ذات مساء، وجدتني ضجرت من الضجيج المحيط بي، والعمل الذي لا ينتهي، ووسائل التواصل التي لا تسكت، أقفلت جهاز الحاسوب والهاتف، دخلت غرفة المكتبة لعلي أجد رواية أو كتابا في الخواطر أتسلى به حتى أزيل ضجري.
وأثناء ذلك وقع بصري على صندوق جدي الحديدي القديم جدًا يشاكسني وكأنه يبتسم، ويدعوني إلى التسامر معه، فقلت في نفسي: «هل يمكن أن أجد سلوتي في أوراق جدي القديمة الصفراء ؟»، وفي الحقيقة فأنا لا أستطيع أن أقاوم هذه الدعوة من جدي، فكثيرًا ما أجد سلوتي وسكوني بين أحضان جدي وأوراقه العتيقة.
وجدتني أقلب في تلك الأوراق بحذر شديد حتى لا تتمزق، وإن كنت قد حفظتها بقطع من البلاستيك الحراري الشفاف حتى لا تتلف، وعلى الرغم من ذلك فإني أحب أن أكون حذرًا مع جدي وأوراقه.
وأنا أقلب تلك الأوراق وقعت قصاصة ورقة بين يدي مذيلة بهذه العبارة «نسخة منها للأخ عبد السلام محمود حتى يعود إلى رشده»، ولقد اقتبست عنوان المقال من نفس عنوان القصاصة (التزم الصمت)، ولا أعرف مناسبة هذه القصاصة، ولكن وكأن جدي أرسلها إلى صديقه ليحاول أن يقدم له بعض الحكم في الصمت، إذ كانت تحوي بعض الحكم المتعلقة بالصمت، فرحت أقرأ تلك الحكم، وهي كالتالي:
1. عندما نولد، يكون أول كلامنا وخروجنا عن صمتنا لحظة فرح، أما عندما نكبر نجد أن كثرة الكلام لا تجر شيئًا سوى الخيبة والألم والحزن، لذلك نصمت لنحافظ على أنفسنا وأهل بيتنا.
2. الصمت يا صاحبي لغتي فاعذروني لقلّة كلامي، فربّما ما يدور حولي لا يستحق الكلام، فهُناك أسئلة لا يُجاب عنها إلّا بالسكوت، وعندما يتحول الحب إلى كراهية والتضحية إلى نكران والإنسان إلى وحش لا نملك إلّا أن نصمت.
3. لا تعيبوا صمتي أرجوكم، بل عيبوا على الزمان الذي أجبرني وألجأني إلى ذلك الصمت المطبق، هذا حالي الآن وغدًا فإذا لم تتحمَّلوا فارحلوا.
4. الحزن الذي أصابني بسببكم جعلني أصمت، ليس خوفًا منكم، بل لأنني إذا تحدثت سأوجعكم كثيرًا.
5. إنني مهما وصفت لكم الحزن الذي أمر به واخترت كلمات منمقة فإنني لن أوفيه حقه أبدًا، لذلك أختار الصمت الذي يستطيع أن يعبر بأفضل من الكلام عن كل هذا الألم.
6. لو تحدث الناس فيما يعرفونه فقط لساد الهدوء.
جلست على الأرض، فرحت أقلب الورقة بين يدي، وأقول في نفسي «من أين تأتي بهذا الكلام يا جدي، رحمك الله»، جلست هناك لا أعرف كم من الوقت، وأفكاري تروح وتطير بين لغات الصمت في حضارات العالم، فكم خسر الإنسان بسبب كثرة كلامه وقلة سكوته؟ ربما انهارت حضارات ومفاوضات وصفقات بسبب كثرة الكلام، وربما ربح الإنسان نفسه عندما سكت قليلاً وراح يجمع أوراقه وأفكاره.
وأنا في خضم هذه الرحلة مع جدي راودني سؤال، وهو: متى يكون الصمت أبلغ من الكلام؟
وجدت من خلال بحثي في هذا الموضوع أن الصمت عادة يكون أبلغ من الكلام في كثير من المواقف، ولكن لنحاول أن نلخص بعضًا منها؛ مثل:
الصمت أبلغ في حالة الغضب؛ عندما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغضب، قال: «الغضب جمرة يلقيها الشيطان في جوف بني آدم»، وهذا يعني – كما يوضح علماء النفس – أن الغضب هو تغير يحصل للإنسان عند فوران دم القلب، حتى يرتفع إلى أعالي البدن، فتنتفخ به العروق والأوداج، ويحمر الوجه والعينان، ويولد عنده الرغبة في الانتقام ويجعله يتصرف تصرفات لا يرتضيها في حالة السكون والهدوء، وهذا في الغضب الذي يكون معه القدرة على الانتقام، فأما مع العجز واليأس من الانتقام فإنه يتولد معه انقباض في الدم، فيكون من علامته اصفرار الوجه.
لذلك يصبح الصمت هو الفضيلة المهمة في حالة الغضب، ففي حالة الغضب يمكن أن يتصرف الإنسان بطريقة حتمًا سيندم عليها لاحقًا حينما لا ينفع الندم. ولا نعني في حالة المتحدث فقط وإنما حتى مع الطرف الآخر، فعندما نجد أنفسنا غضبنا من الطرف الآخر وارتفع صوتنا فإنه من الأفضل أن نسكت، وكذلك عندما نجد أن الطرف الآخر ارتفع صوته وغضب، فإنه من الفضيلة أن يصمت.
الصمت أبلغ حينما نريد أن نحافظ على علاقاتنا العامة؛ نعرف جميعًا أن الإنسان فرد من مجتمع، سواء كنا نتحدث عن المجتمع الصغير، الأسرة مثلاً، أو المجتمع الكبير، ففي كل الحالات الإنسان لا يمكنه أبدًا أن يستغني عن كل تلك العلاقات. وبين أفراد المجتمع يحدث كلام كثير، وجدل، ونقاش ربما يكون من غير فائدة، وإنما نناقش من أجل أن نتحدث، وربما هذا الكلام الكثير يؤدي إلى بعض الخلافات التي قد تكون في بادئ الأمر بسيطة، ولكنها مع مرور الوقت تتغول، ويصبح الرجوع إلى نقطة البداية عملية مستحيلة، وعند هذه النقطة يتوقف العقل عن التفكير، فتكون أسهل وسيلة تحطيم العلاقة التي تربط هذا مع ذاك. ولكن من العقل والحكمة أنه قبل أن نصل إلى نقطة اللاعودة أن نصمت، فليس الأمر أن ندافع عن كرامتنا وعقلنا وآرائنا، وليس الأمر أن أحافظ على هذا الإنسان الذي يناقشني وربما يجادل بكل عنف وقسوة، وإنما الأمر أن أحافظ على كرامتي بالصمت حتى لا أنجرف معه إلى الهاوية، فتتحطم العلاقات وتتحول العلاقة الحميمية إلى حرب وكراهية.
الصمت أبلغ في حالة انتهاء الكلام؛ نجلس في مجالس أو في اجتماعات، نتحدث سواء بصورة مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لا تسكت، نتناقش ونتجادل، والكثير منا يحب النقاش والجدل، يتحدث لمجرد أنه يرغب في التحدث، يناقش هذا ويتناقش مع ذاك، يفند رأي هذا ويسخر من رأي ذاك، هذا الإنسان لا يمكنه أن يتوقف عن الحديث، فبالحديث يتنفس ويتغذى. أما نحن فعندما نشعر أننا وصلنا إلى مرحلة لا توجد في جعبتنا كلمة إضافية أو قلنا ما نريد أن نقوله وأن نوضحه فإنه ينبغي أن نتوقف عن الحديث ونسكت، فالمرء يعرف نفسه ويعرف أفكاره وآراءه. فعندما نتناقش ونتحدث أمام الآخرين حتمًا سنصل إلى نقطة نشعر فيها أننا قلنا كل ما نريد قوله، سواء اقتنع الذي أمامنا أو لم يقتنع، عند هذه النقطة من الأفضل أن نصمت، فالحديث إن طال تكرر، وإن تكرر أصبح مملاً وغير مستساغ، لذلك يصبح الصمت فضيلة في هذه المرحلة.
الصمت أبلغ حينما يتحول الحديث إلى جدل؛ أن نتناقش وأن نتحاور فهذا حق مشروع، ولكن أن يصل الأمر إلى الجدال فهذا أمر غير مرغوب ولا محمود، فالجدل يعني ببساطة أن نلزم الخصم برأينا حتى وإن كنا على خطأ، وهذا يحدث اليوم كثيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي، ففي العديد من تلك الوسائل يتفرد بعض الأشخاص بالرأي من غير أن يتركوا مجالاً للآخرين بالتحدث، وإن تركوهم يتحدثون للحظات، فإنهم يقفزون على حديثهم ويحاولون بشتى الطرق أن يقللوا من آرائهم وأفكارهم وشأنهم، وكأنهم هم الذين يمتلكون الحقيقة فقط. وخاصة في القضايا السياسة التي تدور حولنا هذه الأيام. لذلك نقول إنه عندما تجد أن الذي يتحدث معك انزلق في طريق الجدال، فمن الأجدى أن تتوقف أنت، فليس من العقل والحكمة أن تتركه يجرك معه ليرضي غروره، فإن صمت أنت فإنك تحطم غروره هو، فيشعر حينها أنه في مأزق، لذلك فإنه يستمر في الجدل وحده من أجل أن يشعر الآخرون أنه ما زال في جعبته الكثير، ولكنه في الحقيقة يشعر من داخله أنه مهزوم ومجروح، لذلك يحاول لعل ذلك يشعره بالرضا، ولكن هيهات.
الصمت أبلغ حينما تدخل في مجموعة جديدة؛ عندما تنضم إلى فريق عمل جديد، أو وظيفة جديدة، أو حتى مجموعة في وسائل التواصل الاجتماعي جديدة، من الأجدى ألا تتكلم كثيرًا، وأن تترك الآخرين يتحدثون، حتى تتعرف عليهم، فلا تستعرض عضلاتك عليهم لو كنت بارعًا في الأمور، ففي البداية حاول أن تصغي، وأن يكون صمتك أطول من حديثك، حينئذ سيتبرع الآخرون بالشرح والحديث ليحاولوا أن يرشدوك ويعلموك، وأنت حينها تصغي وتتعرف على الآراء والأفراد، وربما تجد أن كل الآراء التي تقال وتتردد مجرد أمور بسيطة وأنت تعرفها إذ إنها من المسلمات، ولكنك أنت لست ملزمًا أن تأخذ كل ما يقال، وإنما صمتك يعني بالنسبة إلى الجميع أنك جيد الإصغاء وبالتالي فأنت إنسان مهذب وذو قدرة عالية على التواصل.
الصمت أبلغ في حالة التفاوض؛ عادة ندخل في عمليات التفاوض، بسبب أو بآخر، وفي التفاوض يحدث كثير من الكلام، هذا يقول وذاك يتحدث، ولكن من الذكاء التفاوضي أن تصمت أطول فترة ممكنة، وتصغي بكل ذكاء لكل ما يقال، فلا تثرثر أثناء كل مراحل التفاوض وإنما اجعل صمتك أطول فترة ممكنة، وعندما ينتهي المفاوضون ويلقون بكل ما لديهم حينها يمكنك أن تتحدث وتقول كل ما تريد أن تقول بكل حرفية ومنهجية.
الصمت أبلغ عندما تتحدث مع أحد الوالدين؛ لا ترفع صوتك ولا تجادل أحد أبويك مهما كنت على حق، فالحق في لسانهما وعقلهما مهما كانا على خطأ، حتى وإن كبرا في السن، ففي هذا الموقف ليس المطلوب منك أن تبرهن لأحد والديك أنك على حق، وإنما المطلوب منك – ومرة أخرى حتى وإن كنت على حق– أن تبرهن لهما أنهما على حق وأنك ما زالت تحترم حقهما في إبداء الرأي.
أعدت قصاصة الورقة إلى صندوق جدي، وأنا أردد في نفسي «من أين تأتي بكل هذا الكلام يا جدي، رحمك الله»؟
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك