بعض الكتب ذات الطابع الموسوعي، حين تنهيها تشعر وكأنّك عبرت غابةً متوالدةً من الفِكَر والمعلومات، بل ومن الكتب أيضا، حين يكون الكتاب في جوهره غابةَ كتبٍ انشطاريةٍ متوالدةٍ انضوت في كتاب واحد.
وهذا ما حدث معي حين أكملتُ قراءة كتاب «أسطورة الأدب الرفيع» (دار كوفان، لندن، 1994)، للمؤرّخ وعالم الاجتماع العراقي، علي الوردي، الذي حلّت ذكرى مولده الشهر الماضي (23 أكتوبر -تشرين الأول 2013). والكتاب مجموعة مقالات مترابطة، مشغولة بسياق جدلي تجديدي للثقافة وللتاريخين الفكري والأدبي العربيين.
نحو 30 مقالة متوهّجة، كلّ واحدةٍ في الكتاب تُشعِل فكرةً جديدةً. يجادل بالتي هي أحسن أو أسوأ، ولا يترك سؤالاً معلّقاً في قلبه. هناك من اختلف معه، من دون أن يفارقه، وكذلك من دون أن يغمطه حقّه من العلم والموسوعية.
في هذا الكتاب، بسط علي الوردي رؤيته إلى التاريخ وللعالم ولطبيعة تفكيره، ولمخزون قراءاته اللامتناهية.
في المقالة الخامسة والعشرين، «الجاحظ وأبو حيّان»، يكتب: «يتميّزان باطلاعهما على أسرار اللغة وأسرار الحياة»، ثمّ يضيف في موقع آخر من المقالة الطويلة عنهما: «ويشبه أبو حيّان الجاحظ كذلك بأسلوبه الواضح البسيط. فالقارئ يحسّ بحرارة المعنى فيه، ويتجاوب معه من دون أن يعيقه عائق من حذلقة الألفاظ».
ويضيف: «إذا كان الجاحظ قرأ الكتب حتى أغلق على نفسه الدكاكين في الليالي، فأبو حيّان كان ينسخ الكتب». ويقول أيضاً: «إنهما يكتبان في أيّ موضوع يشاءان». وفي موضع آخر سمّاهما «كُتّاب المعنى»، إذ إن «وضوح الفكرة أهمّ من سلامة اللغة».
تحدّث علي الوردي كثيراً في كتابه، وعبر أكثر من مقالة، عن ذلك الصراع النحوي (الطوباوي) بين الكوفيين والبصريين، الذي عطّل سلاسة اللغة العربية، وعطّل تطوّرها.
وبالتالي، أخّر إتقانها لدى مختلف الأجيال. فكلّ مدرسة أرادت أن تثبّت صحّة منهجها، وحاولت من أجل ذلك أن تسلك أوعر الطرق. وقد أطلق عليه الوردي «الجدل العقيم»، الذي أدّى إلى «عقدة النحو العربي».
وفي إحدى مقالاته، يكيل التنقيص من ابن العميد والصاحب بن عبّاد، لأنهما كانا من أسباب انحدار النثر العربي (رغم شهرتهما الطائرة في زمنهما)، نظراً إلى ميولهما الشديدة نحو «الزخرفة الشكلية»، ومن الأقوال التي شاعت في القرن الرابع: «الكتابة بدأت بعبد الحميد وخُتِمت بابن العميد»، وهذا القول صحيح «إذا أخذنا بعين الاعتبار كتابة الزركشة والإسراف اللفظي، وهي الكتابة التي راجت في القرن الرابع رواجاً عجيباً».
ويقول في موضع آخر: «وفي القرن الرابع، ظهر ابن العميد الذي لقّب بـ«الجاحظ الثاني»، وهذا اللقب لا يمتّ إلى الواقع بصلة، إنّما هو يصوّر لنا الهوَّةَ العميقةَ التي انحدر إليها النثر العربي، ويشير إلى أن الناس فهموا الجاحظ فهماً مغلوطاً».
لا يخلو رأي الوردي (في بعض الجوانب) من استثارة، وهذا ما جعل مجموعةً من الردود تنهال عليه في العراق وخارجه، وفي ذلك فائدة علمية، إذ استطعنا، من خلال الجدل الخلّاق، أن نقف على أمثلة كثيرة غابت عن الوردي، وهو يدبج مقالاته النقدية، التي لا يخلو بعضها من الحدّة، كما فعل عبد الرزّاق محيي الدين، الذي ردّ على علي الوردي حين كتب أن سبب مخاطبة المُحبّ بالمذكّر في كثير من القصائد العربية شيوع الانحياز الذكوري بين العرب، فكان ردّ عبد الرزاق أن سبب ذلك ليس شيوع هذا الاتجاه بل تقليد للمتصوّفة الذين يذهبون في قصائدهم إلى مخاطبة المذكّر بدلا من المؤنّث.
ويرى الوردي أن شيوع ذلك كان بسبب انتشار ظاهرة الحجاب في العصور المتأخّرة في الإسلام، وخصوصاً في ظلّ الهيمنة العثمانية. ينمّ الوردي في مقالاته عن قارئ خطير، ولكن ربّما ارتباك منهجه وعدم تمحّصه في بعض المقالات يجعلان منه صيداً سهلاً للردود.
ولكنّ الغريب أنه يأتي، في مقالاتٍ كثيرة، بهذه الردود التي قيلت ضدّ مقالاته ويبرزها، ربّما لأن معظمها كتب بصيغة تحترم قدره من دون أن تنقص من علمه، ولا تناقش إلا فكرة معيّنة من فِكَره، ولن نستغرب إن رأينا أوّل مقالات هذا الكتاب قد خصّصها لنشر جوانب من مقالاتٍ لأبرز خصومه.
{ كاتب وروائي من سلطنة عمان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك