خلال العام الماضي، تعرضت غزة -ومازالت- لدمار واسع على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي؛ ما أسفر عن سقوط عشرات الآلاف من القتلى، وملايين النازحين، وإلحاق أضرار مادية جسيمة، قد يستغرق إصلاحها عقودًا. ويُمثّل هذا التدمير أحدث فصل في سلسلة طويلة من القهر التاريخي، الذي يتعرض له الفلسطينيون على يد قوات الاحتلال.
ومنذ نكبة عام 1948، واحتلالها للضفة الغربية وأراضٍ أخرى عام 1967، فرضت إسرائيل نظامًا منهجيًا، من التمييز العنصري والديني، حيث سلبت حقوق الفلسطينيين وممتلكاتهم بشكل مستمر، بموافقة دول غربية كبرى، مثل الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة اللتين تدّعيان حماية القانون الدولي، وحقوق الإنسان عالميًا.
وعلى النقيض من الحكومات الغربية، التي تدّعي التزامها بتحقيق حل، يتمثل في دولتين للإسرائيليين والفلسطينيين، كوسيلة لإحلال السلام والأمن في الشرق الأوسط؛ صدر كتاب بعنوان واقع الدولة الواحدة.. ما هي إسرائيل/فلسطين، تأليف مايكل بارنيت، وناثان براون، ومارك لينش، وشبلي تلحمي. وفي مقال مشترك لهم في مجلة فورين أفيرز، طرح المؤلفون وجهة نظرهم، بأن الوقت قد حان للتخلي عن حل الدولتين، الذي لا يزال المسؤولون الغربيون يزعمون أنهم يسعون لتحقيقه.
وإدراكًا لأهمية هذه القضية، عقد مركز دراسات الأمن والحقوق، بجامعة روتجرز، ندوة افتراضية، مع اثنين من مؤلفي الكتاب؛ لتقييم تأثير أحداث العام الماضي على حاضر ومستقبل واقع الدولة الواحدة. أدارها فيصل كوتي، الأكاديمي بالجامعة، وشارك فيها كل من تلحمي، وبراون.
في البداية، أوضح كوتي، أن الهدف من الندوة هو دراسة ما أسماه تحول المنظور، من حل الدولتين المراوغ، إلى مواجهة واقع الدولة الواحدة، كما طُرح تفصيلًا في الكتاب، مؤكدا أن الأمر يتطلب فهمًا عميقًا، لمفاهيم الدولة والسيادة والمواطنة. من جانبه، أضاف تلحمي، أنه عند وصف إسرائيل وفلسطين من خلال منظور العلوم السياسية؛ يصبح من المستحيل التعامل مع النتيجة النهائية دون تحديد واضح ودقيق لما هو موجود.
وفي شرحه لكيفية تأليف الكتاب، أشار براون، إلى أن الفكرة بدأت بمناقشات بين الأكاديميين في عام 2019، وهو العام الذي اتضح فيه التأخر في التوصل إلى إجماع حول واقعية حل الدولة الواحدة، موضحا أن جميع مؤلفيه قد تناولوا هذا الموضوع، باعتبارهم مؤيدين نشطين لحل الدولتين، حتى قبل فترة طويلة من انتشار هذا الرأي.
وفي تعليقاته، أقر تلحمي، بأن مناقشة هذا الموضوع في تلك الأوقات العصيبة، تعد أمرًا صعبًا للغاية، بالنسبة للأكاديميين وخبراء السياسة الخارجية في الشرق الأوسط. ومع ذلك، أشار إلى أن المراقبين في مختلف أنحاء العالم ليسوا بحاجة لأن يكونوا خبراء في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليشعروا بـ الحزن الشديد، إزاء نزيف الأرواح والمعاناة الهائلة، التي يتعرض لها المدنيون في غزة، والضفة الغربية، ولبنان وغيرها من الأماكن، مؤكدا غياب أي ضوء في نهاية النفق، حيث يتم تعريف مستقبل إسرائيل وفلسطين، على أنه لعبة محصلتها صفر، مما يجعل فكرة إحلال السلام والأمن في المنطقة، معقدة للغاية بالنسبة لأولئك الذين يسعون لتحقيق هذا الهدف، رافضا الفكرة التي روج لها العديد من الخبراء الغربيين، والتي تتعلق بسيناريو ما يُسمى اليوم التالي في غزة، معبرًا عن أسفه لأن الحقائق على الأرض جعلت من المستحيل إرساء السلام.
وفي شرحه للاستنتاجات التي توصل إليها مع زملائه جونز، وبارنيت، ولينش، قبل اندلاع الحرب على غزة، أكد أن احتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية من غير المرجح أن يكون مؤقتًا، كما أنه لا يوجد مسار سياسي في الأفق، لتغيير هذا الوضع، مشيرًا إلى أن هذا الواقع كان قائمًا لفترة طويلة قبل أحداث أكتوبر 2023، ومؤكدا أيضًا أن آفاق حل الدولتين قد تقلصت بشكل كبير، في السنوات التي سبقت هذه الحرب، خاصة مع التوسع الهائل للمستوطنات الإسرائيلية، حيث يعيش حوالي 700,000 مستوطن يهودي بشكل غير قانوني في الضفة الغربية، فضلا عن الدور المدمر الذي لعبه صعود اليمين الإسرائيلي المتطرف، بقيادة بنيامين نتنياهو، وأعضاء حكومته، مثل إيتمار بن غفير، وبتسائيل سموتريتش، والذين جعلوا هدف حكومتهم هو السيطرة بالقوة على جميع الأراضي، مما يجعل من المستحيل على أي طرف الادعاء بأن أفعال إسرائيل وانتهاكاتها هي مؤقتة.
وفي ظل هذا الوضع، رأى أن الخبراء والأكاديميين سعوا إلى التمييز بين مفهومي الدولة والسيادة؛ حيث ترتبط الأولى بـالتحكم وفرض السيطرة، بينما تتعلق الثانية بـالاعتراف الدولي بذلك التحكم. وبناءً على ذلك، فإن إسرائيل لا تمتلك سيادة على واقع الدولة الواحدة، إذ لا يزال القانون الدولي يعترف بسيادتها وفق حدود ما قبل عام 1967، وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في يوليو 2024، من أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ حرب الستة أيام، غير قانوني، ويجب أن ينتهي على الفور، وأنها تمارس سيطرة وتحكمًا فعالًا، على الأراضي المحتلة، والسكان الفلسطينيين الذين يعيشون فيها، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة.
وبعد أن تم الاعتراف بأن سيطرة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، هو انتهاك للقانون الدولي؛ أشار تلحمي، إلى ضرورة أن يسأل المراقبون أنفسهم عن نوع الدولة، مؤكدا أنه لا يمكن تجنب التمييز بين اليهود وغير اليهود داخل هذه الدولة. وفي إشارة إلى التفرقة، التي يتعرض لها المواطنون العرب الإسرائيليون الذين يتمتعون بحقوق سياسية ومدنية، وخضوع سكان الضفة الغربية لثلاث مناطق منفصلة محددة للسيطرة الإسرائيلية المباشرة؛ خلص إلى أنه من المستحيل بالنسبة له ولزملائه عدم التعامل مع مصطلح الفصل العنصري، لوصف حكم إسرائيل في واقع الدولة الواحدة.
في هذا السياق، أشار جونز، إلى أن مؤلفي الكتاب استخدموا مصطلحات، مثل الإبادة الجماعية، والفصل العنصري، لكن مع مستوى معين من المسافة التحليلية. ورغم اعترافه بأن تحقيق ذلك أصبح صعبًا بشكل متزايد؛ بسبب الاستجابة العاطفية للمعاناة الهائلة الناجمة عن حروب إسرائيل في غزة ولبنان، بالإضافة إلى تصاعد العنف في الضفة الغربية خلال العام الماضي، فقد شدد على أن الوقت قد حان لوضع سياسة أمريكية وغربية تجاه إسرائيل وفلسطين، ليس بناءً على حلم لم يعد ممكنًا؛ لكن على أساس الواقع القائم فعلاً.
وبالانتقال إلى تأثير الأحداث التي وقعت منذ 7 أكتوبر 2023، على المستقبل بين إسرائيل وفلسطين؛ أوضح أن هذه الأحداث، جعلت واقع الدولة الواحدة لا يقبل الجدل تقريبًا؛ إذ إن تصرفات إسرائيل حولت هذا الواقع إلى شكل عنيف وخبيث للغاية، من خلال التدمير الشامل للمجتمع الفلسطيني، الذي تعرض سكانه لعدد لا يُحصى من الصدمات؛ ما يجعل من الصعب التنبؤ بعواقبها على المدى الطويل.
وفي سياق تحليل الوضع الراهن، أشار تلحمي، إلى أن أحد العوامل الأساسية وراء التدهور الخطير في الأوضاع الإسرائيلية والفلسطينية في عام 2023، يتمثل في سياسات الحكومة الأمريكية، التي تُعتبر مسؤولة عن تمكين الواقع الجائر للدولة الواحدة. ولفت جونز، إلى أن المسؤولين في واشنطن وأوروبا -حتى أثناء المناقشات غير الرسمية- أصبحوا يتجنبون التحدث عن حل الدولتين، أو عملية السلام باعتبارهما أهدافًا سياسية واقعية.
وبالتالي، وبينما يواصل كبار المسؤولين السياسيين الأمريكيين، مثل الرئيس جو بايدن، ووزير خارجيته أنطوني بلينكن، الإشارة بشكل متكرر إلى حل الدولتين؛ يرى جونز، أنه لا توجد سياسة قابلة للتطبيق لتحقيق هذا الهدف، حيث إن الدبلوماسيين الأمريكيين يفتقرون إلى الخيارات، ولا يعرفون كيفية التعامل مع الطريق نحو حل سياسي دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ونتيجة لذلك -سواء كان ذلك عن عمد أو غير ذلك- أصبح الأمر بمثابة غطاء للسياسيين الغربيين للاحتفاظ بمظهر الالتزام بالسلام في الشرق الأوسط.
علاوة على ذلك، أشار جونز، إلى أن هناك قضية مهمة أخرى، تتعلق بواقع الدولة الواحدة، وسيطرة إسرائيل على الفلسطينيين، وهي الفكرة التي يتبناها العديد من المسؤولين والمعلقين الغربيين، والتي مفادها أن الصراع التاريخي بين الطرفين استثنائي، ولا يمكن حله إلا من خلال المفاوضات المباشرة. ومع ذلك، هناك مجموعة من المعايير القانونية الدولية وهياكلها، بما في ذلك ما تتضمنه الأمم المتحدة، والتي لا ينبغي التغاضي عنها، مؤكدا أن الولايات المتحدة وحلفاءها قد اتبعوا هذا النهج لدعم إسرائيل.
من جانبه، وافق تلحمي، على أن الحكومة الأمريكية ليست مجرد مراقب للأحداث، التي توجه دبلوماسيًا، بل هي في الواقع من تُمكّن إسرائيل –في الماضي، والحاضر، والمستقبل- على فعلها، وعليه، فإن من يحتاجون أكثر إلى التوعية حول واقع الدولة الواحدة التي تفرضها إسرائيل على الشعب الفلسطيني هم صانعو القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، الذين يستمرون في تقديم الدعم السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري غير المحدود لإسرائيل، بينما تنتهك حليفتهم بشكل متكرر ومن دون خجل القانون الدولي وحقوق الإنسان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك