حاصر جيش كبير من جيوش الردة – وصفه بعض الرواة أنه كالجبال يمور مورًا – الجيش الإسلامي الذي كان بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه ذات يوم في إحدى معارك حروب الردة، كما تروي بعض كتب التاريخ الإسلامي، وفي ذلك الموقع وفي تلك اللحظة كان يحيط بالجيش الإسلامي بالإضافة إلى الجيش المرتد جبال شاهقة، وكانت تعرف بجبل (أجا) وجبل (سلمى)، فأصبح الجيش الإسلامي بين فكي كماشة، ولا فرار، إما إلى الموت أو الموت، ولا ثالث للوضع الذي هم فيه.
فذهب أحد الجند إلى سيف الله المسلول رضي الله عنه الذي لم يهزم قط، فقال له: يا خالد، إلى أين المفر والملجأ؟ هل إلى سلمى (ويقصد الجبل) أو إلى أجا؟
تقول كتب السير إنه في تلك اللحظة دمعت عينا خالد رضي الله عنه، ليس خوفًا من الموقف، وإنما على هذا الرجل السائل، فهو لم يعد إلى أصل النصر وعقيدة الشهادة في الإسلام وإنما فكر بعقله المادي في تلك اللحظة، إذ وجد أنه لا يمكن الفرار أو النصر، وإنما يمكنهم فقط أن ينجوا بحياتهم عندما يلجؤون إلى الجبال فرارًا من المعركة ومن القتل، لذلك قال خالد بكل عزم وإيمان وثقة بالله سبحانه: إنما ننتصر عليهم بهذا الدين، لا إلى سلمى ولا إلى أجا، ولكن إلى الله الملتجى.
نحسب أن هذه العقيدة وهذا الإيمان لازمت سيف الله رضي الله عنه طوال حياته ومعاركه، ففي معركة مؤتة مثلاً كما تروي كتب السير، أنه عندما استشهد القادة الثلاثة الذين عينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة على التوالي رضي الله عنهم أجمعين)، وجد ابن الوليد رضي الله عنه أن جيش المسلمين أمام معضلة، إما أن يلقي به في أتون نار المعركة التي لا تبقي ولا تذر، وإما أن ينسحب بخطة ذكية لا تقلل من شأن الجيش الإسلامي بشيء، فكانت خطة الانسحاب من الخطط الذكية جدًا التي أذهلت الروم وما زالت تذهلهم حتى يومنا هذا، فقد خرج الجيش الإسلامي بأقل الخسائر الممكنة، ولكن يبقى السؤال الذي من المفروض أن يطرح؛ من يتخذ قرار الاستمرار أو الانسحاب؟ هل من يجلس في غرف مكيفة ويشاهد المعركة خلف الشاشات الملونة أم من يجالد في ميدان المعركة ويستطيع أن يقوم بحساباته ويقدر مراكز ونقاط قوته ومراكز ونقاط ضعف العدو وقوته؟ حتمًا نعرف الإجابة، ومن هذا المنطلق نعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه القائد العام للدولة الإسلامية فهِم ما قام به خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقال عن الجيش كله: «لَيْسُوا بِالْفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، ثم أطلق على خالد رضي الله عنه لقب سيف الله المسلول.
وقد يجد البعض، وخاصة الذين ينظرون إلى الإسلام ومعاركه في نشر الدعوة بمنظار علماني مادي بحت أن الانسحاب في مؤتة يناقض فكرة وعقيدة (إلى الله الملتجى)، يمكننا أن نجيب ونقول إن هذا التناقض يمكن أن يكون في فكرهم المادي فقط، فالفكر الإسلامي في الجهاد يعتمد على فكرة أنه لا يبدأ التنفيذ قبل أن يتم الاستعداد بما يمكن من قوة، فليس المطلوب من المسلم أن يعد ويستعد ويفكر ويؤجل ويناقش ويتردد ويتخاذل ويحبط مرة ويتراجع مرات، ويردد «أنه لا يمكن الانتصار في ظل هذه الظروف غير المواتية، فالعدو يمتلك من السلاح والعتاد ما لا قبل لنا به»، وإنما عليه أن يستعد ويتوكل على الله سبحانه وتعالى وحينئذ هو الملجأ والمنتصر، وهذا مصداقًا لقوله تعالى في الآية الكريمة في سورة الأنفال – الآية 60 (وَأعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إليْكُمْ وَأنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)، والقوة هنا كل ما يخطر على البال، مثل: القوة التقنية، والنفسية، والإيمانية والروحانية والعقلية وكل شيء، وبعد ذلك تأتي القوة العسكرية والسلاح وما إلى ذلك.
(إلى الله الملتجى) كان هو نفسه مبدأ وموقف السيدة هاجر والدة سيدنا إسماعيل عليهما السلام، وكلنا نعرف تلك القصة، عندما أخذهم رسول الله سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فتركهما في مكانٍ لا ماء فيه ولا طعام، ثمّ رجع والحزن يتفطر في قلبه عليهما إلى فلسطين، ويجب ألا نتصور أن مثل هذه العملية سهلة وبسيطة، فأن يترك المرء ابنه البكر في مثل هذا المكان حيث لا مكان وطعام ولا ماء ولا حتى شجر، وإنما صحراء ورمال مترامية الأطراف، إلا أن مبدأ (إلى الله الملتجى) كانت واضحة في ذهن سيدنا إبراهيم عليه السلام، لذلك سجل الله تعالى تلك اللحظة وقال في سورة إبراهيم – الآية 37 على لسان إبراهيم عليه السلام نفسه: (رَّبَّنَا إنِّي أسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
ليس ذلك فحسب وحتى السيدة هاجر عليها السلام كانت على يقين من هذا المبدأ وخاصة عندما علمت أن إبراهيم عليه السلام كان مأمورًا من الله سبحانه وتعالى بهذا الأمر فقالت: «رَضِيتُ باللَّهِ».
هذا المبدأ هو الذي عاش عليه سيدنا نوح عليه السلام عندما صنع السفينة وركبها، وهو نفس المبدأ الذي جعل سيدنا إبراهيم عليه السلام مطمئنًا حال دخوله النار، ونجد أن نفس هذا المبدأ كان حاضرًا في ذهن سيدنا موسى عليه السلام عندما وقف أمام البحر وكان جيش فرعون في أثره، فما الذي كان عليه أن يفعل وأمامه مسؤولية عظمى؟
وكذلك سيدنا أيوب عليه السلام، وسيدنا زكريا عليه السلام حينما نظر بفكره المادي البحت لحمل زوجته العاقر، فقال تعالى في سورة مريم – الآيات 8 و9 على لسان زكريا عليه السلام: (قَالَ رَبِّ أنَّى يَكُونُ لِي غلام وَكَانَتِ امرأتي عاقرا وقد بلغت مِنَ الكبر عتيا• قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّن وقد خلقتك مِن قبل ولم تَكُ شيئا)، وانتهى الموضوع، فعندما يشاء الله سبحانه فلا جدال ولا نقاش.
إن النظرة المادية للأمور والحياة تجعل العقل والنفس تقف حائرة أمام كثير من مصاعب الدنيا، فكثيرًا ما يطغى البشر، فرب العمل الذي يأخذ حق العامل أو الموظف أيًا كان هذا الحق، حتى ولو كانت علاوة أو إجازة بسيطة، فإنه يظلم، والرجل الذي يظلم زوجته وأولاده، وكذلك الزوجة التي لا تراعي حرمة بيت الزوجية فإنها ظالمة، فقد أخلت بالواجبات والحقوق، والأغنياء عندما يقومون بالتلاعب بالأسعار من غير الاهتمام بالمواطن البسيط، كل هؤلاء يمكن أن يعتبروا من الظالمين، ومثل هذه الأمور كثيرة، فيقف الإنسان البسيط حائرًا منكسر الرأس والظهر، منكسر الوجدان من الداخل أمام كل هؤلاء فلا يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب؟ وربما كل ما يقوم به بعد أن يغلق على نفسه باب غرفته أن يبكي ويبكي بحرقة. ولكن هذا الإنسان الضعيف يمكن أن يستند على جدار قوي، متين، كل الذي عليه أن يرفع ملف القضية من الأرض إلى السماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة»، يقول الإمام النووي في شرح هذا الحديث «هو على ظاهره؛ فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلاً، ويحتمل أن الظلمات هنا الشدائد، وبه فسروا قوله تعالى: (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر) أي شدائدهما، ويحتمل أنها عبارة عن الأنكال والعقوبات».
ونحن هنا لا ندعو إلى الاستكانة والسلبية والخور، ولكننا نقول إنه عندما تعجز عدالة الأرض عن أخذ حق الإنسان المادي والمعنوي وهذا يحدث كثيرًا، فإن العدالة لا تضيع، والحق لا بد أن يعود إلى صاحبه إن لم يكن اليوم فإنه لا بد وأن تعود الحقوق ذات يوم وهذه حتمية لا جدال فيها، فالأيام أرتنا الكثير من ذلك.
واليوم يتجلى ذلك عندما وقفت الولايات المتحدة أمام العالم كله رافضةً ورافعةً حق نقض الفيتو من أجل وقف إطلاق النار في غزة ولبنان، فهذا هو موقف الطغاة الذي لا يمكن التعامل معه، فقوة الأرض لا يمكنها أن تقف أمام العنجهية الأمريكية والصهيونية ولا أمام قوتها المادية وأسلحتها المتطورة ولا سيطرتها على العالم. في هذه اللحظة لا يمكن النظر إلى هذا الموقف من وجهة نظر علمانية مادية بحتة، فلا يمكن اعتبار أن القوة الصليبية الصهيونية هي القوة المطلقة في هذه الأرض، وحتى نكون أكثر دقًة وموضوعية، نقول: نعم، إنهم يمتلكون ما لا نمتلك من قوة مادية وتكنولوجية، ولكن وعلى الرغم من ذلك فحتى فرعون الذي طغى في الأرض قال في لحظة موته: (قَالَ آمَنتُ أنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وربما نتعلم الدرس واضحًا من الحديث الذي دار بين المجاهد عمر المختار وأصحابه، فقد قال أحدهم: إيطاليا تملك طائرات نحن لا نملكها. قال المجاهد الصابر: أتحلق فوق العرش أم تحتهُ؟ فقالوا: تحته. فقال: مَن فوق العرش معنا فلا يخيفنا ما تحته.
يقول تعالى في سورة النمل – الآية 62 (أمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ). هذه هي النظرة التي يجب أن يفكر فيها أصحاب الفكر العلماني المادي الذي ينظر إلى الجهاد في غزة على أنه فكر خاطئ.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك