تابعت كغيري من المهتمين نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي فاز فيها مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترامب على منافسته كمالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي، بعد مارثون انتخابي شهد تجاذبات وتلاسنات أحياناً، ولكن في النهاية قال الشعب الأمريكي كلمته ليحسم الأمر لصالح دونالد ترامب ليكون الرئيس السابع والأربعين في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ولست معتاداً أن أكتب عن الأحداث عندما تكون في ذروتها لأن وسائل الإعلام الحديثة تعج بالتحليلات واستضافة الخبراء، والأفضل دائماً التريث حتى تظهر الملامح الأولية، فقد كان لافتا أن استطلاعات الرأي التي سبقت نتائج الانتخابات الأمريكية لم تعكس بدقة الخريطة التصويتية في الولايات المتحدة، كما أن تركيز بعض التحليلات وخاصة العربية منها حول التفكير الأحادي أيهما أفضل للمنطقة ترامب أم هاريس؟ يبدو نوعاً من التبسيط ، فالمسألة ليست في أشخاص ولكن في سياسات من دولة كبرى تجاه منطقة تشهد توترات لأسباب عديدة، ولكن المتتبع للسياسات الأمريكية عموماً فهي تنهض على مفهومي المصلحة والقيم بغض النظر عمن يصل إلى سدة الحكم سواء أكان جمهوريا أم ديمقراطيا، والمسألة نسبة وتناسب، تزداد القيم أو تتراجع وفقاً للحزب الحاكم ولكن في نهاية المطاف هذه هي المعادلة، من ناحية ثانية وضعت الإدارات الأمريكية المختلفة ما يسمى «الخطوط الحمراء» التي لا يجوز تجاوزها من جانب أي طرف، ففي منطقة الخليج العربي كانت –ولا تزال– قضية الحفاظ على توازن القوى الإقليمية وكذلك أمن الطاقة من القضايا الثابتة على أجندة كافة الرؤساء الأمريكيين، وقد بدا ذلك واضحاً عندما أعلن الرئيس ريجان تأسيس تحالف عسكري بحري لحماية ناقلات النفط الخليجية من الاعتداءات خلال الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينيات، مروراً بالتحالف الذي قاده الرئيس جورج بوش الأب ويكون من 34 دولة لتحرير دولة الكويت من الغزو العراقي عام 1991، ثم التحالف العسكري البحري لأمن الملاحة في الخليج العربي الذي أعلنه الرئيس ترامب عام 2019م مكون من 6 دول من بينها ثلاث دول خليجية، ومؤخراً تحالف حارس الازدهار الذي أعلنه الرئيس بايدن عام 2023م لحماية السفن التجارية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب من الهجمات الحوثية وانضمت إليه عدة دول في المنطقة ، تلك التحالفات تعكس حقيقة مؤداها أن الولايات المتحدة الأمريكية في حقب تاريخية مختلفة وفي ظل حكم الحزبين الجمهوري والديمقراطي هي من قاد التحالفات العسكرية التي استهدفت الحفاظ على توازن القوى وكذلك الحفاظ على أمن الطاقة كهدف استراتيجي يهم المنتجين والمستهلكين على السواء، ولكن هل تكفي تلك التحالفات لتقييم السياسة الأمريكية تجاه المنطقة أو على الأقل وضع مؤشرات يمكن البناء عليها بشأن مستقبل تلك السياسة في الحقبة القادمة للرئيس ترامب؟ لست من أنصار كتابة سيناريوهات مستقبلية، فالسياسات حتى للدول الكبرى ترتبط على نحو وثيق بالمصالح الوطنية للدول التي تتغير أيضاً من آن لآخر، ولكن الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن أمن الخليج العربي يرتبط على نحو وثيق بالأمن الإقليمي تأثراً وتأثيراً وهو ما أكدته الأزمات الأمنية التي شدتها المنطقة، فعلى الرغم من انتهاج دول الخليج العربي سياسة الحياد دائماً لكنها كانت جزءًا من تلك الأزمات، وفي الوقت الراهن فإن المحيط الإقليمي للخليج يشهد توتراً غير مسبوق وهو ما يتطلب سياسة أمريكية أكثر وضوحاً ضمن ثلاثة مسارات، أولها: ممارسة الضغط على الجماعات المتصارعة في دول الجوار لحثها على بناء الدول الوطنية الموحدة وخاصة في اليمن لأن استمرار الصراع على هذا النحو هو استنزاف لقدرات تلك الدول بل ومصدر لزيادة دور تلك الجماعات التي تمثل تهديداً للأمن العالمي في الوقت ذاته من ذلك تهديدات الملاحة البحرية، وثانيها: أهمية استمرار الدور الأمريكي للحفاظ على توازن القوى الإقليمي حيث لوحظ صدور بعض التصريحات مفادها أن الإدارة الأمريكية الجديدة ستكون أقل انخراطاً في منطقة الشرق الأوسط عموماً وهو ما يتيح الفرصة لمنافسيها من الوجود في تلك المنطقة ولو على الصعيد الاقتصادي وليس بالضرورة مناوئة للدور الأمني للولايات المتحدة، فضلاً عن زيادة نشاط الجماعات دون الدول مجدداً، وثالثها: دعم أدوار التنظيمات الإقليمية ومنها مجلس التعاون الذي يؤدي دوراً مهماً في الحفاظ على توازن القوى الإقليمية.
لا شك أن سياسات القوى الكبرى من بينها الولايات المتحدة الأمريكية ترتبط على نحو وثيق باستراتيجيات الأمن القومي بما يعنيه من أنه لا بد من انتظار صدور استراتيجية جديدة للأمن القومي الأمريكي لتعكس رؤية الإدارة الجديدة للعالم عموماً ومن بينه منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، من ناحية ثانية ليس كافياً الاعتماد على مضامين تلك الاستراتيجية ولكن البيئة التي تعمل فيها سواء على المستوى العالمي وهي ذات طابع تنافسي وخاصة على الصعيد الاقتصادي، بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية التي لها تأثير بالغ على أمن حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، فضلاً عن التكتلات الاقتصادية المناوئة للدول الغربية منها مجموعة البريكس التي تسعى لاستقطاب مجموعة من الدول في عضويتها من بينها بعض دول الخليج العربي، وعلى الصعيد الإقليمي لا شك أن السياسة الأمريكية سوف تواجه تحديات نتائج الحرب في غزة، بالإضافة إلى استمرار تهديد الملاحة البحرية ولذلك تثأر التساؤلات حول نهج الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه تلك القضية، وخاصة أن هناك تحالفين تم تأسيسهما لمواجهة تلك التهديدات الأول عام 2019 والثاني عام 2023.
وفي تقديري أن الولايات المتحدة الأمريكية بالرغم من أن لديها بالفعل شراكات أمنية قوية مع دول الخليج سواء الاتفاقيات الأمنية منذ عام 1991 واتفاقية التكامل الأمني والازدهار الشامل التي تم توقيعها بين الولايات المتحدة والبحرين عام 2023، فضلاً عن منح بعض دول الخليج العربي صفة حليف من خارج حلف الناتو، فإن السياسة الأمنية الأمريكية تجاه الخليج العربي خلال حقبة الرئيس ترامب ربما تكون بحاجة إلى تجديد تلك الشراكات الأمنية مع دول الخليج العربي، وخاصة بشأن تطوير القدرات الأمنية لدول الخليج ودعم جهود توطين الصناعات العسكرية وما يرتبط بها من نقل التكنولوجيا، بالإضافة إلى التعاون العملياتي ضمن تدريبات مواجهة الكوارث البحرية في ظل زيادة حدة تهديدات الأمن البحري. ولا شك أن حوارا استراتيجيا أمنيا بين الجانبين يعد مهماً للغاية من أجل تحديد المخاطر والأولويات وسبل التعاون لمواجهتها في ظل حقيقة مؤداها أن الحفاظ على أمن الخليج العربي يعد مصلحة استراتيجية للولايات المتحدة، أخذاً في الاعتبار التنافس الدولي تجاه منطقة الخليج العربي وتأثير حالة الاضطراب الإقليمي على معادلة توازن القوى التقليدية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك