لقد أصاب المؤرخ الإسرائيلي بيني موريس القول والتوصيف عندما طرح أفكاره وتحدث عن توقعاته الصريحة فيما يتعلق بمستقبل إسرائيل ومآلات الحرب التي تشنها بلاده على الشعب الفلسطيني.
فقد قال في حوار أجرته معه صحيفة هآرتس الإسرائيلية في عام 2019: «ينظر الفلسطينيون إلى كل شيء من منظور واسع النطاق وطويل المدى. إنهم يرون أنه في الوقت الحالي، يوجد خمسة أو ستة أو سبعة ملايين يهودي هنا، محاصرين من قبل مئات الملايين من العرب».
«لا يوجد أي سبب يجعل الفلسطينيين يستسلمون ويذعنون لإسرائيل لأن الدولة اليهودية لا يمكن أن تستمر في المستقبل. إنهم عاقدون العزم ومصرون على تحقيق النصر. وفي غضون 30 إلى 50 سنة أخرى سوف يتغلبون علينا، مهما حدث».
لقد أصاب بيني موريس في كلامه، وهو محق في قوله إن الفلسطينيين لن يستسلموا، وأنه لا يمكن أن يكون هناك أبدًا وضع حيث تعيش المجتمعات وتزدهر إلى أجل غير مسمى في وضع يكرس الفصل العنصري والعنف والإقصاء – استبعاد الآخر، أي الفلسطينيين، وفي حالة من العزلة.
ولا شك أن تاريخ فلسطين والفلسطينيين بحد ذاته شاهد على هذه الحقيقة. فإذا لم يتم إلحاق الهزيمة بالمضطهدين، أي سكان الأرض الأصليين، أو القضاء عليهم بالكامل، فمن المرجح أن ينهضوا ويقاتلوا ويستعيدوا حريتهم.
لا بد أنه من المحبط تمامًا بالنسبة إلى إسرائيل أن عمليات القتل والتدمير والإبادة الجارية في قطاع غزة لم تكن كافية للتأثير في النتائج الإجمالية للحرب: «النصر الكامل والتام» الذي يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الحديث عنه.
إن ما ينتاب إسرائيل في الوقت الراهن من شعور بالإحباط أمر مفهوم، لأن تل أبيب، مثلها مثل كل المحتلين العسكريين في الماضي، ما زالت تعتقد أن القدر المناسب من العنف لابد أن يكون كافياً لإخضاع الدول التي تخضع للاحتلال.
لكن الفلسطينيين لديهم مسار فكري مختلف يوجه سلوكهم الجماعي.
هناك تصنيفات عديدة للتاريخ. على سبيل المثال هناك من المؤرخين الفرنسيين المعاصرين من يتحدث عن التاريخ من منظور الأحداث وتحليلاتها، وهناك فئة أخرى منهم يتحدثون عن التاريخ على المدى الطويل. وباختصار تعتقد الفئة الأولى من المؤرخين أن التاريخ لا يعدو أن يكون نتيجة لتراكم الأحداث المتتابعة على مدار الزمن، في حين ترى الفئة الثانية من المؤرخين أن التاريخ أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير.
لا يمكن رؤية التاريخ بمصداقية إلا في مجمله، وليس مجرد مجموع أحداث التاريخ المتراكمة، الحديثة أو القديمة، ويشمل ذلك مجموع المشاعر، وذروة الأفكار، وتطور الوعي الجماعي، والهويات، والعلاقات والتغيرات الدقيقة التي تحدث للمجتمعات على مدار الوقت.
ولا شك أن الفلسطينيين يشكلون المثال الجلي على التاريخ الذي تشكله مثل هذه الأفكار، وليست الأسلحة هي من تشكله؛ أو الذكريات، وليست السياسة؛ أو الأمل الجماعي، أو العلاقات الدولية هي من تشكله أو تتمثله.
سوف ينتزع الشعب الفلسطيني في نهاية المطاف حريته. فقد استثمر أبناء الشعب الفلسطيني في مسار طويل الأمد من الأفكار والذكريات والتطلعات المجتمعية، والتي غالبا ما تترجم إلى أحاسيس ومشاعر روحانية، أو بالأحرى، إلى إيمان عميق راسخ يزداد قوة، حتى في أوقات الحروب المروعة.
وفي حوار كنت قد أجريته معه في عام 2020، لخص المقرر الخاص السابق لمنظمة الأمم المتحدة البروفيسور ريتشارد فولك النضال في فلسطين بأنه حرب بين من يملك السلاح ومن يملك الشرعية.
يومها قال لي البروفيسور ريتشارد فولك إنه في سياق حركات التحرر الوطني، يوجد نوعان من الحروب: الحروب الفعلية، أي تلك التي يحمل خلالها الجنود السلاح ويتددجون بها، وحروب الشرعية، مضيفا أنه من ينتصر في حرب الشرعية هو الذي تكون له الغلبة لا محالة في النهاية.
وفي الواقع فإن الفلسطينيين «ينظرون إلى كل شيء من منظور واسع وطويل الأمد». قد يبدو الاتفاق مع كلام بيني موريس غريبا، لأن المجتمعات غالبا ما تكون مدفوعة بصراعاتها الطبقية وأجنداتها الاجتماعية والاقتصادية بدلا من صراعها حول إيجاد رؤية موحدة، متماسكة وطويلة المدى.
هنا تصبح المدة الطويلة أكثر أهمية فبالنسبة إلى الفلسطينيين. وحتى لو لم يتوصل الفلسطينيون إلى اتفاق مشترك لانتظار رحيل الغزاة، أو أن تصبح فلسطين، مرة أخرى، مكانًا للتعايش الاجتماعي والعرقي والديني، فإنهم مدفوعون، حتى لو دون وعي، بنفس الطاقة. مما اضطر أسلافهم إلى التصدي للظلم بجميع أشكاله.
وفي الوقت الذي ينشغل فيه العديد من السياسيين والأكاديميين الغربيين بإلقاء اللوم على الفلسطينيين والقول بأن الفلسطينيين هم الذين يتسببون لأنفسهم في هذا الاضطهاد والقمع، يستمر المجتمع الفلسطيني في التطور بناءً على ديناميكيات مستقلة تمامًا.
على سبيل المثال نجد في فلسطين أن سمات وخصال الصمود والثبات تمثل ثقافة متأصلة، وهي ثقافة تخضع بالكاد للعوامل الخارجية المحفزة، سواء أكان الأمر يتعلق بالعوامل السياسية أم الأكاديمية. إنها ثقافة قديمة قدم الزمن، كما أنها ثقافة فطرية متجذرة تتوارثها الأجيال.
بدأت هذه الملحمة الفلسطينية قبل وقت طويل من نشوب الحرب، وقبل وقت طويل من قيام إسرائيل، وقبل وقت طويل من ظهور الاستعمار الحديث. تثبت هذه الحقيقة أن التاريخ لا يتحرك من خلال تراكم الأحداث فحسب، بل إنه يتحرك نتيجة عدة عوامل أخرى لا حصر لها. صحيح أن «التاريخ النهائي» – أي ذلك الذي يشمل الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تسهم في صنع التاريخ من خلال أحداث قصيرة المدى – لا يخلو من الأهمية، إلا أن التاريخ طويل المدى هو الذي يقدم فهمًا أكثر عمقًا للماضي وعواقبه وتداعياته.
ينبغي أن يشارك في هذا النقاش جميع المهتمين بالنضال في فلسطين، والحريصين على تقديم صورة من الحقيقة لا تحركها مصالح سياسية مستقبلية، بل إن الفهم العميق للماضي وأحداثه هو الذي يحركها. عندها فقط يمكننا أن نبدأ في كتابة الرواية الفلسطينية بكل تأن وتؤدة، انطلاقا من مختلف الرؤى والنواحي التاريخية المفروضة على الشعب الفلسطيني.
لا شك أن هذه ليست بالمهمة السهلة، ولكنها مهمة لا مفر منها لأنه من الأهمية بمكان الخروج من حدود اللغة المركبة، والأحداث التاريخية، والتواريخ المتكررة، والإحصاءات اللاإنسانية، والخداع الصريح للذاكرة.
في نهاية المطاف، يجب أن يكون واضحاً لأي قارئ ذكي للتاريخ أنه في حين أن الطائرات المقاتلة والقنابل الخارقة للتحصينات قد تؤثر في الأحداث التاريخية قصيرة المدى، فإن الشجاعة والإيمان والحب الجماعي تحدد التاريخ على المدى الطويل.
ولهذا السبب ينتصر الفلسطينيون في حرب الشرعية وسينتصرون حاضرا ومستقبلا. ولهذا السبب نؤكد اليوم أن حرية الشعب الفلسطيني هي مسألة وقت لا غير وأن الشعب الفلسطيني سينتزع حريته لا محالة.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك