكن اجتياز كل تلك العوائق التي قد لا تكون في الحسبان.
6- النهاية؛ في النهاية تصبح المبادرة واضحة للعيان، والكل يشير إليها باستحسان، وخاصة إن كانت المبادرة مجتمعية وتستحق الثناء.
7- التقييم والتقويم؛ ويجب ألا ننسى أنه في كل مراحل التفكير والدراسة والتنفيذ أن نقيّم ونقوّم كل تلك الخطوات، فإن وجدناها تسير وفق المخطط فهذا أمر جيد، وإلا فإننا نحتاج إلى العودة إلى الطريق الصحيح الذي وضع منذ المراحل الأولى.
والمبادرة وهي العادة الأولى في كتاب العادات السبعة للناس الأكثر فعالية، هي عادة ما تكون مرتبطة بالشخصية، فهي تساعد صاحبها على تحقيق أهدافه اليومية، وهذا يحقق له الاستقلالية والاعتماد على الذات بصورة كبيرة. وهذه الصفة هي التي تنمي عند الشخص خاصية تحمُّل نتيجة قراراته تجاه الأحداث والمواقف والمشاهد التي تمر كشخصٍ معنيٍّ بالقرار لكي يستثمرها، فتكون وسيلة يندفع بها إلى الأمام وليس العكس.
وبالعودة إلى التاريخ العربي الإسلامي، يمكننا أن نلاحظ أن المبادرة كانت برنامجًا أساسيًا في هدي النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان – في بداية الدعوة – يذهب بنفسه إلى وفود الحجاج والقبائل ليعرض عليها الإسلام، ولم يكن يجلس في مكان واحد ويتوقع أن يأتي إليه الناس، ولم يكن يكتفي بأن يرسلَ الصحابةَ يمينًا ويسارًا بينما كان يجلس هو ويأخذ موقف المتفرج، وإنما كان مبادرًا للعمل على ذلك. ولهذا كان الدين الإسلامي دين دعوة الناس إلى الحق والتحرك إليهم وعدم الجلوس والانتظار، فقد قال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل – الآية 125 (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
ومن تطبيقات فكرة المبادرة في علم التنمية البشرية في هذا الركن النص التالي: حاول مدة ثلاثين يومًا أن تعمل في دائرة التأثير، أي: في حدود إمكاناتك واستطاعتك، حافظ على مواعيدك، كن جزءًا من الحلِّ لا جزءًا من المشكلة، وبعد تلك الفترة ستكون المبادرة جزءًا من حياتك، لذلك عليك أن تنتقل إلى مبادرة جديدة.
ويمكن الملاحظة أن هذه الفكرة تتوافق بصورة تامة لما جاء بقوله تعالى في سورة الأعراف – الآيات 29 و30 إذ يقول تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، وغير ذلك فإن شهر رمضان وهو شهر عبادة توقيفية نجد بين طياتها أمورًا تربويةً في الصبر والطاعة وتهذيب النفس وتربيتها فلم يكن من المجازفات على الإطلاق أن يكون طول فترة الصيام 29 - 30 يومًا.
ومنطق (المبادرة) تذكرنا بمبادرة ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، والتي تهدف إلى تحفيز الإبداع والابتكار لدى موظفي القطاع الحكومي أو الشركات الحكومية وإتاحة الفرصة أمامهم للتنافس في تقديم مقترحات فاعلة للارتقاء بمستوى الأداء الحكومي، علمًا بأن كل الأفكار والمقترحات يجب أن تتماشى مع الرؤية الاقتصادية 2030 وأهداف التنمية المستدامة.
برنامج (فكرة) عمل جيد، إذ إنها تنمي عند الشباب والموظفين الرغبة في المساهمة في الإبداع والابتكار، وهذا ما لمسته بوضوح من خلال اندفاع الشباب للمساهمة فيها، وذلك من خلال اتصال مجموعة من الشباب من الجنسين الراغبين في المشاركة، إذ كانوا يريدون رأيا في أفكارهم وتطويرها وتنميتها، ومن ثم الاشتراك في البرنامج، وهذه المشاركات في حد ذاتها عمل إيجابي، نرجو أن تنتج منه أعمال كبيرة تسير وفق خطة البحرين وكيفية تطويرها. وفي رأيي المتواضع فإن برنامج (فكرة) هو فكرة رائعة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك