لم يكن فوز «دونالد ترامب»، على «كامالا هاريس»، في الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 في نوفمبر 2024، بمثابة «عودة تاريخية» فحسب – كما وصفته العديد من وسائل الإعلام الغربية بما في ذلك فاينانشال تايمز – بل كان أيضًا دليلاً على وجود قناعة لدى الناخب الأمريكي باضطلاع بلادهم بدور عالمي جديد، بحيث من المقرر تحدي تحالفاتها وسياساتها التقليدية.
وفي الأيام التي سبقت الانتخابات، أظهرت استطلاعات الرأي «تقاربًا شديدًا»، بين «ترامب»، و«هاريس»، حيث لم تتجاوز الفجوة بينهما نقطة مئوية واحدة، مما أشار إلى نتيجة متقاربة ومثيرة للانقسام. لكن في النهاية، حقق «ترامب» فوزًا كبيرًا في المجمع الانتخابي، حيث حصل على 301 صوتًا، مقابل 226 لهاريس، وذلك بسبب نجاحه في كسب أصوات الولايات المتأرجحة، مثل جورجيا، وبنسلفانيا، وميشيغان، وويسكونسن، ونيفادا، ليتجاوز بذلك عتبة 270 صوتًا اللازمة للفوز. إضافةً إلى ذلك، فقد حصل على أكثر من 73 مليون صوت، متفوقًا على منافسته التي حصلت على 69 مليون صوت، ليصبح بذلك أول مرشح جمهوري يفوز بالتصويت الشعبي منذ فوز «جورج دبليو بوش» عام 2004. وقد تعزز هذا الانتصار بالسيطرة الجمهورية على مجلس الشيوخ، واقترابهم من الأغلبية في مجلس النواب، ما منح الرئيس العائد مستوى استثنائيًا من النفوذ السياسي.
وبالنسبة إلى الحزب الديمقراطي، الذي تكبد هزيمته الثانية أمام «ترامب»، خلال ثماني سنوات، فيُتوقع أن يجري تحقيقًا مفصلًا لفهم أسباب هذه الخسارة، خاصة بعد قرار «بايدن»، بالترشح ثم انسحابه قبل أشهر من التصويت، وهو ما اعتبره «إسحاق شوتينر»، في مجلة «نيويوركر»، قد «عرض البلاد للخطر». وفي المقابل أرجع «ديفيد جراهام»، في مجلة «ذي أتلانتيك»، نجاح «ترامب»، إلى «تقديمه رسالة واضحة استجابت لإحباطات الأمريكيين حول الاقتصاد وحالة البلاد، مع وعود بإصلاحها»، كما وثّق «مايكل هيرش»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «هاريس أمضت معظم وقتها في محاولة إثبات عدم ملاءمة ترامب للرئاسة، وأهملت تقديم رؤية واضحة تجعلها الخيار الأفضل لهذا المنصب».
واستقبلت وسائل الإعلام الغربية ومحللو الشؤون الخارجية فوز «ترامب» الساحق بالانتخابات – كما حدث في فوزه الأول عام 2016 – باعتباره «تحولًا كبيرًا في السياسة الأمريكية تجاه العالم». وفي هذا السياق، رأت «برونوين مادوكس»، من «المعهد الملكي للشؤون الدولية»، أن العلاقات الدولية للولايات المتحدة «من المرجح أن تشهد تقلبات كبيرة»، لا سيما مع حلفائها الأوروبيين، الذين يعبرون عن قلقهم من احتمال اتخاذه قرارات قد «تضحي بالقيم الغربية»، وتدفع نحو نظام عالمي جديد يعتمد على المعاملات بدلاً من المبادئ.
أما فيما يخص سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط – والتي كانت نقطة ضعف لحملة هاريس في الولايات المتأرجحة الرئيسية – فقد كانت وعود «ترامب»، بإحلال السلام في المنطقة تفتقر إلى أي مقترحات سياسية محددة. وفي هذا السياق، أشار «ستيفن كوك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن الأمور ستستمر «وفقًا لشروط إسرائيل»، ما يعني استمرار المعاناة الهائلة التي يواجهها الفلسطينيون في غزة والأراضي المحتلة، وربما تفاقمها أكثر.
ومع وضوح حجم فوز «ترامب» على «هاريس»، بسرعة في ليلة الانتخابات، أصبح من الواضح السبب وراء توقع استطلاعات الرأي التي أجرتها وسائل الإعلام لنتيجة أكثر تقاربًا. وأوضحت «ناتالي شيرمان»، من شبكة «بي بي سي»، أن هذه هي الانتخابات الرئاسية الثالثة على التوالي التي تكشف عن خطأ التوقعات بشأن شعبية «ترامب»، بين ناخبي الولايات المتأرجحة، مثل (فلوريدا، ونيوجيرسي)، حيث لم تتحقق التوقعات بفوز جمهوري ضيق في الأولى، ولا اكتساح ديمقراطي في الثانية. وفي جميع الولايات المتأرجحة، كان ترامب أفضل بكثير مما كان متوقعًا.
وفي محاولة لتفسير هذا التناقض، ورغم جمع «هاريس»، أكثر من مليار دولار من التبرعات لحملتها في ثلاثة أشهر فقط – وهو رقم قياسي للانتخابات الرئاسية الأمريكية – وشيوع اعتقاد بتفوقها على «ترامب» خلال مناظرتهما التلفزيونية الوحيدة في سبتمبر؛ أشار «جوليان زيليزر»، من «جامعة برينستون»، إلى أن «ترامب»، من خلال تركيزه الأساسي على التعافي الاقتصادي، «لم يفز فقط، بل وسع قاعدته بشكل كبير»، حيث نجح ليس فقط في جذب الناخبين من الطبقة العاملة الريفية، بل وأيضًا في استقطاب ناخبي الضواحي والأقليات، الذين «كانوا يُعتبرون ذات يوم عماد الكتلة الديمقراطية».
وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجرتها صحف؛ مثل «نيويورك تايمز»، و«واشنطن بوست»، و«سي إن إن»، والتي منحت «هاريس» تقدمًا ضيقًا قبيل الانتخابات، مدى تطابقها مع اعتقاد 64% من الأمريكيين أن بلادهم تسير في «مسار خاطئ». وفي ضوء هذه الإحصائية المثيرة للقلق، اعتبر «جراهام»، أن تحذيرات هاريس المتكررة من أن ترامب «سيدمر كل ما هو عظيم في أمريكا»، قد فشلت في إقناع الناخبين الذين بدوا «منزعجين من الوضع الراهن»، مشيرا إلى كيف «ناضلت هاريس في النهاية لخلق مسافة» بينها وبين إخفاقات إدارة بايدن، في الوقت الذي برزت فيه استجابة واشنطن لحرب إسرائيل على غزة، كقضية محورية أثرت بشكل خاص في النتيجة النهائية للانتخابات. وعلى وجه الخصوص، شهدت الولايات الرئيسية، مثل ميشيغان، وويسكونسن، وجورجيا، وبنسلفانيا، تخلي الناخبين العرب الأمريكيين عن الديمقراطيين، حيث اختار الكثيرون دعم مرشحة من حزب ثالث، مثل «جيل شتاين»، من حزب الخضر، أو تأييد ترامب رغم دعمه العلني لإسرائيل.
وعلى سبيل المثال، في «ديربورن»، بولاية ميشيغان – حيث يشكل ذوو الأصول الشرق أوسطية أكثر من 50% من السكان – حصل المرشح الجمهوري على أكثر من 42% من الأصوات، متفوقًا على «هاريس»، التي حصلت على 36%، وهي نسبة أقل بكثير، مقارنة بـ70% من أصوات الولاية التي دعمت «بايدن»، في انتخابات 2020. وفي المجمل، خسر الديمقراطيون ولاية ميشيغان بفارق 84,000 صوت. ومع وجود أكثر من 200,000 ناخب مسلم مسجل في الولاية، كانت آثار سياسات إدارة بايدن في الشرق الأوسط واضحة في نتائج هذه الانتخابات.
وعند تحليل تخلي الناخبين من أصول عربية وأمريكية مسلمة عن الحزب الديمقراطي، من المهم أيضًا النظر في خسارة «هاريس» لأصوات فئات ديموغرافية أخرى. ورغم الخطاب العدواني لترامب ضد المواطنين من أمريكا اللاتينية، وتعهداته بترحيل عشرات الملايين منهم؛ فقد تراجع تفوق «هاريس»، بين هؤلاء الناخبين إلى 6 نقاط مئوية فقط، مقارنة بالـ33% التي حصل عليها «بايدن» في 2020. فيما شهد نصيبها من أصوات الناخبين السود زيادة طفيفة فقط، وتراجع نصيبها من أصوات الناخبين الأصغر سنًا (من 18 إلى 29 عامًا) من 24% التي حصل عليها «بايدن»، في 2020، إلى 11% فقط، ومن ثمّ، فإن إجمالي ما حصلت عليه من الأصوات يبقى أقل بكثير من الـ81 مليون صوت، التي حصل عليها «بايدن»، قبل أربع سنوات، ما يشير إلى أن قضايا متعددة – من بينها سياسة واشنطن تجاه الحرب في غزة – قد أثرت سلبًا على حملة الديمقراطيين، ما مهد الطريق لفوز ترامب.
أما عن تداعيات عودته إلى الرئاسة الأمريكية، فبالنظر إلى افتقار حملته لتفاصيل محددة حول السياسة الخارجية – سواء في الشرق الأوسط، أو شرق أوروبا، أو منطقة آسيا، والمحيط الهادئ – فإنه من المحتمل أن تؤدي التعيينات القيادية في المناصب العليا، التي ستتم قبل تولي الإدارة مهامها في يناير 2025، إلى تشكيل ملامح السياسة الدولية لواشنطن بشكل كبير. ويتوقع «ماثيو كرينغ»، من «المجلس الأطلسي»، عودة الشعار المعروف «السلام من خلال القوة»، إلى السياسة الخارجية، حيث يتوقع استثمارات كبيرة في قدرات الدفاع لتعزيز الردع، إلى جانب استعداد واشنطن «لاستخدام القوة بحزم إذا فشل الردع». ومع ذلك، يبقى مدى اتساق هذه الرؤية مع توجهات ترامب غير واضح.
وفيما يخص مستقبل «الحرب الأوكرانية»، التي وصلت إلى طريق مسدود بعد عامين ونصف من القتال؛ أشار «جون هيربست»، من «المجلس الأطلسي»، إلى أنه «من الصعب التنبؤ بسياسته؛ لأن فريقه يتضمن رموزًا ذوي آراء مختلفة»، حيث يرى بعضهم ضرورة «تقليص المساعدات المقدمة لأوكرانيا»، بينما يدعو أخرون إلى سياسة «ريغانية» (نسبة إلى الرئيس رونالد ريغان)، لتعزيز قدرات حلفاء واشنطن في مواجهة روسيا. ومع ميل العديد من القادة الأوروبيين لتفضيل رئاسة «هاريس»، لضمان استمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وتعهد «ترامب»، بحل النزاع في أول يوم من ولايته، تسعى الدول الأوروبية لممارسة ضغوط على الرئيس المنتخب للحفاظ على السياسة الأمريكية ضد روسيا.
لكن يبقى من الواضح أن دعمه المستقبلي لإسرائيل، وحكومتها بقيادة «بنيامين نتنياهو»، سيكون «دون قيود». وأعرب «ليون بانيتا»، المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية ووزير الدفاع الأسبق، عن قلقه من أن الإدارة الأمريكية المقبلة، ستمنح «نتنياهو» «تفويضًا مطلقًا» لتنفيذ سياساته، بما في ذلك التصعيد مع إيران، ما قد يدفع الشرق الأوسط نحو حرب إقليمية شاملة. وفي هذا السياق، توقع «كوك»، أن يؤدي هذا التصعيد إلى وقوع المزيد من الضحايا الفلسطينيين، مشيرا إلى احتمال دعم مساعدي «ترامب»، طموحات إسرائيل للسيطرة على غزة، وإعادة توطين الإسرائيليين فيها، وقد كشف صهر «ترامب» ومستشاره، «جاريد كوشنر»، عن مشروع بناء «ممتلكات ساحلية ثمينة» على أراضٍ فلسطينية سابقة بعد طرد سكانها إلى صحراء النقب.
وفيما يخص «إيران»، توقع «جوناثان بانكوف»، من «المجلس الأطلسي»، أن تستأنف «الولايات المتحدة»، سياسة «الضغط الأقصى»، عبر العقوبات الاقتصادية ضدها. ومع ذلك، أقر بأن الإدارة الجمهورية المقبلة، قد تواجه صعوبة في الحصول على نفس مستوى الدعم الإقليمي، الذي تمتعت به سابقًا، خصوصًا في ظل تحسن العلاقات بين دول الخليج وإيران خلال السنوات الأخيرة.
ويضفي فوز «ترامب»، أيضا مزيدًا من الاضطراب حول السياسة الداخلية الأمريكية، ويغذي حالة عدم اليقين بشأن دور واشنطن على الساحة العالمية. وفي هذا السياق، يرى «زيليزر»، أن على قادة الحزب الديمقراطي داخل البلاد أن يركزوا الفترة القادمة على معالجة القضايا الاقتصادية، وتلبية تطلعات الطبقة العاملة التي تشعر بالتهميش من قبل النظام السياسي، مشيرا إلى أنه في حال فشلهم في تحقيق ذلك قبل انتخابات 2028، فقد تزداد تداعيات نتائج انتخابات 2024 تعمقًا وتأثيرًا في المستقبل.
وفي الوقت الحالي، يبدو أن العودة إلى إدارة جمهورية مرة أخرى، تضع «واشنطن»، على مسار لتغيير علاقاتها مع بقية العالم. وكما كان الحال في 2016، ما زالت هناك الكثير من الشكوك حول السياسات الخارجية التي سيتبعها «ترامب»، خصوصًا فيما يتعلق بروسيا وأوكرانيا، ولكن مع تأكيد الدعم المستمر لحروب إسرائيل عبر الشرق الأوسط، فإن نتيجة هذه الانتخابات قد تهدد بمزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، وتزيد من معاناة الفلسطينيين المدنيين الذين عانوا لعقود من الاحتلال، بالإضافة إلى مزيد من التصعيد العنيف والتدمير على يد إسرائيل وحلفائها الغربيين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك