قبل قرن من الزمان، أي في تلك الفترة التاريخية التي كانت فيها القوى الأوروبية الغربية تخطط لتقسيم الشرق العربي، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية إقناع تلك القوى الاستعمارية الغربية باتخاذ مسار آخر مختلف.
ودعماً لذلك الاعتقاد القائل بأن الشعوب التي تحررت مؤخراً من الحكم الاستعماري ينبغي أن يكون لها الحق في تقرير المصير، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية لجنة من الأمريكيين البارزين لاستطلاع الرأي العام العربي لاكتشاف ما فعلوه وما لا يريدونه لمستقبلهم.
وقد خلصت تلك اللجنة إلى أن الأغلبية الساحقة من العرب ترفض تقسيم منطقتهم أو تقاسمها، كما ترفض الانتداب الأوروبي عليهم، وإقامة دولة صهيونية في فلسطين، حيث إنهم كانوا يأملون إقامة دولة عربية موحدة.
كما حذر تقرير تلك اللجنة من تفاقم الصراع إذا تم المضي قدمًا في التقسيم المخطط له. لابد من الإشارة هنا إلى أن اللورد البريطاني بلفور قد رفض تلك النتائج قائلاً إن مواقف السكان العرب الأصليين لا تعني الكثير بالنسبة إليه، خاصة عند مقارنتها بأهمية الحركة الصهيونية.
وفي نهاية المطاف، نجح اللورد بلفور في تحقيق مراده، وتحققت تلك التوقعات والنتائج الوخيمة التي حذرت منها تلك اللجنة الأمريكية. تم تقسيم الشرق العربي وتمزيق أوصاله، كما تم فرض الانتداب البريطاني على فلسطين، وقد استغل البريطانيون وضع الانتداب لتعزيز حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين مما أدى إلى قيام إسرائيل.
ومنذ ذلك الحين، تم تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم وانتزاع أراضيهم وتدمير مساكنهم وقراهم وتشريدهم وتعريضهم للعنف والتنكيل المتواصل. ولأن الفلسطينيين قد ظلوا يقاومون، فقد كان القرن الماضي بمثابة صراع مستمر بلغ ذروته في الإبادة الجماعية التي تدور رحاها الآن في قطاع غزة، وما يتعرض له الفلسطينيون في الضفة الغربية من قمع وتنكيل.
ومما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية قد تفاقمت معاناته في الوقت الحاضر لأن الفلسطينيين قد فقدوا على مدى العقود الثلاثة الماضية كل سيطرة على ظروف حياتهم.
وما زاد من تدهور أوضاع الشعب الفلسطيني وتفاقم معاناته أن إسرائيل قد ظلت منذ التوقيع على اتفاقيات أوسلو في سنة 1993، تتخذ خطوات وتطبيق خطط واستراتيجيات جعلت من المستحيل إقامة دولة فلسطينية موحدة في الأراضي التي احتلتها عام 1967.
لقد فصل الإسرائيليون ما يسمونه القدس الشرقية عن بقية الضفة الغربية، مما ألحق ضررا كبيرا باقتصادها وأجبر سكانها على الاعتماد كليا على إسرائيل في التوظيف والخدمات.
وفي الضفة الغربية، ظل الإسرائيليون يضعون الخطط ويصادرون الأراضي لتوسيع المستوطنات واستخدام الطرق والبنية التحتية ونقاط التفتيش والمناطق الأمنية «لليهود فقط» لتقسيم الأراضي الفلسطينية إلى مناطق صغيرة خاضعة للسيطرة. لقد عانى قطاع غزة من تراجع التنمية وظل يخضع لتضييق الخناق على اقتصاده على مدى عقود من الزمن. لقد ظل قطاع غزة أيضا معزولا عن بقية فلسطين، وهو ما أدى إلى تبديد وتحطيم كل تلك الآمال والأحلام التي ولدها اتفاق أوسلو.
ومع ذلك، فإن العالم الغربي لا يولي سوى القليل من الاهتمام لاحتياجات وتطلعات الشعب الفلسطيني. وبدلاً من ذلك، يتم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية طرح خطط لحكم مستقبل الفلسطينيين دون موافقة هذا الشعب الذي يخضع تحت نير الاحتلال.
يقضي الاقتراح المطروح الآن بأن تتولى سلطة فلسطينية «بعد إصلاحها»، شؤون قطاع غزة مع توفير الأمن بواسطة قوة عربية إسلامية، دون وجود أي التزام بالتفاوض على حل الدولتين في المستقبل.
إن مثل هذا الاقتراح غير مقبول لسببين.
من الواضح أن هذا الاقتراح قد وضع خصيصا لتلبية احتياجات إسرائيل، فقد رفض الإسرائيليون أنفسهم شروط مفهوم «اليوم التالي». إنهم يرفضون مغادرة غزة أو السماح للفلسطينيين بالعودة إلى مناطق غزة التي تم «تطهيرهم» منها.
كما يرفض الإسرائيليون أيضًا دور القوى الخارجية في توفير الأمن، مثلما أنهم يرفضون قبول أي نقاش حول دولة فلسطينية يتضمن ربط المناطق الفلسطينية المقسمة، وخاصة إذا كان ذلك يتضمن التنازل عن الأراضي، أو إجلاء المستوطنين، أو التنازل عن السيطرة الأمنية، أو توسيع دور السلطة الفلسطينية.
والأهم من ذلك أن خطط «اليوم التالي» لم تأخذ في اعتبارها وجهات نظر الشعب الفلسطيني.
وبدلاً من إعطاء الأولوية لما تريده أو تطلبه إسرائيل (أو الولايات المتحدة الأمريكية) وفرض خطط على الفلسطينيين لتلبية احتياجات إسرائيل الأمنية، هناك حاجة إلى التحول نحو نهج يتحدى تلك السياسات الإسرائيلية التي أدت إلى تهجير الفلسطينيين وغضبهم؛ وتشويه التنمية السياسية والاقتصادية الفلسطينية؛ وجعل من المستحيل بناء مؤسسات فلسطينية قادرة على كسب الاحترام.
لابد من البدء بالمطالبة بوقف إطلاق النار وإنهاء الاحتلال الجاثم على رقاب الشعب الفلسطيني، كما يجب الاستماع إلى وجهات النظر الفلسطينية، وتحميل إسرائيل المسؤولية عن سياساتها التي خلقت هذه الفوضى، وليس الضحايا.
وهناك بعض العلامات المشجعة التي تشير إلى أن الرأي العام في الولايات المتحدة يتحول في اتجاه أكثر تأييداً للفلسطينيين. فالأمريكيون أصبحوا أكثر دعماً للفلسطينيين، وأكثر معارضة للسياسات الإسرائيلية التي تنتهك الحقوق الفلسطينية.
لقد أصبح الأمريكيون أيضا أكثر تقبلا لتغيير السياسات التي من شأنها أن تساعد الفلسطينيين. لكن هذه هي النقطة التي يتعثر عتدها الحوار، وذلك على وجه التحديد لأنه لا توجد رؤية فلسطينية واضحة للمستقبل ولا توجد قيادة يمكنها التعبير عنها.
وبناء على هذا الوضع فقد قامت مجموعة من رجال الأعمال الفلسطينيين بتكليف مؤسسة زغبي للأبحاث بقياس تأثير السياسات الإسرائيلية في غزة، والتهديدات التي تواجه تلك التجمعات السكانية الموجودة في الضفة الغربية، وسؤال الفلسطينيين عما يعتبرونه أفضل طريق للمضي قدمًا لنيل حقوقهم وكرامتهم وتحقيق السلام.
لقد أظهرت نتائج الاستطلاع أنه على الرغم من الظروف المختلفة التي فرضها الإسرائيليون على الفلسطينيين في كل من المناطق الثلاث الخاضعة لسيطرتهم، لا تزال هناك خيوط مشتركة للهوية والرغبة في الحرية والوحدة التي لا تزال تربطهم ببعضهم البعض.
إن ما يريده الشعب الفلسطيني هو أن تنهي إسرائيل احتلالها الجاثم على حياتهم حتى يتمكنوا أخيرًا من الحصول على الحرية والاستقلال في أرض خاصة بهم.
وبما أنهم فقدوا الثقة، بدرجات متفاوتة، في أداء السلطة الفلسطينية وحماس، فإنهم يفضلون إجراء استفتاء شعبي لانتخاب جيل جديد من الزعامات القادرة على تقديم رؤية جديدة لفلسطين؛ وتوحيد الصف الفلسطيني لتشكيل حكومة فاعلة قادرة على كسب الاحترام والاعتراف؛ مع الاستمرار في محاسبة إسرائيل على جرائمها في الهيئات الدولية.
وبطبيعة الحال، يجب تطوير كل هذا بشكل أكبر، لأنه يظل يمثل المسار الأفضل الذي يجب اتباعه على وجه التحديد، وبدلا من الاستمرار في فرض «الحلول» على الفلسطينيين، فإنه يجب سؤالهم عما يريدون، والاستماع إلى ما يرغبون به ويتطلعون إليه.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك