يقول الله سبحانه وتعالى: «ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون»!
قد يتحول البلاء المقدر لأي إنسان إلى منحة ووسيلة لدفع عجلة التغيير والتطوير والارتقاء بداخله ولرفع درجاته انطلاقا من قناعته بأن الخالق أوجد المحن للاختبار، وهذا ما حدث مع هذه المرأة الحالمة الصبورة المثابرة، التي صنعت من محنة استشهاد والدها منحة جعلتها أكثر نضجا وأقوى إصرارا على مواصلة المسيرة بكل صمود وصلابة، حتى تركت بصمة خاصة بها في عالم النساء المتميزات.
شيرين خليل الساعاتي، المدير التنفيذي لغرفة التجارة الأمريكية، عضو فريق خبراء العدالة الجنائية بالبحرين، خبير ومدرب معتمد من الأمم المتحدة في مكافحة الاتجار بالبشر، أسست أول مركز حماية للعمالة الوافدة ونظام الإحالة الوطني الرقمي لضحايا الاتجار بالأشخاص بالمنطقة، آمنت بأن القوة الحقيقية تأتي من إرادة لا تقهر، لذلك قررت أن تعبر محطات العثرات والصدمات والمطبات بسلام وبمنتهي التصالح مع النفس، فسطرت مشوارا ثريا مليئا بالعطاءات والكفاحات والنجاحات استحق التوقف عند أهم محطاته في الحوار التالي:
حدثينا عن طفولتك؟
لقد كنت الابنة الكبرى في أسرتي، وكان والدي يعمل ضابط شرطة في وزارة الداخلية، ولا أفارقه معظم الأوقات وأتابع عمله بشغف شديد بصورة مستمرة، الأمر الذي ولد بداخلي رغبة في الدفاع عن الآخرين، وفي العمل على مساعدتهم، وهو ما أثر على مسيرتي لاحقا، وكانت لي هوايات متعددة منها عزف الموسيقى والعمل الاجتماعي والمشاركة في مختلف الفعاليات والأنشطة داخل المدرسة، وكانت والدتي تشجعني على ذلك وتحفزني على القيام بدوري الاجتماعي، لذلك لم أهتم كثيرا بتحقيق التفوق الدراسي بل كان تركيزي الأساسي على حجم العطاء وعلى الأثر الذي أتركه في حياة الآخرين إلى أن حدثت أهم نقلة في حياتي.
وما تلك النقلة؟
يمكن القول بأن استشهاد والدي عام 1997 مثل أهم نقلة في حياتي وكان ذلك خلال عام تخرجي من الثانوية العامة، وكنت قد اقنعته رحمه الله بالدراسة خارج البحرين في مرحلة الجامعة وحصلت بالفعل على موافقته، ولكن بعد فقدانه شعرت بمسؤولية كبرى تجاه عائلتي التي تضم خمس أخوات وأخا، فاخترت بمحض إرادتي البقاء في البحرين، وسعيت جاهدة لتخليد اسم والدي الذي كان غيابه حافزا كبيرا لنا جميعا للتميز ولمواصلة المشوار بكل إصرار وقوة، وذلك هو الوجه الإيجابي لأي محنة قد يتعرض لها الإنسان.
كيف تجاوزتِ تلك المحنة؟
لم أشعر قط بأي نوع من التضحية أو عدم الرضا وتقبلت الواقع وتعلمت التعايش مع محنة الفقد وصنعت منها منحة جعلتني اشعر بالنضج والمسؤولية مبكرا، فأصبحت أكثر قوة وإيمان، والتحقت بجامعة البحرين واخترت دراسة تخصص الخدمة الاجتماعية، ولكني شعرت مع الوقت بان تلك المناهج الكلاسيكية التقليدية لا تشبع طموحي العلمي، فغيرت مساري وتوجهت إلى تخصص الإعلام والعلاقات العامة.
أول محطة عملية؟
أول محطة عملية لي كانت في شركة ميكروسوفت، وكانت مهمتي الأولى التركيز على توعية المؤسسات بحقوق الملكية الفكرية، ثم انتقلت إلى مجلس التنمية الاقتصادية خلال فترة تنفيذ المشاريع الإصلاحية الوطنية وصياغة رؤية البحرين الاقتصادية 2030، ثم تزوجت عند عمر ثلاثين عاما، ووضعت أسرتي في قمة أولوياتي، بعدها بدأت مرحلة جديدة في مسيرتي.
طبيعة تلك المرحلة؟
لقد شعرت بأن هناك دورا آخر غير الأسري يناديني، وخاصة أن دعائي الدائم كان «اللهم اجعلني أداة لسلامك في الأرض»، وبالفعل التحقت بهيئة تنظيم سوق العمل وأصبحت جزءا من منظومة حكومية تعمل بشكل مؤسسي لتعزيز آليات حماية الحقوق في اطار رؤية البحرين لتعزيز حقوق الانسان، ورغم عدم تحمسي في البداية إلا أنني في فترة وجيزة أدركت أن الله سبحانه وتعالى اختار لي المكان والوقت الصحيحين، وتعمقت في أوضاع وقصص العمالة الوافدة وكيفية استغلالها في بيئة العمل، وهنا بدأ مشواري في إحداث التغيير الإيجابي في حياة الآخرين، وكم كنت سعيدة بهذا الدور الذي أنجزت من خلاله الكثير.
أهم الإنجازات؟
من أهم الإنجازات التي أشعرتني بالفخر والاعتزاز تأسيس مركز حماية العمالة الوافدة المعتمد من الأمم المتحدة في عام 2016، وكذلك إنشاء نظام الإحالة الوطني الرقمي لضحايا الاتجار بالبشر، ولله الحمد كنت جزءا من المنظومة التي أسهمت في الارتقاء بتصنيف مملكة البحرين إلى المركز الأول في تقرير وزارة الخارجية الأمريكية الخاص بتقييم جهود الدول في هذا المجال لسبع سنوات متتالية، هذا فضلا عن دوري التدريبي والاستشاري والذي منحني فرصة مساعدة دول المنطقة علي استحداث أنظمة مكافحة الاتجار بالبشر، ثم بدأت مرحلة جديدة في مسيرتي بعد تقاعدي.
وماذا بعد التقاعد؟
بعد التقاعد شعرت بداخلي بأن هناك دورا آخر ينتظرني انطلاقا من علاقتي القوية بذاتي، وكأن هناك بوصلة داخلية توجهني دائما إلى الطريق السديد، فأنا أجد دائما عقلي يكمن في قلبي، وبعد أن يسر لي الخالق خطوة التقاعد من المنصب، إلا أن طموحي العملي ظل مستمرا، وبالفعل تلقيت عرضا من غرفة التجارة الامريكية في المملكة وتم تعييني في منصب المدير التنفيذي، وهو ما يتلاءم مع الخلفية التي أتمتع بها، وكذلك عبر تعاملي مع جهات دولية في هذا الشأن ومنها الحكومة الأمريكية، الأمر الذي ساعدني على القيام بنفس الدور السابق وإن كان مختلفا في ديناميكيته، وشعرت حينئذ بان رسالتي مستمرة ولم تنته بل توسعت.
كيف؟
الآن ومن خلال موقعي كمدير تنفيذي لغرفة التجارة الأمريكية في البحرين أسعى لتحفيز الشركات على أداء دورها كجزء من المجتمع واعتبارها شريكا في حماية حقوق الإنسان وتعزيز النمو والازدهار، ومن ثم دعم المبادئ الإنسانية في هذا المجال وتعزيز سياسات العمل الإيجابية من خلال القطاع الخاص وبناء شراكة بينه وبين القطاع الحكومي في ذلك.
إلى أي مدى تتوافر ثقافة حقوق الإنسان في مجتمعنا؟
لا شك أن حقوق الإنسان متجذرة في قيمنا الدينية والاجتماعية في مجتمعاتنا العربية بشكل عام لازالت بحاجة إلى نشر وتعزيز هذه الثقافة للوصول إلى الدرجة المطلوبة، وهنا يجب التأكيد على مدى الحاجة إلى إدخال الجانب العملي ذلك ضمن المناهج الدراسية في المراحل العمرية المبكرة، وذلك للتعامل مع بعض العادات والعقليات المتوارثة السلبية في هذا الشأن التي نشأنا عليها، هذا فضلا عن أهمية التعاون مع البلدان المصدرة للعمالة في هذا الشأن والتي يبدأ استغلالها من هناك، وبمعني آخر التركيز على ما يسمى التوظيف الأخلاقي.
أصعب محنة؟
من المؤكد أن محنة استشهاد والدي من أشد الازمات التي مرت بي، والتي جعلتني أعيش دورا أكبر من عمري، ومع ذلك يمكن القول بأنني ممتنة لهذا الشيء الذي جعلني أحب نفسي التي أراها اليوم، فالحياة لا تنتظر أحدا ولا تتوقف عنده، وليس للإنسان إلا ما سعى، وأنا على قناعة بأنني لم أخلق عبثا، وأن هناك أدوارا كتبها لي الله سبحانه وتعالي لتأديتها، كما أنني أسعى دائما أن أكون في قمة هرم الاحتياجات الإنسانية عبر ترك الأثر الطيب الممتد.
أهم قيمة غرستها في نفوس أبنائك؟
من المبادئ المهمة التي أحاول دوما غرسها في نفوس أبنائي أن العطاء والانجاز ومن ثم الأثر الإيجابي له الأولوية على التفوق الدراسي، وشخصيا أعيد تربية نفسي واكتشافها من جديد من خلالهم، ودائما انصحهم بان يعيشوا الحياة بعفوية وبصدق، وعلى الآباء اليوم مسؤولية كبرى تجاه الجيل الجديد المختلف تماما عن الأجيال السابقة، وأن يتعايشوا معهم ومع واقعهم بكل رضا وتقبل.
درس علمتك إياه الحياة؟
أهم درس تعلمته في مدرسة الحياة هو أن النية الطيبة واتصالك بنفسك وبخالقك هي الطريق الذي يوصلك إلى المكان الذي ترغب فيه، المهم توافر السعي والإرادة حتى حين لا تتحقق بعض أحلامي بصورتها المادية أدرك بأن هذا من حسن تدبير الخالق لي.
كلمة شكر؟
مما لا شك فيه أن هناك كثيرين وراء ما حققته اليوم، فإلى جانب عائلتي والأهل، أود هنا توجيه الشكر والامتنان إلى معالي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة الرئيس التنفيذي لمجلس التنمية الاقتصادية سابقا، وإلى سعادة السيد أسامة العبسي رئيس هيئة تنظيم سوق العمل سابقا، لما لاقيته منهما من دعم وتشجيع ومؤازرة، الأمر الذي أسهم في استكمال المسيرة بكل توفيق ونجاح.
رسالة للمرأة؟
الأنثى بطبعها خلاقة، وذات تأثير كبير على من حولها، ورسالتي لأي امرأة هي ضرورة أن تفرق بين أنوثتها وتمكينها، وأن تعلم بأن قوتها في الإبقاء على الفطرة التي خلقت عليها، لذلك لا بد من إحداث التوازن بين هذين الشيئين، وأن ترفض عملية تبادل الأدوار بينها وبين الرجل، فلكل منهما دوره الذي خلق له.
طموحك القادم؟
أتمنى الانغماس والتعمق في نفسي أكثر، ومواصلة دوري العملي والإنساني بنفس القوة والثبات، وتحقيق المزيد من الإنجازات التي تنعكس إيجابا على حياة من حولي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك